أسرع من البرق الخالة فتحية توصل أنباء الحي وقبل أن تفارق الروح الجسد كان نباْ وفاة كبير الحي قد ملأ الأفاق فالخالة قد واكبت التقنية في نقل المعلومات فجوالها يحوي الفيس والواتساب وهي تتواصل مع جميع الجارات لإبلاغهم أخبار الحي السعيدة والحزينة ومناقشتها وإضافة ما تريد زيادته من أخبار وتحليلات . بدأن النسوة يجتمعن واحدة تلو الأخرى لحضور جلسة العزاء وتعزية زوجاته الأربع وكلما دخلت امرأة القت السلام على الحاضرات وقدمن يقبلن رأس زوجاته ويعزينهن في فقيدهن وكانت الخالة فتحية أولى الحاضرات ترقب كل شيء بعين فاحصة , وكلما حضرت امرأة أخذت لنفسها مكان في مربغ الغرفة الضيقة التي اكتظت بنساء الحي. بدأت الخالة فتحية تهمس بعينيها قبل أن تحرك شفتيها وهي تشير لحالة الأرامل الأربع: مَن ستكون صاحبة السيادة على جميع الزوجات وتدير شؤون المنزل تلتفت إليها المرأة التي بجوارها وتهمس في أذنها وهي تحاول اسماع جميع الحاضرات: طبعاً أختي هي الزوجة الأولى وهي أكبر زوجاته وأم أكبر أولاده يرتفع الضجيج من همس النسوة الحاضرات العزاء ووهن يهمسن لبعضهن البعض لمن تأول دفة القيادة لأسرة المتوفي الذي ما زال يغسل في الغرفة المجاورة ولم يتنقل جسده خارج المنزل ,حتى تعاود الخالة فتحية جذب الحديث إلى وادٍ أخر: لكنه كان متعلق بأصغر زوجاته .. كان شديد الحب لها من طرف المربع ومن زاويته يرتفع صوت : لكنها لن تصبر على الوحدة ومعاشرة الزوج فهي لم تعش معه إلا أقصر فترة من الزمن .. وهي مازالت صغيرة تحتاج إلى الرعاية خاصة وأنها لم تنجب له أبناء يجلجل صوت المرأة العجوز قاطعاً كل حديث: اشهدن ايتها النسوة أن حفيدتي حامل في الشهر الثاني .. ولتبدأن الحسبة من اليوم وهي صاحبة حق في إرث زوجها المتوفى وكذا مولودها بكاء الزوجة الثانية يرج الغرفة ويدوي في أركانها وهي تصرخ: تتحاسبن وتحسبن وجسد سيد البيت لم يوارى بعد التراب بوقار واتزان تتحدث الزوجة الثالثة وتأمر بتجهيز مراسيم العزاء حسب العادات المتبعة في المدينة: عليكن تجهيز الدروع السوداء( ثوب المرأة في عدن وما جاورها من المدن) لكل نساء المرحوم وبناته وأخواته قبل أن يغادر جثمانه المنزل وتوزيع اللحم والأرز على فقراء الحي تعاود الخالة فتحية الحديث وتوزيع الأدوار: بعد مغادرة جثمان المتوفى المنزل على كل زوجة أن تتقوقع في ركن من أركان الغرفة وتترك كل زينتها وأن لا تنتعل أبداً طيلة فترة العدة ولا يمس جسدها الطيب والزيت وأن لا ترجل شعرها ومن أرادت الوفاء بعهد الزوجية أن ترتدي البياض طيلة حياتها. دهاء الخالة فتحية وضع الزوجات الأربع في المحك فالتي ترغب في الزواج بعد انقضاء عدتها ستلبس السواد والتي ليس لديها رغبة في الزواج سترتدي البياض فأخذت كل واحدة من الزوجات الأربع ترمق الأخرى بطرف بصرها ناظرة المواقف التي ستتخذ من قبلهن وبسرعة تعلن الزوجة الكبرى: جهزوا لي ملابس الحداد البيضاء تعقبها الزوجة الثانية وهي تذرف دموعها متنهدة: وأنا جهزوا لي ملابس البياض على غير اندفاع تعلن الزوجة الثالثة: ملابسي ستكون بيضاء مرة أخرى يجلجل صوت المرأة العجوز: حفيدتي سترتدي السواد حتى يتبين حملها الخالة فتحية لم يستقر لها مكان فهي بين مربع النساء والغرفة التي يغسل فيها الجثمان حتى تعود مسرعة معلنة مغادرة الرجال بالجثمان إلى المقبرة : اسرعن لتوديع المرحوم وتقبيله القبلة الاخيرة .. قبلة الوداع تتدافع نساءه وبناته واخواته لتقبيله وتوديعه قبل أن تشد الأكفان عليه ويغادر محمولاً على أكتاف الرجال. وما أن تصل النساء محارم المتوفى حتى تعلو أصواتهن بالبكاء والعويل إلا أصغر نسائه وكأنها تنفست الصعداء وانقشع كابوس السبعين الذي اشترى ربيعها لتعيش معه حياة لا لون لها يغادر النعش محمولاً على الأكتاف وتسرع الزوجات للجلوس في مكانها المخصص على أشد من اللهيب منتظرات مغادرة المعزيات لتستولي على ما تستطيع من الموجودات الثمينة في مخدعها أو في ثنايا البيت وهن يتبادلن النظرات التي تحمل بغض كل واحدة للأخرى وانتظار الفرصة للكيد بها والفوز بأكبر قدر من المال وساد الصمت المكان لا يسمع إلا ذوي حركة المراوح وهي تجلب الهواء يمنة ويسرة حتى تكسر الخالة فتحية حاجز الصمت: أ هكذا يرحل سيد الحي وسيد المنزل دون أن تسمع الأحياء بموته وشدة الحزن على فراقه .. هيا أرفعن أصواتكن بالنياح . وما كادت الخالة تنهي تحفيزها حتى التهبت الغرفة بأصوات النائحات يعددن محاسن المرحوم وهي ترقب أيِّ نسائه أكثر حزناً ومن هي التي تدعي الحزن وتومئ للحاضرات بذلك بنظرات عينيها الثاقبتان المراقبة للموقف .عصام مريسي