لم يكن اليوم مبشراً عندما طاف بالكثير من المعارض والدكاكين ليسأل وليستطلع عن أثمان الملابس لأبنائه الصغار، لكنه في نهاية المطاف أصيب بخيبة أمل من ارتفاع الأسعار بشكل يعجز معه كلية أن يشتري طقماً لكل بنت من بناته الأربع وولده الذكر الوحيد، فراتبه بالكاد يكفي للإيفاء بمتطلبات المعيشة ونفقات الإيجار ودفع الخدمات من ماء وكهرباء وهاتف، علماً أنه قرر في الفترة الأخيرة عدم تسديد فاتورة الهاتف حتى يفصلون عنه الخدمة من تلقاء أنفسهم، ففصل الهاتف شيء يمكن التعايش معه على غير لو تمّ فصل الكهرباء أو الماء. وبحسبة تلقائية وجد أن ملابس العيد لا يمكن شراؤها إلا من خلال التصرف ببيع شيء من مصوغات زوجته، تلك المصوغات التي صارت تتناقص تباعاً جرّاء التنتيف المتواصل، أو من خلال معجزة لا يدري بالضبط ما هي، فهو في انتظار من يساعد أو من يمدّ له يد العون في أيام الشهر الفضيل، لكنّ انتظاره طال أكثر وأكثر وبات مقتنعاً أن معجزة ( البناكس ) صارت أبعد من ناظريه كمعجزة المصباح السحري أو ملاقاة ( الخضر ) أو العثور على كنز مدفون في حوش داره. كان في بعض الأحيان تداعبه أحلام جميلة أو خيالات رائعة تتلخص في حصوله على إرث مفاجئ من أحد أقاربه الذين لا يعلم عنهم شيئاً، وفي بعض الأحيان يحلم بالحصول على سيارة فارهة من آخر موديل في سحب مسابقة في أحد مولات بيع المواد الغذائية، أويحلم أيضاً بملاقاته المفاجئة بأحد الأثرياء حيث يصنع له معروفاً فيرجو منه ذلك الغني أن يطلب ما يشاء فهو حاضر لتلبية احتياجاته مهما كانت.
كانت تسوده ابتسامة فرحة في هاتيك الأحيان بينما يحلق في تلك الخيالات حتى لتخاله شخصاً مجنوناً يضحك وحده، ولعل من يراه على تلك الحال لا يلومه، فكم من الناس الذين نراهم يمشون ويتكلمون مع أنفسهم ويحركون أيديهم يمنة ويسرة، ويمرون على الناس وهم في تلك الحال المزرية فلا يلتفت إليهم أحد، ولا يستغرب ذلك المنظر إنسان، لذا كان يهدر مع نفسه ويضحك تارة، لقد كان الرجل قاب قوسين من الهستيريا أو الجنون.
لقد استوعب الجميع أن مصاعب الحياة ربما أخرجت أحدهم عن طوره، فبالنهار ربما يُرى الإنسان عاقلاً رزيناً فإذا هو بالليل امرؤ قد أصابته لوثة من جنون، أو يرى بالليل سامراً ضاحكاً فإذا هو بالنهار شخص أشعث أغبر يهيم بالشوارع والأزقة قد لاحقته كاميرات الجوالات لتوثق حالة جديدة من مجانين شعب مطحون بات كثير من أفراده على حافة الجنون.
وحتى لا نستعجل الجنون على صاحبنا المسكين، فهو لايزال في مقتبل العمر ولديه عدّة أفواه صغيرة عليه إطعامها وكساؤها فيكفي أن نقف على حدود خيالاته وشطحاته الذهنية ولا نسترسل بها إلى أكثر من ذلك، فيكفينا أن قد وصل إلى شاطئ الجنون الكثير من أمثاله لكن ليس هو بعد، وإن قلنا سابقاً أنه كان قاب قوسين منه.
في الليل حينما يضع رأسه المثقل بالهموم على وسادته الساخنة، تبدأ الأفكار تتوارد عليه من أودية كثيرة : ديون بعض أصحابه التي لا تزال في ذمته منذ أن عزم على الزواج، فواتير الخدمات التي لم تسدد بعد، وراشن الشهر، تكاليف رمضان، ملابس العيد، لحم العيد، ثم ملابس المدارس ومتطلباتها وغيرها الكثير والكثير، حينها يجافي عينيه النوم، ويبيت يتقلب على جنبيه، فتحسّ زوجته البسيطة بمعاناته المريرة فلا تملك إلا أن تربت على يديه وتهمس في أذنه " لا تحزن، سيفرجها الله ".
سقطت من عينيه دمعات حرى، كان شديد الحرص على ألا ترى زوجته دموعه، فيكفيها أن ترى كيف تطحنه الحياة بكلكلها دون رحمة، كانت رجولته تمنعه من أن يقف أمامها موقف العاجز الباكي وهو حقاً كان في موقف العاجز الذي لا يملك حيلة في مواجهة مصاعب الحياة.
كان يتوق لحضن آمن يحتويه لكي يخرج فيه ما تكتنزه نفسه من دموع وأحزان، لكن هيهات، فأمه قد ماتت منذ زمن وقد كانت بمثابة الحضن الذي يحتويه والبحر الذي يلقي على شاطئه همومه الثقيلة.
عادت به الذكريات إلى أيام الشباب الخالية، كان يومئذٍ خالياً من الهموم والغموم والأكدار إلا من هموم التأنق والتعطر وشراء أحسن الثياب والموضات واللقاءات بالأصحاب في الخرجات وتنسيق الطبخات والسهرات والرحلات،
أما اليوم فهو أمام مسئولية كبيرة وأمانة عظيمة قدخاض غمارها شاباً بعد أن حصّن نفسه، وعليه أن يبقى ثابتاً راسخاً إلى أن تنتهي به رحلة الحياة ويأتيه اليقين.