خبير طقس يتوقع ارتفاع الرطوبة ويستبعد حدوث الصقيع    إنجاز 5 آلاف معاملة في أسبوع.. كيف سهلت شرطة المرور إجراءات المواطنين؟    ترميم عدد من الشوارع المحيطة بشركة ( يو)    قمة أفريقية..تونس ضد نيجيريا اليوم    تحسن في درجات الحرارة اليوم    العطاس: نخب اليمن واللطميات المبالغ فيها بشأن حضرموت"    الولايات المتحدة تعرب عن قلقها إزاء التطورات في جنوب شرق اليمن دون توجيه أي موقف عدائي للجنوب    ناطق التحالف: سنتعامل مع أي تحركات عسكرية للانتقالي تهدد خفض التصعيد    المغرب يتعثر أمام مالي في كأس أمم إفريقيا 2025    ترامب يلتقي زيلينسكي غدا في فلوريدا    موقع إيطالي: اندلاع حرب غير مباشرة بين السعودية والإمارات في اليمن    موقف صنعاء من تفاقم الصراع في حضرموت    لمن يريد تحرير صنعاء: الجنوب أتخذ قراره ولا تراجع عنه.. فدعوه وشأنه لتضمنوا دعمه    لماذا يفشل خطاب الوصاية أمام التاريخ الجنوبي؟    خطورة التحريض على القوات الأمنية في حضرموت    تجدد المعارك الطاحنة بين ادوات العدوان في حضرموت    جُمعة رجب.. حين أشرق فجر اليمن الإيماني    الكيان يكشف سر الاعتراف بأرض الصومال    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    العليمي يقدّم طلبًا للتحالف بشأن الأوضاع في حضرموت    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    شاهد / حضور كبير لاحياء جمعة رجب في جامع الجند بتعز    السيّد القائد يحذر من تحركات "طاغوت العصر"    التعادل يحسم مواجهة أنجولا وزيمبابوي في كأس أمم إفريقيا    الذهب يقفز لمستوى قياسي جديد    ندبة في الهواء    الرئيس المشاط يعزي عضو مجلس النواب علي الزنم في وفاة عمه    ريال مدريد يدرس طلب تعويضات ضخمة من برشلونة    مقتل مهاجر يمني داخل سجن في ليبيا    خلال يومين.. جمعية الصرافين بصنعاء تعمم بإعادة ووقف التعامل مع ثلاثة كيانات مصرفية    سوريا.. قتلى وجرحى في تفجير داخل مسجد في حمص    الصحفية والمذيعة الإعلامية القديرة زهور ناصر    كتاب جديد لعلوان الجيلاني يوثق سيرة أحد أعلام التصوف في اليمن    البنك المركزي بصنعاء يحذر من شركة وكيانات وهمية تمارس أنشطة احتيالية    الكويت تؤكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لحفظ وحدة وسيادة اليمن    صنعاء توجه بتخصيص باصات للنساء وسط انتقادات ورفض ناشطين    فقيد الوطن و الساحة الفنية الدكتور علوي عبدالله طاهر    حضرموت تكسر ظهر اقتصاد الإعاشة: يصرخ لصوص الوحدة حين يقترب الجنوب من نفطه    القائم بأعمال وزير الاقتصاد يزور عددا من المصانع العاملة والمتعثرة    الرشيد تعز يعتلي صدارة المجموعة الرابعة بعد فوزه على السد مأرب في دوري الدرجة الثانية    البنك المركزي اليمني يحذّر من التعامل مع "كيو نت" والكيانات الوهمية الأخرى    لحج.. تخرج الدفعة الأولى من معلمي المعهد العالي للمعلمين بلبعوس.    المحرّمي يؤكد أهمية الشراكة مع القطاع الخاص لتعزيز الاقتصاد وضمان استقرار الأسواق    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عازفُ النَّاي
نشر في عدن الغد يوم 24 - 04 - 2016

كان في إحدى قرى (غيل بن يمين) شابٌ يُدعى بدراً، عاش مع أمه وأخيه الصغير في منزل متواضع من منازل القرية المبنية بالزبر المتبون، كان بدر يخرج يومياً في الصباح الباكر ليرعى الغنم ويأخذ معه شباَّبته ليعزف عليها في البراري عند ما يستقر بغنمه تحت ظلٍ وارف، وعند ما يعود إلى منزله في المساء يصعد إلى سطحه ليواصل العزف لساعة من الزمن؛ قبل أن يأوي إلى فراشه، لم يكن لدى الناس وقتئذ ما يسليهم غير الاستماع لألحان بدر الشجية؛ وكان الجيران يطربون لها ويفتقدونها أذا ما غاب أو تأخر عن العزف . لم يكن بدر يقلد الألحان الشائعة فحسب بل يبتدع الحَاناً جديدة.
