رأينا خلال الأشهر القليلة المنصرمة تطورات دراماتيكية في المشهد الجنوبي انتهت ببداية جديدة،وولادة شهر عسل جديد بين الشرعية اليمنية بطرفيها الجنوبي والشمالي من جهة،وبين من كان من ضمنها حتى الامس القريب من جهة اخرى،وذلك بعد أن خلص الأمر إلى عودة الاخير اليها..وما احلى الرجوع اليه...ولكن هل يستمر شهر العسل هذا خصوصا وأنه بدا غير اختياري..ومالاته مفتوحة على كل الاحتمالات؟ ولكي لانجافي الواقع نقول أن الصلح خير والسلام وحقن الدماء مطلوب باي ثمن..على إلا يكون ثمنا يعود ويدفعه الجنوبيين اضعافا مضاعفة لاحقا،كما أن اضمحلال الدولة اليمنية ودفن ما تبقى منها ليس من الحكمة بشي،لان هذا معناه الذهاب إلى الفوضى وحينها لن يجد من يخاصم هذه الدولة خصما يخاصمه ثم يتفق معه لاحقا على الحل المنشود بعد انتفاء أسباب الخصومة،لهذا كان لابد من حل..ولكن هل كان هذا الحل واقعيا ومخرجا مثاليا من المشكل؟ او يكون لاسمح الله مدخلا لصراعات لاتنتهي؟
باي حال من الاحوال يترقب الشارع الان تنفيذ هذا الاتفاق بتفاؤل حذر ،وهو اتفاقا ماكان يمكن ابرامه لولا هول ثقل الوسيط الذي كان لسطوته مفعول السحر او كلام دول كما يقولون..كيف لا وهو من يهمه اولا وقبل كل شي تماسك الصف الداخلي والحفاظ عليه لإكمال المهمة...وياليت الوسيط كان قد اكمل مسعاه الحميد ووسع هذا الاتفاق وطوره إلى ماهو أكبر واقوى بحيث يضم جميع ألوان الطيف الجنوبي دون استثناء،فيتنازلون فيه لبعضهم البعض لأجل الوطن وترسيخ حالة سلام واستقرار دائم،فلا يكون الامر لهذا أو ذاك مجرد تكتيكا اضطراريا مرحليا ارضاءا للوسيط وخشية من غضبه،وعندما يتنفي السبب ويغيب الوسيط نعود مجددا من حيث ما انتهينا،او يدخل طرف اخر على خط الصراع وتصير المسألة وكنك يابوزيد ماغزيت !
لا اريد ان ابدو متشائما رغم أن لي سيل من الملاحظات على هذا الاتفاق ذي الجوانب الغامضة ،بدا من مخاطر المحاصصة التي قد تنتج "فسادا محميا" بالمستقبل،وتكرس مفهوم "الزبائنية"التي هي اسوا صور الفساد السياسي كما حدث في لبنان على إثر اتفاق الطائف،ومايحدث الان ببيروت يوضح هذا،وانتهاءا في غموضه تجاه القضية الجنوبية وغيرها من الملاحظات،ولكني ساتناول هنا ماهو اهم واخطر.
فمع بداية انطلاق حركة الاحتجاج الشعبية السلمية الجنوبية وحراكها، وخصوصا مع بدء تدفق المشاريع السياسية المختلفة سقوفها،وتعدد الاطروحات والرؤى حول القضايا المتعلقة بالقضية الجنوبية والتي لاحصر لها،قلنا انه كان بالإمكان أن يكون الأمر افضل مما كان لو أن الجميع اتفق منذ البداية على ضرورة بل والضرورة القصوى لإبرام"مصالحة وطنية جنوبية شاملة لاتستثني أحدا" ومن رحمها يولد المشروع السياسي الوطني الجنوبي الذي يدعمه جميع الشركاء الوطنيون ويعملون على تحقيقه دون قيود أو تحفظات أو مخاوف من بعضهم البعض أو من المستقبل،بحيث يكون القاعدة والأساس المتين الذي يبنى عليه البيت الجنوبي الواحد الذي يأوي الجميع،ولكن هذا الصوت احدا لم يسمعه او يعيره اهتماما،وحتى الآن وبالرغم من وصولنا الى حالة الخطر والاحتكام للسلاح في حل الخلافات..فهل يترك الباب مفتوحا للشيطان !؟
البعض ربما لم ترق له هذه الخطوة حينها أو استهان بها ولم يتحمس لها وربما هو نادم على ذلك الان بعدما ادرك متأخرا أهميتها الاستراتيجية،بينما لايزال البعض الاخر مستمرا في تجاهلها.. ولاادري أن كان هذا ناتجا والعلم عند الله عن تواضع العقلية السياسية الجنوبية السائدة وندرة القامات والهامات المؤهلة سياسيا في زماننا هذا ،ام الاستسلام لعبادة الاشخاص ولو كانوا قيادات من وزن فزاعة الحقل لانهم ببساطة يمثلون لبعض الناس مصدرا للتكسب والحماية،او ربما مرده الى افتقاد الاطراف الحاضرة في المشهد لقرارها الخاص وتمترسها خلف مشاريعها الذاتية والشخصية والفئوية،وعليها يفصل كل شي..فمعضم المشاريع السياسية الجنوبية الحالية وخصوصا تلك التي يعمل أصحابها على فرضها بالقوة وسطوة الامكانات مشوهة متناقضة لاتحترم عقول الناس بالرغم من انها متخمة بمفردات حب الوطن ومزخرفة كثيرا بكلمات تعبر عن اعلاء مصالح الشعب والعمل على استعادتها ومليئة بجمل براقة تعده بمستقبل واعد وخروج سحري له من مستنقع الحاضر المؤلم وتتغنى بالتصالح والتسامح والقبول بالاخر،بالوقت الذي تخلوا فيه تماما من أي مبادرة أو خارطة طريق حقيقية تجعل من المصالحة الوطنية التي تحقق الشراكة المطلوبة بين أبناء الجلدة الواحدة المدخل الصحيح للمستقبل، فتحافظ على الإنسان الجنوبي وسلمه الأهلي ونسيجه الاجتماعي،هذا الانسان الذي ينبغي أن يكون في أدبيات ووثائق اي مشروع سياسي وطني ناضج الهدف والغاية والعماد والأساس والوسيلة لتحقيق هذا المشروع.
