المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    إصابة ثلاثة أطفال جراء انفجار مقذوف من مخلفات المليشيات بالضالع    نخبتنا الحضرمية... خط أحمر!    ضبط 54 متهمًا في قضايا جرائم جنائية    أول قيادي مؤتمري موالي للحوثيين بصنعاء يعزي عائلة الشيخ "الزنداني" في وفاته    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    ليس وقف الهجمات الحوثية بالبحر.. أمريكا تعلنها صراحة: لا يمكن تحقيق السلام في اليمن إلا بشرط    الحوثيون يراهنون على الزمن: هل ينجحون في فرض حلولهم على اليمن؟ كاتب صحفي يجيب    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في أخلاقيات الحوار بين الثقافات حول مبدأي التسامح وحق الاختلاف
نشر في الجمهورية يوم 13 - 04 - 2007


1 الحوار بين الثقافات ومبادرات إنعاشه
في هذه الدراسة نقترح مقاربة تحليلية نقدية، لإشكالية الحوار بين الثقافات في عالمنا المعاصر، ونستهل حديثنا في هذا المجال بالقول: إذا كانت المجالات التي يمكن أن تساعد على تنمية التبادل والتعاون بين الدول والشعوب متنوعة وكثيرة، فإننا نرجح أن يكون الحوار الثقافي في معناه الأوسع؛ أي التبادل والتعاون في المجالات الثقافية المختلفة، هو الأكثر ملاءمة لتعبيد الطرق أمام باقي أشكال التعاون الأخرى؛ ذلك لأن هذا الضرب من الحوار يقوم، من الناحية الأخلاقية النظرية على الأقل، على مبدأ التساوي بين الثقافات المتحاورة من حيث القيمة المعنوية، ومن ثم على مبدأ التكافؤ بين الشعوب المنتمية إليها، وهو من هذا المنظور يشكل بديلاً حضارياً للغة الصراع والعنف السائدة حتى الآن.
ويجمل بنا في البداية التوقف لحظة عند مفهوم «الحوار» لفحص مايمكن أن يحمله من دلالة خاصة في المجال الثقافي، نعلم أن كلمة «حوار» في اللغة العربية تدل على الحديث أو الجدال الذي يدور بين شخصين أو أكثر، وهي تستعمل في الأدبيات العربية المعاصرة، كمقابل متوافق عليه لكلمة «Dialogue»، المتداولة في اللغات الأوروبية، ومعلوم أن أصل هذه الكلمة الأجنبية ينحدر من اللغة اليونانية، وهو فيها مشتق من فعل يدل على الحديث وعلى الجدال، وحسب اطلاعنا المتواضع، يبدو أن أول استعمال معروف لهذا اللفظ، قد ظهر في الفلسفة اليونانية القديمة، وبصفة خاصة في الخطاب الفلسفي عند ثنائي مدرسة أثينا المشهور، ونعني هنا أفلاطون وأرسطو.
وعن الدلالة العامة لهذه الكلمة في سياقها اللغوي الأصلي نقول: إنها لاتشير فقط، كما هو شائع، إلى حديث يجري بين شخصين، بل تعني كذلك المشاركة في حديث ذي طبيعة جدالية أساساً، يدور بين شخصين أو أكثر، ويفترض أن الغاية المتوخاة منه هي السير معاً في طريق التعقل والفهم والتفهم والتفاهم، والبحث بقدر الإمكان عن نقط التقارب والتوافق والتراضي، استئناساً بهذا المعنى يصبح الهدف الأساسي المراد من الحوار، هو التقدم معاً خطوات إلى الأمام، رغبة في الكشف عما ينطر إليه على أنه الحقيقة عينها، من خلال ماقد يحجبها من رواسب التعصب والتنكر والتعتيم، وحري بنا هنا أن نعترف بأن الحوار بين الثقافات لايسلك دائماً هذا الطريق المثالي من حيث استقامته ومعقوليته، فالعلاقات بين الثقافات في عالم اليوم غالباً ماتكون منسوجة من خيوط الوجدان والمتخيل، فضلاً عن أنها لا تتجلى فقط في أشكال شفافة من التثاقف والتفاعل الايجابيين، بل إنها لتأخذ في أحيان كثيرة شكل عدوى ثقافية إن صح هذا التعبير، عدوى تنتقل بسرعة، وتفلت غالباً من زمام التحكم والمراقبة.
هل يمكن القول، في هذه المطالع الأولى للألفية الثالثة، بأن الحوافز والشروط والإمكانات الكفيلة بخلق وتفعيل وانجاح مبادرات إقامة حوارات مثمرة ومستمرة بين الثقافات البشرية، تتوفر فعلاً؟ عند إمعان النظر في الأمر، يبدو أن ثمة عراقيل حقيقية تنتصب أمام محاولات إيجاد أرضية ومبادئ عامة لحوار ثقافي على الصعيد العالمي يقبل بها الجميع، والظاهر أن كل واحد من الكيانات الثقافية المتواجدة في عالم اليوم ، يتشبث بمنظومته المرجعية والقيمية الخاصة، بدرجات متفاوتة من التطرف، ويكاد يكون مستغلقاً ومغلقاً على نفسه، إلى حد يبدو فيه وكأن الاختلاف بين هذه الكيانات الثقافية، هو اختلاف جذري لاسبيل إلى تذليله أو تجاوزه، وأنه بدلاً من حوار ثقافي إيجابي ومنتج، لانجد في نهاية المطاف إلا التنافس وصراع المصالح، إلا لغة التعصب والعنف وإرادة التسلط وبسط الهيمنة، تطغى سراً وعلانية على العلاقات السائدة بين الكيانات الثقافية.
وحتى لو افترضنا إمكانية توفر حدود دنيا معقولة، من حوافز تفعيل الحوار بين الثقافات نظراً لما يتطلبه والمستقبل البشريين من تعاون وتبادل وتكامل بين الشعوب فلا يجب أن تغيب عن البال تماما، التغيرات الكبيرة والعميقة، التي طرأت على المجال العام للتبادل الثقافي على الصعيد العالمي، لقد كبر العالم واتسع، كما تكونت فيه مجموعات وتكتلات معقدة من العلاقات والمصالح المشتركة.
وفضلاً عن ذلك فإن ظاهرة العولمة الثقافية، لم تعد تسمح بأن يستمر تطور المبادلات الثقافية بالصدفة، أو بشكل إرادي وحر، بل إنها غدت تفرض على مختلف الكيانات الثقافية اختياراً حاسماً:
إما الاندماج والانصهار التدريجي، في منظومة جديدة من قيم ومبادئ مايسمى بالنظام العالمي الليبرالي الجديد، وإما التقوقع والانكماش، المفضيان مع مرور الزمن إلى العزلة القاتلة، كيف يجوز لنا والحالة هذه، وأمام هذه المعطيات، رعاية الأمل في إمكانية نجاح مبادرات الدعوة إلى قيام حوار بين الثقافات البشرية المختلفة، مؤسس على التكافؤ والعدل، في زمن صارت فيه العولمة بهذا المعنى تضبط ساعاته ودقائقه، وفي هذه الفترة التاريخية بالذات، التي تتعالى فيها من جديد أصوات مذكرة بالتفوق العرقي والثقافي، ومنذرة بحتمية صراع الثقافات؟
وقبل الخوض في لب الموضوع، نود التذكير بأن جل المبادرات المعاصرة في سبيل مد الجسور الثقافية بين شعوب العالم، وإقامة حوارات بناءة بين الثقافات البشرية قد صدرت بالأساس من منظمات دولية أو بإيعاز منها، وفي طليعة تلك المنظمات توجد بالتأكيد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، فهذه المنظمة بالذات، هي التي أطلقت مبادرة من هذا القبيل في سنة 1999م، كما أنها هي التي رعت اقتراحاً يقضي باعتبار سنة 2001م، سنة دولية من أجل حقوق الإنسان والحوار بين الثقافات .. وإذا كانت لهذا الاقتراح جدة، فهي تكمن ربما في أن المبادرات السابقة تمت في ظرفية تارتخية كان شبح الحرب الباردة لايزال مخيماً عليها، كما أن النظام الدولي السائد آنذاك كان ثنائي القطبية، في حين أن المبادرة الجديدة جاءت في ظروف مختلفة تماماً، وعندما نفكر في هذه المبادرة بدلالة سياقاتها تلك، سنجد أنها في الواقع تعبير إنساني حضاري رفيع المستوى، يعد في تقديرنا واحداً من ردود فعل كثيرة أثيرت في أنحاء عديدة من العالم، على إثر اندلاع حرب الخليج الأولى، وظهور نظريات جديدة ومثيرة في الفكر السياسي الأمريكي المعاصر، تتوعد بقرب اندلاع حروب الثقافات.
