لم يدرك ركاب الطائرة ، المتجهة صوب سوريا ، أن الرجل الجالس على المقعد رقم (12) بجوار النافذة (إرهابي) ، وبينما كان الجميع منهمكاً بتناول وجبة العشاء الشهية ، باستثناء من ظل يسترق نظرات الإعجاب بالمضيفة الحسناء ، كان هو مستغرقاً في أفكاره ، يتمتم الآيات والأناشيد (الجهادية) التي ودعه بها الشيخ (الأفغاني) على أرض المطار ، وفي كل مرة كانت تقع عيناه على (الحسناء) كان يبتسم مغمضاً عينيه ، فعما قريب سيكون في الجنة ، بمعية عشرات الحور الحسان ..! فتح عينيه ببطء... السماء زرقاء ، والشمس ساطعة ، تزيد طيور النورس إشراقاً وجمالا ، وبينما كانت موجات البحر تغسل قدميه بين الفينة والأخرى... تذكر الأطباق الشهية المتطايرة ، والحقائب الجلدية المتساقطة ، وصرخات الهلع الجماعية ، وصوت الحسناء (السافرة) وهي تقول في يأس: الطائرة تسقط..! كانت الجزيرة أشبه بالجنة ، تماماً كما تخيلها ، باستثناء خلوها من الحور والبشر ، وعندما أيقن أنه الإنسان الوحيد على ظهرها ، لم يستطع مقاومة الشعور بالخذلان لعدم تمكنه من إنهاء المهمة الجهادية ، فمشروعه الاستشهادي الانتحاري ، قد تبدد ، وذهبت أدراج الرياح كل أماله وأحلامه ، بسحب صاعق الحزام الناسف حول خصره...! كلما كانت لحيته تطول أكثر ، كانت (سوريا) تخبو في ذهنه أكثر ، وتتعاظم في نفسه حاجته للبشر ، يوماً بعد يوم ، كان يقف لساعات على الشاطئ المقفر ، ينظر إلى الأفق ، وكل ما يتمناه ، أن يرى (إنسانا) ، ليس مهماً من يكون... ليكن (الأفغاني) أو أحد رفاق المعسكر التدريبي ، أو حتى المضيفة (الحسناء)...! ليكن سنياً أو شيعياً ، مسلماً أو كافراً ، لا فرق... لكنه لم يرى أحداً ، ولم يسمع صوتاً ، إلا صدى صرخاته تردد عالياً: إنسان..! مرت سنوات ... كانت التساؤلات الحائرة تغزو رأسه الأشعث ، عن الله والدين والإنسان ، فهاهو يصلي خمس مرات ، منفرداً في غير جماعة ، يستشعر وجود الله وعظمته في كل صورة وصوت على هذه الجزيرة اللعينة ، إلا أن الكثير والكثير من أركان الدين وشعائره وشرائعه قد تعطلت ، وغابت بغياب (الإنسان) المقابل ، فلا زكاة ولا صدقة هنا ، ولا خطبة عيد أو صلاة جمعة ، ولا حج أو جهاد ! لا لم يعد هناك (الآخر) من يجعل للتفاوت بين متناقضات القيم والأخلاق معنى ، سيان الصدق والكذب ، الأمانة والخيانة... تلاشت الحياة برمتها ، فلا سياسة ، ولا مسوغات للاتفاق والخلاف الاقتصادي، ولا حديث عن مفردات الفقه المجتمعي كالحشمة ، والعورة ، وغض البصر..! أدرك (الإرهابي) أن الإنسان هدف الدين وجوهر معناه ، وأن الخلاف والاختلاف معه ، ليس مبرراً لقتله ، وهدر حياته ، وتهديد وجوده ، فمن قتل نفساً ، كأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها كمن أحيا الناس جميعا ، وأن الدعوة إلى الله ، ليست نيابة عن الله ، في فرض طرائق عبادته ، فلا عبادة بلا إنسان ، وصلاح الأبدان مقدم على صلاح الأديان ، متسائلاً: هل من قيم الخير محاربة الظالم بقتل البريء ، والاستعانة بالشيطان لنصرة الله ؟ وأي قيمة تمثلها الثورات وحركات محاربة الطغيان ، إن خلت من أهلها البلدان ، إلا من أشلاء إنسان ، وتكبيرات تمزق الأوطان ؟ بينما كان (الإرهابي) يعتلي قمة صخرة ، يدعو الله ، أن ينعم على حياته بإنسان ، مجرد إنسان ، يضفي على وجوده معنى ، ويجعل للزمان والمكان والأحداث صفة الأوطان ، وعلى جزيرته المقفرة (التي أسماها سوريا) صفة (الجنة) ، كان (الأفغاني) في دمشق ، يتوسط مئات الأبرياء ، من الأطفال والنساء والرجال ، يتمتم بالآيات والأناشيد الجهادية..! [email protected]