تعتمد أسرة بدر في معيشتها على الغنم في لحمها ولبنها وجلودها وفروها الذي تصنع منه ألحِفةً، يضاف إلى ذلك ما يعود على أم بدر من أجر خياطة ملابس النساء والفتيات.
كانت لجيران بدر إبنة شابة في غاية الجمال، كانت رقيقة مرهفة الأحاسيس. وكان بدر كثيراً ما يسعى إلى رؤية (وضحة) ابنة جيرانه عند ما تدخل أو تخرج من منزلها؛ أو عند ما تخطر إلى منزله لتفصِّل لها أمه ملابسها، فهي كثيراً ما تقتني ملابس جديدة وأنيقة.
***
بمرور الأيام هامَ بدرٌ بابنة جيرانه؛ حتى أن حبه لها كان مصدر الهامٍ لعزف الحان رائعة تُطرب من يستمع إلها . تكرر طلب بدر من أمه لأن تتقدم لطلب يد وضحة من أبيها؛ غير أن والدته لم تفعل ذلك، وعند ما ألحَّ عليها في طلبه قالت:
- عليك أن تصرف النظر عن هذه الفكرة ..لا يمكن لجارنا التاجر قبول راعي غنم زوجاً لابنته.
ساءت حالة بدر الصحية والنفسية، ضاق ذرعاُ بالمنزل و بالقرية، لم يعد يترقب مرور وضحة، لم تعد أذناه تسترق صوتها؛ وما لبث ان شدَّ رحاله إلى الجبل المطل على سهب (نبرية).
****
صنع بدر بمساعدة أخيه الصغير - من أحجار الجبل - غرفة تقيه مع غنمه برودة الجو و قائظه الصيوف. كان أخوه يأتي له كل صباح جمعة بمؤونته التي يتبلَّغ بها في هذا الجبل لأسبوع كامل ويعود أدراجه على نفس الأتان إلى القرية .
****
ذات جمعة لم يأت أخوه كعادته، ضلَّ بدر يترقب وصوله؛ وفي عصر اليوم التالي وبينما كان كذلك على حافة الجبل؛ شاهد في البعيد أتاناً وعليها راكب، اعتقد في بادئ الأمر بأنه أخوه، كان الراكبُ يتقدم ويرتقي الجبل غير انه سلك طريقاً غير التي يسلكها أخوه وعند ما تقدم أكثر تبين أن ذلك القادم لم يكن إلا وضحة ابنة جيرانه.
كان بدر منذهلاً بمقدمها، خفق قلبهُ لرؤيتها؛ وذهب يسأل في نفسه : هل ضلت وضحة طريقها؟ ..كيف لها أن تأت متأخرة إلى هذا المكان المقفر؟.. وبينما هي تقترب منه كانت الريح الباردة في أعلى الجبل تلسع جسمها الغض وتراقص أطراف ملبسها الجميل لينحسر عن ساقين جميلين يتدليان على جانبي الأتان.
أخذ بدر اللحاف الذي كان ينهي صناعته؛ وأخذ بيده الأخرى يد وضحة لمساعدتها على الترجل من صهوة الأتان؛ كانت أسنانها تصطك من الريح الباردة، قام بتغطيتها بلحافه وهو يقول:
- أهلاً بجارتنا العزيزة.. هل ضللت طريقك إلى هذا الجبل؟
- أجل ..ولذلك وصلت متأخرة.