وفضلا عن الكثير الذي قيل في شأن مبادرة اليونسكو المذكورة، فهي تتميز أيضاً بكونها جاءت في المطالع الأولى للألفية الثالثة، وهي حقبة خطت فيها البشرية بالتأكيد، خطواتها الأولى على عتبات عصر علمي جديد وفريد من نوعه، بدأ يؤثر في العالم بأسره، ويصعب التنبؤ بجميع نتائجه وتبعاته:إنه عصر الثورة المذهلة التي تعرفها حالياً ميادين العلوم وتكنولوجيات الاتصال الجديدة، وقد يكون مانشهده منها اليوم ليس إلا بداية البداية؛ إذ يبدو حسب افتراضات المتخصصين، أنها ستستغرق عقوداً أخرى قادمة، والأمر الذي بات مؤكداً الآن، أن الجدران بين الثقافات أصبحت سهلة الاختراق، بفضل الآفاق الواسعة التي فتحتها هذه الثورة.
كما بات بمقدور أغلبية سكان المعمورة الوقوف على مفارقة غريبة:لم يحدث على الإطلاق من قبل أن كان لمثل هذا العدد الكبير من البشر، مثل هذا القدر الكبير من التواصل والأمور المشتركة فيما بينهم، كما لم يحدث أبداً من قبل، أن كانت الأشياء التي تفرقهم بهذه الدرجة من الوضوح، وتحت مفعول هذه الثورة، أصبحت الحقيقة التالية تبرز تدريجياً وتتأكد: إن رحابة العالم وتنوع الثقافات البشرية وثراءها، يستحيل تدبيرهما بالفكر الأوحد؛ وأنه لم يعد ممكناً ولا معقولاً ومقبولا، أن ينفرد أي جزء من البشرية، التي تعمر عالم اليوم، وحده بامتلاك صيغ لحلول عامة تنطبق على جميع الشعوب والثقافات، وهذا أمر من شأنه أن يبعث على نوع من الاطمئنان، ويوحي بأن خيار الحوار بين الثقافات أضحى ضرورة من ضروريات الحياة المعاصرة، فهل من شأن هذه الثورة العلمية الجديدة، أن تسهم حقاً في خلق فضاء جديد، وشروط ملائمة لتحفيز وتفعيل الحوار المأمول بين الثقافات البشرية، وجعلها تتفتح على بعضها، أم أنها على العكس من ذلك، قد تسير في اتجاه تعميق الهوة بينها، وتجعل الحوار ذا بعد واحد، تتحكم فيه الثقافة التي تبدو اليوم أكثر هيمنة من غيرها؟
لايساورنا شك في مدى الأهمية التي أصبح الحوار بين الثقافات يكتسبها في عالمنا المعاصر، بوصفه بديلاً حضارياً في مجال تنمية العلاقات بين الشعوب، بيد أننا في الوقت ذاته حريصون جداً على التأكد بأن للحوار بين الثقافات مبادئ وأخلاقيات، يتوجب توفرها ومراعاتها، في جميع المبادرات الرامية إلى إنعاشه وتفعيله وجعله مثمراً، وفي تقديرنا، أن هذا الحوار لكي يرسى على أسس سليمة ومتينة، ينبغي أن يقوم على مبادئ معينة بالذات نحصرها في ثلاثة يبدولنا أنها هي الأهم، ونعني بها: التسامح، الاعتراف بحق الاختلاف الثقافي، وممارسة النقد والنقد الذاتي، ومن المفيد النظر إلى هذه المبادئ واحداً واحداً.
2 الحوار بين الثقافات ومفهوم «التسامح»
بخصوص المبدأ الأول نذكر بداية، بأن الكلمة العربية «تسامح» لها معان اشتقاقية معروفة ومثبتة في أشهر القواميس، ولانبتدع جديداً عندما نقول:إنها، في مجملها، تلتقي عند أفكار لاتبعد كثيراً عن معاني الصفح والجود والتساهل وغض الطرف بيد أن بإمكاننا اليوم أن نلاحظ أن الكلمة عينها تتداول في أدبياتنا العربية المعاصرة للدلالة على فكرة احترام ثقافة الآخرين وعقائدهم ،ونحن نميل إلى افتراض أن هذه الدلالة، حديثة العهد نسبياً في فكرنا ولساننا العربي، وفي السياق نفسه نشير إلى أن كلمة «تسامح» تتداول أيضاً في لغتنا العربية بوصفها مقابلاً وترجمة للكلمة الفرنسية وهي كلمة وإن كانت معروفة من قبل في اللغة اللاتينية، فإن استعمالها قد راج كثيراً في اللغات الأوروبية منذ سنة 1561م، وبصفة خاصة ضمن خطابات حركة الإصلاح الديني والمسيحي، وغيرُ خافٍ أن النشأة التاريخية لهذه الخطابات ترجع إلى حقبة الحروب الدينية المذهبية الرهيبة التي اندلعت بين المسيحية الكاثوليكية، المهيمنة آنذاك، والمسيحية البروتستانتية الفتية، وهي حروب أدت، كما يذكر التاريخ، إلى تمزيق دول وشعوب أوروبا الغربية خلال فترة طويلة، والظاهر أن الحمولة الدلالية الدينية والأخلاقية التي علقت بالكلمة في تلك الفترة، قد ساعدت على تليين المواقف، والتخفيف من حدة الصراع بين أشياع المذهبين الرئيسيين في المسيحية الأوروبية في ذلك العصر، وعلى الرغم من كون المفهوم الحديث «للتسامح» قد ظهر ونشأ واستخدم في الحقل الدلالي الديني كما هو واضح، كما أريد من خلاله مواجهة مظاهر الاستبداد والتعصب والتطرف في العقائد،فإنه مالبث مع مرور الزمن، أن اكتسب دلالات أخرى جديدة،ذات أبعاد فلسفية وسياسية وحقوقية3.
ولعل التساؤل الذي يهم بحثنا أكثر من غيره، هو التساؤل عن الدور الذي يمكن أن يكون لمفهوم التسامح، في مجال دعم قيم التعددية الثقافية والحوار بين الثقافات،وغير خافٍ علينا أن المفهوم يعني من جملة مايعنيه، أن «تتحمل» ثقافة معينة ثقافة أخرى مختلفة عنها، وتقبل التعامل معها، بالرغم مما قد تراه فيها من عيوب وانحرافات»، ونحن نفترض أن التسامح بهذا المعنى ليس كافياً كمبدأ لانجاح الحوار الثقافي في عالم اليوم، إن لم نقل: إنه بات يشكل عرقلة حقيقية أمامه، إن البشرية تتطلع اليوم إلى أن يكون لمفهوم التسامح، في مجال الحوار بين الثقافات، دلالة أقوى وأكثر إيجابية: أن يفهم منه على أنه مجهود يتوجب على كل ثقافة أن تبذله، من أجل الانفتاح على الثقافات الأخرى، وإقرار من طرف كل ثقافة بوجود أمور يمكن تعلمها من الثقافات المختلفة عنها، وبوجود حقائق وقيم ومظاهر ثقافية مختلفة عما ألفته وتتبناه وتعتنقه، إن التحلي بهذه النظرة الإيجابية، يعني بالنسبة إلينا استبعاد المواقف السلبية، التي تنظر إلى التسامح على أنه جود أو منة، أو أريحية من الطرف الأقوى نحو الطرف الأضعف، وفي نهاية المطاف الاعتراف الصريح بحق المغايرة والاختلاف، هكذا فقط يمكن لمبدأ التسامح في نظرنا أن يسهم فعلياً في إيجاد أرضية معقولة للتعايش السلمي بين الثقافات،وفي دعم مبادرات الحوار بينها، من أجل مواجهة مظاهر الكراهية والتهميش والنبذ والاقصاء، تجاه المنتمين إلى مجتمعات وثقافات معينة.
