-------------------------------- نحتفل سنوياً في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك بذكرى تحرير عدن، ومع موعد إقتراب هذه الذكرى تتعاظم مأسينا وتزداد أحوالنا سوءً يوماً بعد يوم حتى لم يعد لهذا الإنتصار لا طعم ولا لون .. وفجأة وجدنا أنفسنا بلا دولة ولا وطن .. لا حكومة ولا سُلطة .. بدون أمن ولا خدمات .. نحتفل ومع هذا الإحتفال نعتصر ألماً ونحن نرى ذلك الوطن الذي أنشدناه وحلمنا به يتسحب من بين أكفنا رويداً رويداً، ومعه نتأمل أحلامنا تتوارى خلف سُحب سوداء قاتمة.. تأتي ذكرى التحرير والنصر من كل عام ونحن نشهد على حقائق مؤلمة يتمزق فيها الوطن إلى أشلاء بين جماعات وفرقاء وزعامات .. نشهد على بزوغ عهد جديد من أشكال الفساد والبلطجة وغياب سطوة القانون والأمن والأمان، ومعهما نحزن ونتحسر على العدالة الغائبة التي أحتوها قانون القبيلة والغاب تحت إبطيهما .. ومع هذا وذاك إختفت تلك الأخلاق الحميدة المحبة للوطن، والتراحم بين الناس التي عهدناها كابر عن كابر، وصارت البلطجة هي عنوان العهد الجديد.. �� ومع قرب يوم النصر والتحرير الذي يتماشى قدماً بقدم مع نهب المال العام وسطوة السلطة القبلية والجهوية العصبوية على كافة مفاصل الحياة في المدينةعدن التي تقسمت إلى مربعات وسواتر رملية، كل واحدة منها تحت سطوة قائداً وشلة من زبانيته لا نعمل متى وطأت أقدامهم شوارعنا وأزقتنا وبقدرة قادر نصَّبوا أنفسهم حُماة علينا .. مع ذكرى التحرير أصبحت حدودنا تحت قبضة قوى دولية وإقليمية، لا تتحرك طائرة أو سفينة إلا بإذنهم، لا تدخل حمولة دواء أو غذاء إلا بموافقتهم، وخلف هذه الحدود في تلك الديار وفنادق الخمسة نجوم هي الملاذ الآمن لمن يزعمون بأنهم قادتنا وصارو عبيداً للدرهم والريال والدولار، وتقاسموها مع السلطة المطلقة فيما بينهم.. �� ليصرفوها على الموائد الرمضانية الفاحشة البذخ والعيش الرغيد خارج هذه الرقعة المظلمة. مع بزوغ فجر التحرير والانتصار، نشهد على ضياع مقدراتنا ومواردنا وأصبحنا تحت رحمة فُتات مساعدتهم التي يمنون علينا بها تحت مظلة بانرات ملصقاتهم وفلاشات كاميراتهم، وبات العزيز فينا يتسائل يومياً عن موعد قدوم الدفعة الأخرى من ما يتفضلون علينا به بين الفينة والأخرى.. لم تعد لهذه الذكرى فرحة نشعر بها ونحنا نرى جموع التكالى من المتقاعدين الذي أفنوا جل سنوات أعمارهم في خدمة هذا الوطن وهم يتسولون معاشاتهم بذل وخنوع أمام بوابات البريد تحت لهيب الشمس ووطأة الحر ويتسألون عن موعد تلك الحسنة التي يتسولونها قسراً، ويتقاسم معهم سكان هذه المدينة ظلمة الليل دون كهرباء، وعطش النهار دون شربة ماء، بلا رحمة ولا شفقة من القائمين عن أحوال البلاد والعباد. سوف تعود هذه الذكرى، ذكرى النصر والتحري مرات ومرات، ومعها سيبقى حلم شبابنا قائماً الذي طالما تمنوه بعد تخرجهم ويحذوهم الأمل بمستقبل باهر ووظيفة في المجال الذي أفنوا بضع من سنوات أعمارهم يتخصصون فيه، وفجأة وجدوا أنفسهم يعملون في مخازن توزيع المعونات وتسجيل الأسر المحتاجة تحت مظلة هلالهم وإستغلال المنظمات الدولية الإغاثية لجهودهم، وبينما تعدي أيامهم في هذا العمل القسري تتلاشى فرص أحلامهم كضوء خافت.. ستعود الذكرى تلو الأخرى ومعها تضيع سنوات عمرنا وملامح مدينتنا الحالمة البائسة ولم يعد لها أثر مع إمتداد الرقعة العشوائية التي طغت على كل جزء من أجزاء هذه المدينة من قبل نافدين ومُتنفذين دخلاء عليها قاموا ببسط سيطرتهم وأستولوا على كل شبر فيها، وبين ليلة وضحاها مُلئت خزائنهم بالملايين تحت مرمى ومسمع الجميع دون رادع يردعهم، وتحت هذه السطوة ضاعت معها أثار أقدامنا التي إنطبعت في كل ركن وشارع من مراتع صبانا.. �� سنحتفل بعد أيام قلائل بذكرى الإنتصار تحت زخات الرصاص وفرقعات الألعاب النارية، بعيداً عن آهات وآنات النازحين والمُعدمين وذوي الحاجة، ستطير البالونات المختلفة ألوانها وعين الطفل الجائع يرصدها من مكانه في مقبرة القطيع والعيدروس التي لجأ لها، وسيرصدها طفل آخر في مكان ما، ولن نسمع صوت لبكائهما تحت أنين الجوع والعطش لأننا مُنشغلون بذكرى التحرير والنصر التي لم نحافظ على قُدسيتهما، وطهارة دماء الشهداء التي سُكبت من أجلها، لتروي تراب هذه المدينة الطاهرة التي دُنست بمواكب الدخلاء والطامعين ومن على شاكلتهم، فبأي نصر نحتفل، وبأي ذكرى نسعد..!! بلال غلام حسين 29 مايو 2019م