- وما الذي جاء بك إلى هذا المكان البعيد ؟
- ألا تريدني أن أزورك..لقد أحضرت مؤنتك.. أخوك مريض لا يستطيع القدوم وأمك بقيت في المنزل لرعايته؛ وما ان طلبت أمك ذلك حتى وجدتها فرصة لرؤيتك والاستماع إلى ألحانك الشجية..كم اشتقت إليها كثيراً.. ألم تبلغك أمك ذلك؟ . شرعت وضحة في أخراج المؤنة من خُرج الأتان؛ في حين كان بدر ينظر إليها وقد تملّكه الذهول والإعجاب والانبهار بها . كانت تقول وهي تضع المؤنة :
- كل ما أطلبه هو أن تعزف لي على الناي.
- ولكنك يجب أن تذهبي حتى تبلغي القرية قبل غروب الشمس، فهذه الجبال لا تخلو من الذئاب و بقية السباع . سكت قليلاً ثم أردف: أسلكي هذا الطريق وكان حينها واقفاً يشير بنايه إلى خط طريق الوادي الأبيض الباهت . عمد بدرٌ إلى العزف على نايه؛ كان يعزف لحناً بهيجاً يعبِّر به عن فرحته برؤية وضحة.
****
بعد ان ودَّع بدر وضحة بقي على حافة الجبل يشيعها بنظراته وكانت تثني رقبتها - بين الفينة والأخرى - إلى الخلف وهي تنظر إليه إلى أن اختفت خلف الروابي بسفح الجبل؛ ارتقى بدر صمصمة الجبل [1] كان ينظر إليها حتى ابتلعها نخيل ضفة الوادي المحاذية للجبل.
****
عند ما غابت الشمس واختفت أخر خيوط نورها الذهبية من الأفق استحكمت برودة الجو لتصبح قارسة، عمد بدر إلى غرفته وأشعل الحطب في الموقد ليدفئ جسمه وليُحضِّر طعامه فهو لم يذق منذ عشاء أمس طعاما غير الأسودين واللبن، وعند ما جهَّز طعامه سمع الكلب يعوي في الخارج وسمع حركة الأحجار من تحت أقدام الكلب اعتقد أنه بسبب جوع الكلب غير أن الكلب اقتحم عليه الغرفة وهو ينبح فأدرك أن ثمة خطب في الخارج، أخذ هراوتين من حطب السمر وغمر رأسيهما بالزيت وأشعلهما من نار الموقد واقتفى أثر الكلب الذي ذهب إلى حافة الجبل، نظر بدر في الأسفل إلى الطريق الصاعدة إلى غرته؛ أبصر على ضوء ومضات البرق ذئباً يتعقب حماراً يخطمه راكب بدا يحُث الخطو نحو أعلى الجبل، كان نهيق الحمار الذي بدا يوجه ركلاته المستميته إلى ذئب كان يتعقبه . قذف بدر بأحد المشاعل إلى الأسفل لإخافة الذئب؛ ثم صاح بأعلى صوته: - لا تخافي ياوضحة ..انني قريب منك .
على ضوء المشعل كان بدر يرى الذئب بوضوح فأتبع المشعل بحجر أخذه من حافة الجبل وهوى به على الذئب، سمع بعدها صدا عواء الذئب المتواصل ليمزق سكون الليل في الجبل، هرول بدر في منحدر شديد الانحدار صوب وضحة. فرحت وضحة بمبادرة بدر لانقاذها و بوجود الى جانبها، صعدت على الأتان وكان بدر يقول لها:
- لا تخافي يا وضحة لن يصيبك مكروه انشاء الله مادمت موجودا ..أمازلت خائفة من الذئب؟
- إنني أخاف الذئب. غير أنني شعرت بالأمان بوجودك ..لقد حضرت في الوقت المناسب ..
- اصعدي على الاتان يا جارتي العزيزة.
وصل بدر بالأتان إلى غرفته وهو يخطم زمامها كان يقول:
- سأصطحبك الآن إلى القرية.
- وهل ستترك أغنامك لتتخطفها الذئاب؟
- أنت أهم من كل شيء..سوف أوصلك إلى القرية..وسوف أطمئن على أخي .
- ولكن الوادي ملئ بالسيل القادم من المنحدرات البعيدة..لو كانت طريق الوادي سالكة لما غامرت بالعودة إلى هنا. .اعتقدت في بادئ الأمر بأن السيل أتٍ من نواحٍ قريبة غير أنه لم ينحسر ولم يقلل من جريانه، وعند ما سمعتُ عواء الذئب في البعيد خفتُ على نفسي وأسرعت الخطو إليك .غير انه أدركني ذئب آخر ..أم انه كان يتعقبني.