ومما يحمل على التفاؤل حقاً ، أن عناصر من هذا المضمون الايجابي لمفهوم التسامح قد تم تبنيها وإدراجها في وثيقة «إعلان مبادئ حول التسامح» الصادرة عن منظمة اليونسكو، في سنة 1995م ،وبالفعل بإمكاننا أن نقرأ في البند الأول من هذه الوثيقة:«إن التسامح هو الانسجام داخل الاختلاف، ويتجلى ذلك في تقبل مظاهر الغنى والاختلاف في الثقافات البشرية التي يزخر بها عالمنا، وكذلك في احترام وتقدير جميع الأشكال والأساليب التي يتم بواسطتها التعبير عن خصائص الوجود البشري، إن التسامح يتعزز بالمعرفة، وبالتواصل، وبالانفتاح الفكري، وبالإيمان بحرية التفكير والاعتقاد، وليس التسامح مجرد إلزام أخلاقي وفضيلة مثلى، الغاية منها إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب؛ بل إنه ليعد كذلك ضرورة قانونية وسياسية، وفي هذا السياق يجب ألا أن ينظر إلى التسامح على أنه منة وتنازل أو مجاملة، فهو قبل كل شيء موقف إيجابي يتلخص في الاعتراف بالحريات الأساسية للآخرين، وبأنه لا حق لأي إنسان في أن يفرض آراءه على غيره»4.
وعن هذه الدلالة الإيجابية لمفهوم التسامح، بمقدرونا القول: إنها قد تغتني أكثر، عندما يراعى في التعامل بين الثقافات، احترام القاعدة الأخلاقية نفسها التي سنها الفيلسوف الألماني إمانويل كانط، في منظومة فلسفته الأخلاقية، وهي قاعدة يبدو أن الفيلسوف قد رمى من خلالها إلى ضبط وإخضاع العلاقات والتعامل بين البشر، لإلزامات وأوامر أخلاقية، ذات طابع عقل كلي وصارم، فإذا قمنا بتحوير صيغة هذه القاعدة المعروفة واستبدلنا الإنسان فيها بالثقافة، جاز لنا القول:ي« يجب على كل ثقافة أن تعامل الثقافات المغايرة لها، وكذلك المنتمين إليها كغاية لا كوسيلة، وبمثل ماتحب أن تعامل به»،وفي السياق ذاته بإمكان هذه الدلالة الإيجابية لمفهوم التسامح أن تتقوى أكثر، إذا عززناها بمضمون عبارة مشهورة للفيلسوف الأندلسي ابن رشد، بعد أن ندخل عليها تعديلاً طفيفاً «من العدل أن تأتي كل ثقافة من الحجج لخصومها بمثل ما تأتي به لنفسها، أي أن تجتهد كل ثقافة في طلب الحجج لخصومها بقدر ماتجتهد في طلب الحجج لنفسها، وأن تقبل من خصومها النوع نفسه من الحجج الذي تقبله لنفسها»5.
وبإيجاز نقول: إن مفهوم التسامح كماهو متداول في الفكر الأخلاقي المعاصر قد اكتسب دلالة جديدة أضحى من خلالها ينحو إلى أن يصبح قيمة أخلاقية وقانونية عالمية، قوامها احترام المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، والإقرار بالحريات الأساسية للآخرين، وبحقوق الاختلاف الثقافي ونلاحظ في هذا السياق أن المفهوم قد ورد واستخدم مرات عديدة، في مواد وبنود الإعلانات والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان، هذا فضلاً عن أن مضامينه الجديدة تتسع الآن لتصبح جزءاً من ثقافة عالمية يسهم فيها الجميع، وهي ثقافة تسعى إلى اقتراح الشروط الأخلاقية العامة، التي من شأنها أن تسهم في تحقيق التعاون والتعايش السلمي بين الشعوب.
ولهذه الاعتبارات جميعا نقول: إن ثقافتنا العربية الإسلامية أضحت في حاجة ماسة إلى احتضان المضامين الجديدة لمفهوم التسامح، التي غدت من الشروط الواجبة لإنجاح الحوار بين الثقافات، وللوقوف على حقيقة الطابع النسبي لجميع الكيانات الثقافية المتواجدة في عالم اليوم، رغم ماقد يكون لبعضها من تاريخ تليد، وعطاءات إنسانية جليلة، أما الاعتقاد بأن ثقافة معينة بالذات تملك وحدها الحقيقة دون سائر الثقافات الأخرى، وتضم وحدها القيم الأخلاقية السامية دون سواها، فإنه يفضي بالضرورة إلى التعصب الأعمى والاستبداد على الصعيد العالمي، وتصل في نهاية المطاف إلى رفض الفكر الآخر جملة وتفصيلاً، وهذه مناسبة للتذكير بأن المنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية، إذا كان من حقهم الاعتقاد بأن منظومتهم هي من أعرق وأغنى المنظومات الثقافية في العالم، فينبغى ألا يكون ذلك مبرراً للانسياق مع الادعاء بأن الثقافات البشرية الأخرى أقل شأنا، أو مجرد أصداء ونسخ باهتة من ثقافتهم، كما يتوجب ألا ينتظروا من الآخرين اعتناق واتباع قيمهم الثقافية الخاصة،ومن المفروض أن يكون واضحاً لجميع الأطراف أن الحوار العقلاني السليم والإيجابي بين الثقافات كما نتصوره، هو غير الدعوة وغير التبشير.
3 الحوار بين الثقافات و«الحق في الاختلاف»
نصل الآن إلى تحليل مبدأ «الحق في الاختلاف الثقافي » وهو مبدأ ينتمي إلى مبادئ الجيل الثالث لمنظومة حقوق الإنسان، المتعارف عليها عالمياً 6،وهي مبادئ تعترف صراحة لجميع الثقافات البشرية بكونها متعادلة ومتساوية، وكما فعلنا بالنسبة لمفهوم التسامح، نحرص هنا أيضاً على إعطاء مبدأ الحق في الاختلاف الثقافي، ما نرى أنه المضمون السليم والإيجابي، الذي يسهم في تنمية روح التعاون بين الشعوب، والحوار المثمر بين الثقافات، وإرساؤه يشكل دعامة متينة للنظام الديموقراطي على الصعيد العالمي، إن الإقرار العالمي بهذا المبدأ، يعني القبول بحقيقة بات من الصعب تجاهلها وغض الطرف عنها في عالمنا المعاصر: حقيقة أن الاختلاف والتنوع بين الكيانات الثقافات المتواجدة في العالم هو ظاهرة تاريخية واقعية وملموسة، وبناءً عليه، فإن الحديث عن أخلاقيات الحوار بين الثقافات، إذا أريد منه أن يكون بناء، فإنه يتطلب الوعي بأهمية ظاهرة الاختلاف بوصفها إحدى الخصائص الأساسية للمجتمعات البشرية، كما يتطلب الوعي بأن الاختلافات توجد حتى داخل المجموعات الثقافية التي تربطها علاقات القرابة أو الجوار، بل حتى داخل الكيان الثقافي الواحد الذي يفترض أنه متماسك ومتجانس،فلا نعرف ثقافة بشرية واحدة خلت من شوائب التعدد،ولذلك أصبحت تؤلف وحدة منسجمة تمام الانسجام، فداخل كل ثقافة، ومهما عظم شأنها، توجد اختلافات ومتغيرات عديدة، تعطي الانطباع في كثير من الأحيان بأنها جذرية ومستعصية على كل توفيق، والتاريخ نفسه يذكرنا أن كثيراً من الحروب الدموية الكبرى اندلعت بين دول تنتمي إلى الثقافة الأم نفسها وها نحن نشاهد اليوم التناقضات الناجمة عن ظاهرة العولمة، وهي تتفجر داخل مجموعة الدول التي تنتمي إلى كيان الثقافة الغربية نفسها.
