منذ رفرفت راية الإسلام عالياً، بين مكة والمدينة، وراحت تتوسع وتنتشر لتعمّ أجزاء واسعة من الكوكب الأزرق وتصل حتى الصين ، ومنذ استطاعت دعوة النبي العربي أن تلهم ملايين البشر على اختلاف أجناسهم وميولهم وثقافاتهم وطبقاتهم، ومنذ خلخلت صيحة (الله أكبر) عروشاً ظالمة ،وأسقطت تيجاناً مستبدة، تميز الإسلام بأنه دعوة صالحة لكل مكان وزمان، وبأنه دين سمح رحب، يتسع لجميع الناس ،ويستوعب جميع الناس ، حتى أولئك الذين اختاروا طريق أخر غير طريقه، وشاءوا سبيلا أخرى غير سبيله. وهكذا تمازجت في كنف الإسلام على امتداد عصوره ،منذ فجره إلى صدره، حضارات وثقافات وتلاقحت أفكار ورؤى، وأعطى المسلمون العالم أجمع إسهامات بارزة ومؤسِسة (بكسر السيين) في العلم والطب والفلك. ولعل هذه الإسهامات ما كانت لتكون لولا أن كتاب الله عز وجل وأحاديث رسوله الشريفة، وسنته، استطاعت استيعاب كل ما سبق من معارف وعلوم ، ومن أفكار وثقافات ،كما استطاعت هضمها واستخلاص ما يصلح منها لزمن جديد بدأ في غار حراء. لم يلغ الإسلام الأخر، ولم يُدنه ،ولم يحكم عليه بالإبادة، بل أستوعبه وحاوره وساجله وناقشه ولم يجادل إلاّ بالتي هي أحسن ، ورفع عالياً مقولة (لا إكراه في الدين) . ويحفل القرآن الكريم ، وتحفل السنه النبوية الشريفة ، وتفحل أحديث الائمة والصحابة ، بالأقوال والمواقف التي تحض على الحوار والنقاش وعلى الاعتدال والرحابة والسماح والانفتاح. وأي قارئ للتاريخ الإسلامي سوف يجد آلاف الأمثلة والشواهد على قدرة الفكر الاسلامي والفقه الاسلامي ، والعقل الاسلامي ، على استيعاب الأخرين، والانفتاح عليهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن والتعايش معهم في سلام ووئام ومحبة (( طبعاً المقصود بالأخرين هنا ، أصحاب الافكار والايديولوجيات والطروحات المختلفة، لا المحتلين أو المستعمرين أو المعتدين الذين وجب قتالهم ووجب الاستعداد لهم بكل ما أوتينا من قوة ورباط خيل، ورباطة جأش)). هذه الصورة البهية المشرقة للإسلام ،يكاد يطمسها البعض اليوم، نتيجة الجهل والغباء وضيق الأفق، حيث يعجز هذا البعض عن فهم العمق الإنساني للرسالة الاسلامية بوصفها رساله لأجل الإنسان في كل مكان ، وفي كل زمان ، ويريد تضييقها إلى حدود ضيق أفقه نفسه. وهكذا نرى كل يوم نموذجاً مغلوطاً ومشوهاً لفهم الاسلام، يمثل في تكفير كل من يخالف ضيقي الأفق آراءهم، ونرى أشباه المتعلمين أو المتفقهين يصدرون الفتاوى الخاطئة التي لا تمت إلى الفقه الإسلامي بصلة، ونرى (الدعاة) وهم في الحقيقة منتحلو صفة، يشوهون الدعوة ويسيئون إليها ،مثلما بتنا نرى الانتحاريين الذين اخطأوا الطريق إلى الجنة بدلاً من أن ينشدوا الشهادة على أرض فلسطين ، أو في معسكر لقوات الاحتلال الاسرائيلي أو الامريكي أو أي احتلال، لأن كل احتلال بغيض مقاومته مشروعة وواجبه ضيعوا البوصلة، وذهبوا في اتجاه الاسواق الشعبية والتجمعات السكانية ، وباتوا يقتلون بني جلدتهم وإخوتهم في الوطن والدين، بينما الدين منهم براء وكذلك الوطن. من يعيد للإسلام صورته البهية ؟ من يزيل عن وجهه لثام التعصب الأعمى؟ من يجرؤ على التجديد في الفكر الاسلامي وفي الفقه الاسلامي وفي العقل الاسلامي؟ من يأتينا بأمثال شيوخنا الأجلاء من مصلحين كبار وفقهاء عظماء؟ من يسترد الإسلام من سارقيه؟