مازالت السماء ترسل بعد حين وآخر ومضات واهية من الأضواء البنفسجية اللامعة لتتراءى - في صورة باهتة- الجبال المجاورة من جهة الغرب تتخلل ذلك أصوات رعدية خفيفة.
أدخل بدر وضحة إلى الغرفة حيث يكون الجو دافئاً، بعد أن أكلا عشائهما افترش لها لحافه الآخر، جلسا مستندين إلى جدار الغرفة يتجاذبان أطراف الحديث ثم أخذ بدر شبَّابته ليعزف ألحانه الجديدة؛ وكلما استهلكت نارُ الموقدِ عوداً رمى لها من بعده عودا، ولعل برودة الجو جعلت وضحة تلتصق ببدر وهي تستمع إلى ألحانه، أول لعل ذلك بسبب سماعها عواء الذئب.
****
بعد ساعتين شعر بدر بجسم رقيق يسقط بسلاسة على كتفه، انه رأس وضحة وقد تهدلت منه خصلات من شعرها الحالك لينساب – بعد ذلك- كشلالٍ إلى الأسفل، لعل تعب الرحلة واستشعارها بالأمان جعلا أهدابها الطويلة تنطبق على بعضهما كما ينطبق جناحي فراشة الربيع على بعضهما . توقف بدر عن العزف جلسا على ذلك ملياً دون حراك حتى لا حظ بدر أن شهيقها وزفيرها قد انتظما، عندها أخذ بهدوء بالغ يسوي جسمها على الأرض فوق اللحاف؛ ثم وضع رأسها برفق على الوسادة الوحيدة التي يمتلكها؛ وقام بتغطيتها باللحاف الآخر . لم يترك إلا وجهها مكشوفاً، ثم انتحى له جانباً وبقي طِوال ليلته ساهراً يضع أعواد الحطب في الموقد، وكان ينظر من خلال وهج نار الموقد إلى وجه وضحة الوضاء ويتابع حركة شفتيها اللتان تنفرجان بعد حين وآخر عن ابتسامة وادعة وحالمة.
****
ما أن غردت البلابل معلنة عن وصول أولى بواكير ضوء الفجر حتى نهض بدر ليحلب الغنم ويصنع إفطاراً له ولضيفته ثم أعلف الغنم ومنح الدابة طعامها ثم علق في رقبتها عليقة محلاة بالذرة، وعمل على إسراجها استعداداً للرحيل و عاد إلى الموقد ليضع تنكة الماء عليها، ثم أيقض وضحة لتأخذ وضوءها وليصليا صلاة الصبح معاً.
***
كان بدرٌ يقود الأتان التي تمتطي وضحة صهوتها وهو يهبط بها المنحدر الجبلي، كان يضع الزمام تحت إبطه في حين يقوم بين حين وآخر بالعزف على الناي غير أنه توقف قائلاً:
- جارتي العزيزة ..عندما كنتِ نائمة كانت ترتسم على محياك ابتسامات رائعة...هل لا علمتُ بماذا كنت تحلمين؟
قالت بشيء من الخجل والتلعثم وهي تطأطئ رأسها نحو سرج الأتان:
- كنت أحلم بفرحنا معاً.
قال بدر وهو يشيح بنظرة عنها إلى منعطف الجبل:
- كنت أنا كذلك.. غير أنها كانت بالنسبة لي أحلام يقظة ..لقد بتُ ليلتي أنظر إلى محياك الجميل وأتابع فيه تلك الابتسامات وهي ترتسم عليه، كنت أدعو الله بأن يجمعنا سقفٌ أبديٌ.. تصوري .. تمنيت بأن لا يطلع فجرٌ لليلتنا.. كي لا تخطف الأيامُ مني فرحتي.. استجمعت وضحة جرأتها من أطرافها وقالت:
- فرحتك !.. بل قل فرحتنا.. لن نوحسمح لأحد أن يختطفها.
[1] صُمصُمة جبل نطونط هي أعلى قمة في منطقة غيل بن يمين، وضِعَ عليها مؤخراً هوائيات الهواتف النقالة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.