وعند إثارة مسألة اختلاف الثقافات البشرية وتمايزها عن بعضها، يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل المهم:هل من شأن الاعتراف بواقعية هذه الظاهرة، أن يفضى إلى القبول بفكرة أن جميع الثقافات متساوية ومتكافئة، وأن لها مبدئياً القيمة نفسها؛وأنها تتساكن وتتجاور وتتعايش في المكان رغم الاختلافات البينية فيما بينها؟
أم على العكس من ذلك، إن هذا الاعتراف يستدعي التسليم بكونها غير متساوية في القيمة، وبأنها متفاضلة من حيث مستويات الرقي والتقدم، وأنها بناءً على ذلك متعاقبة تراتبياً في الزمان؟
وبتعبير آخر، هل هذا الاعتراف يفضي بنا حتماً إلى تصنيف الثقافات بوصفها متفاوتة في القدر والقيمة والمراتب؛ وأن كل واحدة منها تحتل درجة معينة في سلم افتراضي للتطور والتقدم، تتدرج عليه المجتمعات البشرية خلال مسيراتها التاريخية، ويتألف من درجات عليا وراقية وأخرى دنيا ومنحطة؟
للتفكير في التساؤل السابق، علينا ألا ننسى أن ظاهرة الاختلاف والتمايز بين الثقافات، كثيراً ما استغلت وأولت من منظور ذلك السلم المعياري الافتراضي،وليس بالأمر الخافي أنه ألى عهد ليس بعيداً، ادعت زمرة من علماء الأنثروبولوجيا في الغرب، أن تعدد واختلاف وتنوع أشكال الثقافات البشرية، يعكس اختلافاً طبيعياً وواقعياً بين الشعوب وعقلياتها؛ وأن هناك تغايراً مطلقاً، يميز ثقافة المتحضرين عن باقي حضارات وثقافات المجتمعات البشرية الأخرى، ومن خلال هذا المنطلق تم الترويج لأطروحة ذائعة الصيت تقول بتفوق الثقافة الغربية، بفضل مايتميز به المنتمون إليها من خصوصيات وراثية سلالية وعرقية راقية؛ وانحطاط ثقافات بشرية أخرى وتخلفها، لعوامل وأسباب مماثلة، ومن المؤكد أن الأفكار المترتبة على هذا الموقف، قد أسهمت في جعل قضية التنوع والاختلاف بين الثقافات البشرية، تصبح ذريعة في يد دعاة التمييز العنصري، لتسويغ الاستعمار والهيمنة ، وازدراء الشعوب والثقافات المغايرة وتهميشها.
وثمة مفارقة غريبة في هذا السياق كشفت عنها دراسات باحثين غربيين معاصرين، ومفاد هذه المفارقة أن العقل الغربي، بمقدار ما يدعو إلى ضرورة الاعتراف بالطابع العالمي والكوني لمفاهيم معينة مثل المساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي عموماً مفاهيم من بنات ثقافته وحداثته، بمقدار مانراه يسجن نفسه في خصوصيات هويته الثقافية الضيقة، ومن ثم يتمادى في إصراره على إقصاء وتهميش ثقافة الآخرين، إلى حد يبدو فيه وكأن الهوية الثقافية للغرب بصفة عامة، مسكونة دوماً بعقدة التفوق والاستعلاء على ماسواها من الهويات الثقافية الأخرى.
هذا رغم حرص الناطقين باسم الثقافة الغربية، على مخاطبة الثقافات الأخرى باسم قيم الحداثة والعلمانية والديموقراطية، ومن خلال شعارات ضرورة الانفتاح والحوار بين الثقافات، والظاهر أن هذه لاتنفك تلازم الثقافة منذ بداية الحقبة الحديثة، مع ما رافقها من اكتشافات جغرافية وحروب استعمارية ومن هذا الموقع الاستعلائي، تصر الدول الغربية المهيمنة في عالم اليوم، على مصادرة حق الآخرين في الاختلاف والاختيار، وعلى احتكار امتياز بلورة وصياغة القيم التي لها وحدها الحق في أن تكون كونية، وعلى نكران هذا الحق على غيرها من المنتمين إلى الثقافات المغايرة، وهكذا نراها تسعى بجميع الوسائل إلى فرض رؤيتها الثقافية الخاصة على أنها القانون الكوني الذي يتوجب تعميمه على العالم بأسره، وتبعاً لذلك فهي ترفض الاعتراف بأي نموذج حضاري وثقافي مغاير لها، لايستنسخ نموذجها، حتى وإن كان النموذج المقصى متفتحاً على القيم الإنسانية الجديرة بالتقدير في الثقافة الغربية، وعلى رأسها قيم الحداثة وحقوق الإنسان.
إن الغرب المتقدم، وعلى مابات يتضح للعيان باستمرار، يبدو وكأنه عاجز عن الاعتراف بالآخر، إذا لم يرجع هذا الآخر صورته المنتظرة منه، وأي خروج عن معالم هذه الصورة، ينظر إليه في أحسن الأحوال، على أنه ضرب من الاختلاف والمغايرة، قد يثير بعض الدهشة والاستغراب، ولكنه في نهاية المطاف يعتبر في عيون علمائه ونخبه السياسية والفكرية دليلا على التخلف والجمود ،إن لم نقل دليلاً على التمرد والعقوق،بيد أن من واجبنا كذلك الاعتراف بأن ثمة فئة مستنيرة، من علماء الغرب ومفكريه، كانت لها نظرة مختلفة للأمور، فقد رفضت المواقف السابقة بصراحة وشجاعة قل نظيرهما، واستبعدت احتمال وجود أية علاقة ضرورية ومباشرة، بين ازدهار الثقافات البشرية وتقدمها، وبين مايزعم أنه تفوق وامتياز عرقي لشعب من الشعوب، كما أنها دافعت عن فكرة أن الازدهار الثقافي لايتحقق، في تاريخ المجتمعات البشرية، إلا حيث تتوفر هناك ظروف تيسر عملية انفتاح الثقافات على بعضها وتلاحقها، وأن التواصل والتعاون بين الثقافات البشرية يعد مصدرا للإثراء المتبادل، وأن الانكماش والعزلة يفضيان حتما إلى العقم والجمود الثقافي.7
نحن نؤمن بأن الاختلاف في الثقافات البشرية ظاهرة اجتماعية تاريخية وواقعية، تعبر عن طبيعة الحياة والحياة الاجتماعية ذاتها،مثلها في ذلك مثل التنوع البيولوجي، ظاهرة دائمة دوام الوجود على هذه الأرض، وأنها منبع وشرط تطور الحضارات البشرية، وهي دون شك عامل مهم في تجديد حيوية وخصوبة وتفتح المجتمعات على بعضها، إن الثقافات البشرية المتنوعة المنتشرة في أنحاء المعمورة، يدين بعضها البعض ربما بأهم مايملك، وكل واحدة منها هي في نهاية المطاف، حصيلة تلاقح وتمازج متعدد الجذور والمشارب ،وفي تقديرنا، أن الإبداع في المجال الثقافي،لايمكن أن ينمو ويزدهر في بيئة ثقافية معزولة ومنكمشة على نفسها، وإنما هو على العكس من ذلك يجد حيويته وخصوبته في تضافر وتفاعل العناصر المختلفة عن بعضها، وبإمكاننا مماثلة اختلاف الثقافات باختلاف أزهار ونباتات حديقةما: قد تختلف في أشكالها وألوانها وروائحها، لكنها تشكل في مجموعها حديقة غناء واحدة، وتلك حقائق تستوجب منا التسليم بأن الحوار المثمر بين الثقافات،يتطلب الإقرار بمبدأ حق الاختلاف؛ وبقبول فكرة أن الثقافات المتحاورة تختلف عن بعضها في العادات وفي المعتقدات، وفي التصورات عن الإنسان والحياة والطبيعة والكون؛ وبألا جدوى في النهاية، من أن تحاور ثقافة ما ثقافة أخرى تماثلها معها في كل شيء ولا تختلف عنها في أي شيء.
إن مبدأ «احترام التنوع والاختلاف الثقافي»،قد ارتقى اليوم إلى مرتبة حق من الحقوق الأساسية للشعوب،كما أصبح معدوداً من بين الشروط الضرورية، لتنمية روح التعاون والإثراء المتبادل ، وحسن الجوار بين المجتمعات البشرية في عالم اليوم.
وقد كانت الغاية من إثباته هي الدفاع عن مبادئ العدالة والمساواة بين الشعوب وثقافاتها، وحماية عن الهويات الثقافية للشعوب، ومناهضة مظاهر الاستلاب الثقافي، وفي الوقت ذاته توفير درع قانوني لحماية ظاهرة التعدد والتنوع الثقافي في العالم،بوصفها مجالاً خصباً للتعاون، وإمكانية ديموقراطية بفضلها يمكن إنقاذ ثقافات كثيرة من التشوه والانحلال، وإذا كنا نعترف بأن المطالبة باحترام هذا الحق،تكون في كثير من الأحيان،تعبيراً عن صحوة المجتمعات المقهورة، التي لاتزال تعيش تحت نير الاستعمار والاحتلال والهيمنة، للدفاع عن كرامتها وسعياً إلى صيانة هويتها الثقافية، فلسنا إطلاقاً من دعاة تضخيم مبدأ حق الاختلاف إلى حد أن يجد المنتمون إلى ثقافة ما أنفسهم في نهاية المطاف مصابين بحالة من الفصام الثقافي، مستكينين إلى قيم خصوصية مرفوعة إلى درجة المطلق، ومتنازلين عن طموحات شعوبهم في تحقيق التحديث والعدالة والديموقراطية والتنمية.
4 الحوار بين الثقافات و«النقد الذاتي»
نعتقد أن المجتمعات البشرية، مهما حرصت على أن تظل وفية لقيمها الثقافية في أصولها وأشكالها العريقة، فمن الصعب عليها، إن لم نقل من المستحيل، أن تظل قادرة على الاستمرار في الحياة إلى الأبد، خاضعة لسلطة تأويلات وحيدة وجامدة لتلك القيم، أن تستمر رافضة الاعتراف بقوة سلطة الزمن وعوارضه والتاريخ عليها.
ومن المؤكد تاريخياً أنه خلال حقب زمنية قد تطول أو تقصر، تظهر عوامل وظروف قد تبدو غير متوقعة ومفاجئة، ترغم المجتمعات البشرية على القيام بعملية محاسبة ومراجعة نقدية للذات، وعلى الاجتهاد من أجل ابداع تأويلات أخرى لقيمها تمكنها من تجديد تساؤلاتها، وإعادة سبك وصياغة أجوبتها، وفي نهاية المطاف من استعادة التوازن المختل، بفعل تحديات داخلية أو خارجية ،بيد أن هذا التوازن الجديد لن يعمر بدوره إلى مالانهاية له، إن الرؤية التاريخية والواقعية والحكيمة للأشياء، تكشف لنا أن مسيرة التاريخ البشري لاتتوقف، وأن الواقع المادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات البشرية يوجد في حالة صيرورة وتغير مستمرين، حتى إن بدا ساكناً أو بطيء الحركة،ومن منظور هذه الصيرورة، فإن الحالة الطبيعية والسويه لأية ثقافة، هي أن تظل قادرة على الحياة وعلى التطور في أجواء الانفتاح والتفاعل والتبادل والحوار مع ثقافات أخرى؛ ومن ثم فإن كل ثقافة هي في نهاية الأمر عملية مثاقفة مفتوحة ومستمرة.
ولكن الأجواء العامة المتاحة، التي يمكن أن تجرى فيها الحوارات بين الثقافات تكون في كثير من الأحيان مرتعاً للأحكام المسبقة، وللتصورات الجاهزة عن الثقافة المغايرة، ومشحونة بالمشاعر الانفعالية السلبية تجاهها وتلك أمور تعيق بالتأكيد انطلاق الحوار على أسس سليمة ومتينة بيد أن الحوار عندما يستند إلى أخلاقيات يكون من مبادئها التسامح والاعتراف بالحق في الاختلاف، فإن ذلك قد يسهم فعلياً في تهيئة أجواء معنوية وفكرية ملائمة، تشجع على قبول مراجعة الآراء والمواقف القبلية، وممارسة النقد والنقد الذاتي، ونعتقد أن هذا المبدأ الأخير إذا احترم من كافة أطراف الحوار، ومورس بنزاهة وحسن نية، يمكن أن يفضي بكل طرف إلى الاجتهاد، من أجل تحسين معرفته بثقافة الطرف الآخر بقدر الإمكان، وإلى تفهم مرجعياتها القيمية ومراكز اهتماماتها وانشغالاتها، ومن ثم إلى إعادة النظر في الأحكام المسبقة التي يتبناها، والسعي إلى إصلاح الصورة المشوهة المكونة لديه عنها.
من خلال هذه المعطيات، ماذا يمكن أن يعنيه النقد والنقد الذاتي، بالنسبة للمنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية وهم، كمالايخفى الذين ترشحهم الأوضاع الحالية في العالم المعاصر وتوجهاتها في الأفق المنظور، ليكونوا المعنيين الرئيسيين بقضية الحوار؟ عند التفكير في فحوى السؤال، يحسن بنا لفت النظر إلى أننا نعتبر ممارسة النقد والنقد الذاتي في مجال الحوار بين الثقافات شرطاً أخلاقياً واجباً والإيفاء به كاملاً يستوجب في رأينا القيام بالعمليتين معاً: فالاكتفاء بالنقد وحده قد يقود في نهاية المطاف إلى تحميل الطرف الآخر مسؤولية تردي العلاقات وتفاقم المشاكل القائمة واستعصاء حلها، ومن ثم إلى السقوط في شباك مادرج على تسميته بعقدة المؤامرة كما أن الاقتصار على النقد الذاتي وحده، قد يفضي بدوره إلى «مازوشية» فكرية إن صح هذا التعبير، يكون من أعراضها تضخيم الشعور بالذنب، والالتذاذ بتأنيب الذات، والتقبل السلبي لجميع مايصدره الآخرون من أحكام، ويكيلونه من اتهامات.
وثمة ملاحظة يتوجب إبداؤها بصدد السؤال السابق، وتتعين في أن ثقافة النقد والنقد الذاتي، تبدو نادرة جداً في تراثنا الثقافي التاريخي، كما في حاضرنا السياسي والفكري، ولانكشف عن سر عندما نذكر بأن الأصداء القليلة التي نسمعها اليوم عن ثقافة النقد عندنا، هي أصداء خافتة وباهتة، وهي لاتكاد تتردد إلا في بعض فضاءات الفكر التنظيري الصرف، أو في ثنايا الخطابات الايديولوجية التعبوية، التي تتلبس أسلوب التفكير النقدي الحداثي ، أما عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة، التي لاتخفى على عيون الملاحظين، فنرجح أنها تؤول عموماً وفي مجملها إلى تعثر الفكر الديموقراطي وسوء حظه في بلداننا، حيث لايلقى فيها ترحيباً رسمياً صادقاً، ولانجاحاً معترفاً له عالمياً بالصدق وبالمصداقية، رغم كوننا في أمس الحاجة إليه ممايجعل مراصد الآخر، التي تخضعنا للمراقبة في الشاذة والفذة، تنظر إلينا باعتبارنا نشكل ظاهرة «الاستثناء» دون العالمين، في استعصائنا وفي مقاومتنا للمد الديموقراطي الذي يطال جميع أنحاء المعمورة.
وفي الإطار نفسه، هناك مسألة أخرى تستوجب الاعتراف الواضح بها وتتلخص في كون تأثيرات الثقافة الغربية الحديثة ومكوناتها، قد غزت ثقافتنا العربية الإسلامية منذ مايزيد على خمسة قرون، وهي لاتزال تكتسحها حتى اليوم ، وماعاد بالإمكان إنكار الخطر الكبير الذي أحدثه فينا ذلك الغزو أو إخفاؤه، فانعكاساته بادية بوضوح في جميع مناحي حياتنا، وإذا كانت الصورة التي تبدو راسخة، في الذاكرة الجماعية للمنتمين إلى الثقافة العربية والإسلامية عن الغرب، وخاصة منذ حقبة الحروب الاستعمارية وماتلاها، تظهره بكونه جيوشاً عادية غازية تحتل وتستعمر وتدمر وتنهب، ودسائس ومؤامرات تحاك للشعوب هنا وهناك، وثقافة مسكونة بعقدة الاستعلاء والتفوق والهيمنة، تحتقر وتدوس على قيم الثقافات المغايرة المغلوبة على أمرها، إذا كانت تلك هي معالم الصورة العامة التي نحملها في ذاكرتنا الجماعية عن الغرب، فينبغي ألا يفضي بنا ذلك إلى نسيان أن ملاقاتنا التاريخية مع الغرب في جبهات متعددة، رغم ماسببته لنا من صدمات ونكبات وإهانات، قد فتحت عيوننا وجعلتنا نكتشف أن للغرب أيضاً ثقافة جديدة تحمل قيماً إنسانية مشتركة جديرة بالتقدير وآداباً وفنوناً وعلوماً نافعة وتكنولوجيا، وأن بعض مكونات تلك الثقافة يسرت لنا سبل إدخال إصلاحات مهمة في أنظمة الحكم والإدارة والتعليم والصحة عندنا، كما أتاحت لنا إمكانات للتعرف على العلوم الحديثة ومناهجها، وامتلاك مناهج علمية خصبة وناجعة لدراسة تاريخنا وتراثنا، وغير ذلك ممايدخل في مجال التحديث الثقافي والمجتمعي.
ومن باب المكاشفة الصريحة للنفس، يتحتم علينا الإقرار بأن عديداً من عناصر ومكونات الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة، أضحت واحداً من المصادر الأساسية في تشكيل وعينا العربي الحديث، وفي إثراء ثقافتنا العربية الإسلامية العالمة، في المجالات العلمية والأدبية، والفنية والفلسفية والسياسية والحقوقية وشئنا أم أبينا، ستظل بعض تلك العناصر حاضرة في ثقافتنا: حاضرة بوصفها نماذج إنسانية أثبتت جدواها وفاعليتها، كما ثبت أن ليس بمقدورنا الاستغناء عن الاستعانة بها في المرحلة الراهنة للتطور الحضاري البشري وإن نحن أردنا أن نكون حاضرين وفاعلين في زماننا فليس أمامنا والحالة هذه إلا أن نستوعب مغزى هذه الحقيقة الساطعة: إن التفاعل والتبادل بين الثقافات غدا ظاهرة موضوعية وعالمية لم يعد بالإمكان تجاهلها.
ولا وجود اليوم لحواجز قادرة على الصمود طويلاً أمام سرعة انتقال المعرفة والمعلومات والأفكار والقيم والمكتسبات الإنسانية الحالية ومن الحقوق المشروعة لشعوبنا الطموحة والحالة هذه ألا تبقى مستسلمة ومستكينة، وألا يبقى مستقبلها ومصائرها رهينة بيد تأويلات جامدة لقيمها ولتاريخها تأويلات يأبى المدافعون عنها أن يأتيها النقد والنقد الذاتي، لا من خلفها ولا من بين أيديها.
ذلك بعض ممايمكن أن يعنيه النقد والنقد الذاتي بالنسبة إلينا ولكن الغرب عموماً ممثلاً في أقطابه الكبار وإمبراطورياته العظمى ذات الماضي الاستعماري العريق، لايبادلنا مايقترب من رؤيتنا النقدية الذاتية، إلا في أحوال نادرة، وتلك حقيقة لاتزال تتأكد لنا من خلال القراءة المتأنية لما قاله وكتبه عنا رحالاته المستكشفون، وعلماؤه ومستشرقوه، وساسته ومنظرو ثقافته المعاصرون، والحق أنه باستثناء حالات نادرة فإن أغلب هؤلاء لم يقوموا بمراجعة جدية ومسؤولة لتصوراتهم السلبية المجحفة عن حضارتا العربية الإسلامية ولاتراجعوا كلية عن الأحكام السريعة والمسبقة التي أطلقها علينا أسلافهم جزافاً في عهود سابقة، ولاتزال أدبيات أحفادهم تزخر بها وتعيد إنتاجها، رغم أن زمانها قد ولى إلى غير رجعة.
ويمكن أن نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعينة نمطية من تلك الأحكام المشهورة التي لاتنفك تتناسل ويعاد إنتاجها في صيغ جديدة، منذ أن أطلقها أول مرة المستشرق الفرنسي المشهور ارنست رينان «1823 1892»: إن الغرب فعال، وعقلاني ومادي وواقعي، ويعيش في النسبي وزمانه غير قابل للتكرار وللإعادة، وهو يؤمن بالمستقبل وبالتخطيط له، وفي مقابل ذلك، فإن الشرق والأقطار التي تدور في فلك ثقافته، منفعل ووجداني، وغارق في الروحانيات والغيبيات والمقدروات، ومنظومته القيمية مطلقة وجامدة، وزمانه يكرر نفسه باستمرار.
وفضلاً عن ذلك، فإن الغرب نادراً ماتجرأ على الاعتراف صادقاً بأن للثقافة الإسلامية ديناً بيناً عليه ، حتى ولو كان يعود إلى حقبة سابقة من تاريخ تطور البشرية وحالته هاته تكاد تشبه حالة المريض النفسي، الذي يصر لاشعورياً على التنكر للذكريات المنفرة من ماضيه ومحوها ويتمادى بالتالي في نسيان جميع مايمكن أن يذكره بدينه لتلك الثقافة إن الغرب عموماً ورغم الحداثة التي يتغنى بها ويرفع لواءها، ورغم اتساع آفاق ثقافته وعلومه، يبدو وكأنه لايزال يحمل في أعماقه بعضاً من رواسب كراهية دفينة، تجاه ماكان يعتبره في حقبة تاريخية ماضية عدواً لدوداً له، ونعني بذلك الثقافة العربية الإسلامية والمنتمين إليها «8».
وينضاف إلى هذه اللوحة عنصر آخر يجب ألايغفل: أن المواطن الغربي عموماً يكاد يجهل تماماً الجوانب الإنسانية الايجابية والمشرقة في الثقافة العربية الإسلامية وفي ماضيها ومعرفته لهذه الثقافة لاتعدو أن تكون نتفاً منتقاة ومشحونة بمجموعة من الصور النمطية وجديدها إن وجد، يقتصر في أحسن الأحوال على أن لهذه الثقافة مشكلاً مزمناً مع اليهود الصهاينة في فلسطين، وأنها تربة خصبة للتطرف وما ينجم عنه، وأن القسم الكبير من البترول الذي يستهلكه الغرب يأتي من صحاري وبحار البلدان المنتمين إليها ولانستغرب والحالة هذه أن تزعجه ظاهرة الانتفاضة والصحوة السياسية التي تشهدها اليوم أغلبية الشعوب المنتمية إلى الثقافة العربية الإسلامية، كما لانستغرب أن يتضخم عنده الشعور بهذا الإزعاج وخاصة في زمن اشتداد التوتر والأزمات، إلى حد أن يتم الإفصاح عنه في نظريات مثل «صدام الثقافات» و«العولمة الديمقراطية» «9» والظاهر أن الأمر لايتوقف عند هذا الحد، فهناك عناصر أخرى يمكن إضافتها إلى هذه الصورة السلبية، التي يحملها المنتمون إلى الثقافة العربية والإسلامية عن الغرب، وتشاطرهم إياها بدون شك شعوب أخرى: إذا كان الغرب يظهر عقلانياً وعلمانياً وديموقراطياً داخل حدوده، فصورته خارج تلك الحدود مناقضة لذلك تماماً: فهو يحرص على الظهور وكأنه يمثل الثقافة العالمية الوحيدة التي تملك الحقيقة، وتملك بالتالي مؤهلات الانتشار في العالم بأسره أنه يحرص على الظهور وكأنه يملك النظام السياسي المثالي القادر وحده على تحقيق الخير والسلام لجميع شعوب العالم، وهو في نهاية المطاف يدير هذا العالم كما لو كان مجرد سوق كبرى أما نظرته إلى الثقافات الأخرى المغايرة له فتوحي في أحيان كثيرة وكأنها بالنسبة إليه، لاتعدو أن تكون آثاراً وأطلالاً عتيقة، صالحة فقط للفرجة وللحفظ في المتاحف.
ومادمنا نتحدث عن مواقف الغرب تجاه ثقافتنا العربية الإسلامية، وتجاه الثقافات المغايرة بصفة عامة، يكون من المفيد قبل ختم هذه الفقرة،التطرق ولو بإيجاز إلى مسألة أخرى طالما أجلنا إثارتها: هل لاتزال هناك مسوغات معقولة، للاستمرار في عقد الأمل على أن منظمة الأمم المتحدة في وضعيتها الراهنة، قادرة على قيادة شعوب وثقافات العالم إلى حوار مثمر وبناء؟ نحن نعلم أن أبواب هذه المنظمة مفتوحة مبدئياً وعلى قدم المساواة لجميع دول العالم، كما ليس بغائب عنا أن رفوف مؤسساتها مكدسة بالوثائق العديدة المصادق عليها، والمتعلقة بحقوق الإنسان والتعددية الثقافية والتنوع الثقافي والحقوق الاجتماعية والثقافية للشعوب ولاشك في أن الغايات الإنسانية النبيلة لتلك الوثائق وكذا مضامينها، لاتزال صالحة حتى للآن لتكون مرجعية قيمة يتوجب التشبث بها والدفاع عنها، رغم أنها كثيراً ماتكون عرضة للانتهاك، وفي غالب الأحيان لانشعر أن لها مفعولاً أو أثراً إلا على الورق ولقد أثبتت تجارب عديدة بالملموس أن مؤسسات هذه المنظمة أصبحت عاجزة تماماً عن تحقيق السلام والمساواة والعدالة في العالم، بسبب أنها تكاد تكون رهينة دائمة في أيدي القوى العظمى المهيمنة على العالم المعاصر، إلى الحد الذي بات يخيل إلينا فيه أن إقامة نظام عالمي ديموقراطي وعادل سيظل دائماً مطمحاً طوباوياً ولانملك هنا إلا أن نضم صوتنا بقوة إلى الأصوات المنادية بضرورة إدخال تعديلات جذرية على قوانين هذه المنظمة وعلى هياكلها، حتى تكون لها جدوى فعلية، وتصبح أكثر إنصافاً وديموقراطية.
5 خاتمة واستخلاصات
بات بمقدورنا الآن الخروج بالاستخلاص الآتي: لعل الحوار بين الثقافات هو الأرضية الأنسب للتحفيز على مبادرات التعاون في مجالات أخرى: وفي تقديرنا أنه من الصعب أن تتوفر مقومات نجاحه إذا كانت العلاقات بين المتحاورين غير متكافئة، وإذا لم يتم الإقرار الصريح بالإنسانية المشتركة والمتساوية بالنسبة للمنتمين إلى جميع الثقافات البشرية، وبصفة خاصة إذا ظل كل طرف من الأطراف المتحاورة مصراً على أن رأيه هو السلطة المطلقة، وأنه النموذج الكامل الذي يجب أن يحتذى ، وأن الطرف الثاني مغلوب على أمره، وأن الإنصات إليه هو من باب المجاملة فقط.
وفي نهاية المطاف إذا استمر كل طرف متشبثاً بأحكامه المسبقة عن الطرف الآخر، وواثقاً بأن الأفكار المغايرة لمنظومته المرجعية، هي بالضرورة أفكار خاطئة ومتخلفة.
لقد سعينا، من خلال ماتقدم من تحليلات إلى توضيح مسألة أن للحوار بين الثقافات مقوماته ومبادئه، التي بدونها لن يكون مفيداً ولا مثمراً ولا حتى ذا جدوى كما قمنا بحصر تلك المبادئ على الأقل في ثلاثة هي: التسامح، والحق في الاختلاف الثقافي، والنقد والنقد الذاتي ونضيف الآن أن بالإمكان تعزيز تلك المبادئ بعناصر أخرى، يمكن أن تزيد من فرص نجاح هذا المسعى الحميد ومنها ضرورة التحرر قدر الإمكان من النزعة السجالية والافتخارية ومن الرغبة في أن يكون الهدف الأول والأخير من الحوار الثقافي، هو تحقيق التماثل والتطابق التام في وجهات النظر المتحاورة ففي هذه الحالة سيكون من باب الأماني المستحيلة حقاً أن ننتظر من الثقافة الغربية أن تتطابق في يوم من الأيام مع تطلعات وتوجهات الثقافة العربية الإسلامية وتتماثل معها تماماً كما سيكون من باب المستحيلات الاعتقاد بإمكان حدوث معجزة تتحول معها الثقافة العربية الإسلامية إلى نسخة طبق الأصل من الثقافة الغربية، وماهو متاح في هذا المجال وممكن واقعياً التطلع إليه، هو تنمية أشكال مختلفة من التعاون على قدم المساواة، بين الثقافتين معاً ومع باقي الثقافات الإنسانية الأخرى، على أسس حقوق الإنسان والحقوق الثقافية للشعوب.
ومن المستحسن أيضاً الايقتصر الحوار بين الثقافات على الواجهة الدينية فقط وهي كمالايخفى الواجهة التي تسلط عليها الأضواء اليوم وترشحها لتكون الجبهة الأمامية للصراع والصدام بين الثقافات في عالمنا المعاصر فرغم الأهمية الكبيرة التي تكتسيها الديانات في حياة الشعوب، فهي في تقديرنا لاتستغرق جميع مكونات الثقافة أياً كانت لذلك يجب أن يمتد الحوار ليشمل مكونات ثقافية أخرى مثل الآداب والفلسفة والفنون والقيم الإنسانية المشتركة فمن شأن هذه المكونات أن تسهم بدورها وبفعالية متميزة، في إثراء الحوار بين المجتمعات البشرية، رغم ماقد يكون بينها من اختلاف في المعتقدات الدينية ومن العوامل الأخرى التي يمكن أن يكون لها دور مهم في التحفيز على الحوار الثقافي نذكر كذلك تربية الناشئة على حقوق الإنسان وعلى حقوق المواطنة وعلى أخلاقيات الحوار بين الثقافات، وفتح قنوات حوار بين النخب المثقفة، وتنمية التعاون بين الجامعات ومراكز البحث العلمي والمنابر الثقافية، وأخيراً فسح المجال أمام المنظمات غير الحكومية والمجتمعات المدنية بمكوناتها، لتكون شريكاً فعالاً في صياغة السياسات الثقافية، وفي تدبير الشأن الاجتماعي والثقافي والتربوي.
نود إنهاء هذه الدراسة بالقول بأن أهمية خيار الحوار بين الثقافات تتزايد، وأن كثيراً من أمم وشعوب العالم بدأت تعي أن الحوار أضحى من ضروريات الحياة في عالم اليوم من أجل التقريب بين الشعوب أو على الأقل للتخفيف من آثار الصراع والصدام المفروض عليها باستمرار وهي من أجل ذلك لاتتوانى عن اقتراح مبادرات جديدة في هذا المجال، ولعل آخرها، هي المبادرة التي تقدمت بها اسبانيا في سنة 2004م والتي تحمل اسم:« تحالف الحضارات» «10» والحق أن أمثال هذه المبادرات، وكذا الندوات العربية الكثيرة التي عقدت وتعقد حول هذا الموضوع، من المفروض أن تتوالى، ذلك لأن عالم الغد لايمكن تشييده فقط على مقولة حتمية الصراع والعنف المتبادل بين الثقافات البشرية نتيجة التقوقع في عقد التفوق والاستعلاء، ونتيجة النزوع إلى احتكار امتلاك الحقيقة وصياغتها ونشرها وتوزيعها فعالم من هذا القبيل قد يتحول إلى جحيم، إذا أصبحت الكيانات والمجموعات الثقافية المختلفة التي تكونه، عبارة عن شرانق مغلقة معزولة عن بعضها بعضاً، لاتتغذى إلا على الريبة والحقد، ولا تتنفس إلا على الحروب العدوانية والتطهير العرقي.
وعندما تعقد شعوب العالم آمالها اليوم على إمكانية إقامة «الحوار بين الثقافات» في ظل التراث الثقافي الإنساني الغني والمتنوع، واسترشاداً بالمثل الإنسانية العليا المشتركة، فليس ذلك جرياً وراء السراب، فتلك آمال يدعمها الوعي المتعاظم بالمخاطر التي تحدث بالبشرية وبمستقبلها فطبيعة الحوار الثقافي في هذه الظرفية التاريخية الحرجة التي يمر بها العالم المعاصر تجعله ضرباً من الصراع الفكري المسالم، وقد أصبح من واجب الجنس البشري المبادرة إلى خوض غماره من أجل البقاء وخاصة عندما لايكون هناك أمل كبير في إحداث تغييرات جذرية سريعة في طبيعة البشر.
وكما يقول الطبيب النمساوي سيجموند فرويد:« من العناصر النادرة التي تسمح دائماً للبشرية بمعانقة الأمل والتفاؤل، أن مامن شيء يستطيع أن يقاوم على المدى الطويل العقل والتجربة، وأن صوت العقل لابد أن يسمع في نهاية المطاف» «11».
حقاً إن الدعوة إلى تبني خيار حوار عالمي بين الثقافات، يجب أن تكون بالنسبة للمنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية بمثابة نضال ثقافي داخلي وعلى الصعيد العالمي.
ولكن علينا ونحن ندعو إلى إنعاش الحوار الثقافي وتفعيله، أن نعي بمدى وحدود فعالية هذا المفهوم، وأن نواصل هذه الدعوة بنظرة واقعية في حدود الممكن والمأمول منها، وألا يغيب عن بالنا أن المأمول منها لايمكن تحقيقه في حدوده الدنيا، إذا لم يتأسس الحوار المنشود على قيم العدالة والتضامن والاحترام الحقيقي والفعلي لحقوق الإنسان .. حقاً إن ثقافة الحوار هي الخيار الحضاري الذي يكاد يكون مفروضاً علينا في هذه المرحلة التاريخية، حتى لو كنا ونحن في غمرة تفاؤلنا الواقعي، نشعر في أعماقنا أن هذا الحل ليس بالمعجزة التي يمكن أن تحل جميع مشاكلنا الناجمة عن علاقاتنا مع الغرب وتذلل كافة العراقيل والصعوبات التي تعترض سبل مجتمعاتنا نحو التحديث والتنمية والتقدم.
1 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على نص القرار المذكور، في 4 نوفمبر 1998م ويمكن الاطلاع عليه بالرجوع إلى نشرة الأمم المتحدة بالفرنسية رقم 35 سبتمبر 1999م وكان هذا المنتظم الدولي قد وافق على تبني هذا القرار، على اثر نداء وجهه الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي من منبر الأمم المتحدة في شهر سبتمبر 1998م داعياً فيه إلى الحوار بين الحضارات والثقافات بدلاً من الصدام.
2 للمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع انظر دراستنا:« الخطاب عن حرب الثقافات» في الفكر الغربي: نماذج من الفكر الأمريكي المعاصر، في مجلة عالم الفكر،الكويت، عدد اكتوبر ديسمبر 2006م.
3 في اللغة الفرنسية مثلاً، نلاحظ أن الجذر اللاتيني لفعل (Tolerer) يحيل إلى شيمة التحلي بالصبر والقدرة على التحمل أما في لغتنا العربية فيبدو، حسب اطلاعنا أن جل المعاني الممكن اشتقاقها من جذر «سمح» تدور حول الصفح والجود والتساهل والأريحية، وبوسعنا أن نلاحظ في اللغتين معاً غياباً واضحاً لأفكار التفهم والاحترام المتبادل، والمساواة والتكافؤ والحق وهي الأفكار الأكثر بروزاً في الخطابات الجديدة عن مفهوم التسامح ومن الناحية التاريخية نذكر بأن هناك قرارين قانونيين أوروبيين يتعلقان بمسألة «التسامح» في المجال الديني: القرار الأول صدر سنة 311 ب.م في مدينة ميلانو بإيطاليا في عهد الامبراطور الروماني قسطنطين الأكبر «272 237» وقد سمح فيه ولأول مرة بممارسة العقيدة المسيحية في الامبراطورية الرومانية إلى جانب الديانة الرسمية القديمة، أما القرار الثاني فقد صدر في فرنسا سنة 1786م في السنوات الأخيرة من عهد الملك لويس السادس عشر، وعشية الثورة الفرنسية الكبرى وفيه سمح للمسيحيين البروتستانت بممارسة عقيدتهم الدينية إلى جانب الكاثوليك، وهناك أيضاً كتاب كلاسيكي مشهور حول مفهوم «التسامح» عنوانه: رسالة في التسامح، وهو للفيلسوف الإنجليزي جون لوك «1632 1704،John Locke» وقد تمت ترجمته إلى العربية من طرف المرحوم عبدالرحمن بدوي، والطبعة المتوفرة حالياً عنه هي طبعة دار الغرب الإسلامي بيروت 1988.
4 انظر:« إعلان مبادئ حول التسامح» الطبعة الفرنسية، منشورات منظمة اليونسكو، باريس 16 نوفمبر 1995م،ص 15.
5 من أجل الاطلاع على صيغ القواعد الأخلاقية الكانطية الثلاث نحيل إلى: إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبدالرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1965م . ص 6190 أما عبارة ابن رشد فقد وردت في كتابه: تهافت التهافت، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة 1980م ص 369 وهذه صيغتها الأصلية:« ومن العدل كما يقول الحكيم ارسطو أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل مايأتي به لنفسه، أعني أن يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه، وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه..» حول هذا الموضوع نحيل إلى محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1997م، ص23.
6 إن مصطلح «الجيل الثالث من حقوق الإنسان» يدل حالياً على النصوص الحقوقية الصادرة بعد الإعلان العالمي لسنة 1948م ومنها بصفة خاصة «الميثاق العالمي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب» الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1966م وكذلك «الإعلان العالمي حول التنوع الثقافي» الصادر في باريس عن منظمة اليونسكو في نوفمبر 2001م.
7 بإمكاننا أن ندرج ضمن هذا التوجه مجموعة من النظريات في علم الاجتماع، ظهرت في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقصد أصحابها منها إلى التبرير الاستعمار والهيمنة منها: نظرية عالم الاجتماع الفرنسي ليفي برول «1939 1857م» حول «العقلية العلمية والعقلية البدائية» وكذلك نظريات «الداروينية الاجتماعية» التي ظهرت في حقل علم الاجتماع، في النصف الثاني من القرن التاسع، من ممثليها البارزين الفيلسوف الانجليزي هربرت سبنسر 1820، Herbert»،1903» وقد اشتهرت بمحاولتها نقل نتائج نظرية التطور لشارل داروين، وتطبيقها في ميداني الأخلاق وعلم الاجتماع وبالنسبة للموقف الذي تعبر عنه الفئة المستنيرة المذكورة هناك بصفة خاصة عالم الأنثروبولوجيا الثقافية الفرنسي كلود ليفي ستروس، وكذلك المؤرخة الفرنسية ذات الأصل التونسي صوفي بسيس، يراجع في هذا الصدد:
- cl aude Levy - Strauss, Race et histoiro, Paris, Gothier, 1977,sophie Bessis IOcClaude Levy - Strauss, Race etcident et les autres, Histoire dune suprematie, La confiscation de I,universel, Paris, Editions La Decouverte,2001.
8 تراجع هنا أعمال ندوة: الحوار العربي الأوروبي: العلاقات بين الحضارتين العربية والأوروبية، هامبورغ، 11 16 ابريل 1983م الطبعة العربية، ص78 262.
9 نلاحظ أن مصطلح «العولمة الديموقراطية» يؤلف بين مفهومي «العولمة» و«الديموقراطية» والظاهر أن المقصود من ذلك التعبير عن مطلب أن تصبح العولمة، في أبعادها العميقة، ديموقراطية عالمية تتأسس على التعاون في المجال الدولي، وعلى احترام حقوق الإنسان والحقوق الثقافية للشعوب بيد أن هذا المصطلح يتداول حالياً بمعنيين مختلفين: 1 المعنى الأول هو الأسبق زمنياً والأوسع انتشاراً، ويتلخص في شعار يرفعه تيار عالمي إصلاحي ينتقد باعتدال مظاهر العولمة، ولايدعو بتاتاً إلى إيقافها أو تغيير مجرها، إنما يطمح إلى أن تكون أكثر ديموقراطية، وقادرة على الإسهام في نشر قيم الديموقراطية وتعميمها، وفي تحقيق نظام عالمي عادل يتم فيه احترام فعلي للإعلانات والمواثيق العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان وتشتغل فيه المنظمات الدولية بكيفية ديمقراطية، وتقوم بأدوار رئيسية فعلية وفعالة.
2 المعنى الثاني الذي يعنينا مباشرة يتعين في نظرية ايديولوجية متداولة في الفكر السياسي الأمريكي المعاصر، يدافع عنها صقور تيار المحافظين الجدد، وهو كما نعلم التيار المهيمن حالياً على مراكز القرار في الولايات المتحدة الأمريكية تدعو هذه النظرية إلى ضرورة «عولمة الديمقراطية» أي العمل على نشر قيم الديمقراطية والحرية في العالم بأسره، عن طريق اللجوء إلى استخدام القوة والحروب الوقائية عند الاقتضاء لفرض تلك القيم التي عجزت النظرية الأممية التعددية عن تكريسها، عن طريق القانون الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة ومن الأهداف المستعجلة التي سطرها مهندسو هذه النظرية إنجاز «مشروع الشرق الوسط الكبير» وفرض «إصلاحات ديمقراطية» في العالم العربي والإسلامي، ومحاربة الأنظمة الديكتاتورية المستبدة التي تحكمه، وإقامة دول متحضرة مكانها تكون موالية للغرب، وكما هو واضح فإن الأمر يتعلق بمشروع امريكي استراتيجي بعيد المدى، هدفه الأول والأخير هو الغزو والاحتلال والتوسع والإطاحة بالدول وحماية المناطق البترولية، ومحاربة الثقافات التي «تحث على الإرهاب» وكل ذلك تحت راية عولمة الديمقراطية وحقوق الإنسان، من أقطاب هذه النظرية المعروفين:
Richard Norman Perle, Paul Dundes Wolfowit
لمزيد من المعلومات حول «المحافظين الجدد» و«العولمة الديمقراطية» نقترح الرجوع إلى مقال مهم منشور في الجريدة الفرنسية «لوموند»:
- Qui sont ces neoconservateurs? dans l,article:"Le stratege et le philosopheس, Le Monde, numero du 15.04,2003.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.