هذه الخطوة الاساسية الهامة التي تلجأ اليها الشعوب المتطلعة لمستقبل امن وانهكتها صراعاتها الداخلية والعازمة لبدا صفحة جديدة لتلج للمستقبل بشكل صحيح،لا تزال مجهولة عند معظم من يسمون انفسهم قادة وسياسيون ولا ادري كيف بوسعهم ان يكونوا كذلك..بعدما اريقت الدماء،وتمكن منهم منطق الاحتراب،والحرب لا تحدث عادة إلا بعد فشل سياسي.
لقد أظهرت التطورات الاخيرة مدى التردي الذي يعتري اداء الكثير من النخب الجنوبية وتواضع عقلياتها السياسية التي بعضها لا يتعدى وعيه السياسي وعي الضفدع، وعدم تطورها وتعلمها من الدروس سواء الماضية منها او الحاضرة "إلا من رحم الله منها" ،الامر الذي يؤكد ان معظم هذه النخب لايمكن ان تكون نخبا او تيارات أصيلة افرزتها المراحل والمحطات الوطنية والنضالية والبطولية لشعب الجنوب وحراكه السياسي افرازا طبيعيا بحيث تتسم بالانتماء والقدرة على مواكبة الملمات،وانما هي افرازات عشوائية ناتجة عن صراعات متعاقبة المت بالبلاد،فاوجدت شرائح اجتماعية فاسدة ودخيلة على الشان الوطني،تتسم بالانانية والذاتية والمحسوبية والوصولية،والتعصب المناطقي والفئوي ولا تحتكم لاي وازع وطني وتضرب بكل ما يقف في طريق زحفها نحو السلطة وجني المنافع عرض الحائط،فوصل منها من وصل الى المقدمة وبطرق اقل مايقال عنها انها انتهازية..ولهذا نرى اليوم نوعا منهم لا يبالي ومستعدا لاحراق روما بمن فيها في سبيل منفعته واستمرار مصالحه وفساده وعلى وزن مقولة "اما انا او من بعدي الطوفان" ..وهذا النوع من الناس لا يرجى منهم خيرا ابدا..كما ان هناك نوع اخر يدرك الطريق الصحيح لتصويب الامور ولكن يتجاهله ويمارس سياسة الهروب الى الأمام والركض بأقصى سرعة لتنقطع انفاس الآخرين فيتوقفون عن مجاراة جنونه فيتحقق له الانفراد المنشود بحسب تفكيره فلا يضطر لمشاركة أحد ممن يفترض أنهم شركائه الطبيعيين في هذا الوطن وهمومه وتطلعاته. وهذه السياسية الماراثونية المدمرة والرعناء دائما ماكان الجنوب يعاني منها ولايزال، واودت بكثير من الفرص المهمة لتدعيم قضيته وإدخالها على الطريق الصحيح للحل،وكانت هذه الممارسات السياسية البليدة ولاتزال تمرر دائما تحت غطاء من الشعارات والمغالطات والوعود السرابية بالمستقبل الوردي للناس بقصد التلاعب بعقولهم،ثم التمترس لاحقا خلف كل هذا الهراء المستحيل تحقيقه مما يزيد الشارع "الساخط اصلا" تعصبا وتطرفا..كيف لا وهو الحالم بيوم الخلاص..هذا السخط المتراكم يجعل الشارع عاطفيا منفعلا ينظر لاي طرح واقعي مخالف لما يسوقه له بائعوا الاوهام والاحلام الوردية على أنه خيانة ومتاجرة بقضيته..ويبدو أن هذه الحالة لازالت موجودة بين صفوف مواطنينا وشبابنا فتباعد بين الناس وتزيد الأوضاع تعقيدا !
ان النقطة الأخرى التي يجب تناولها في هذا السياق والتي أعتبرها برايي المتواضع ذات طابع خطير و وثقها اتفاق الرياض واصلها وساجزم أن ذلك تم بدون قصد كي لا ابدو مرجفا ومشككا في نوايا الاشقاء او مقللا لما بذلوه من جهد،واقصد "قواعد الاشتباك"والتي عادت مجددا ولاول مرة الى المشهد الجنوبي بعد غياب قارب الربع قرن تقريبا ،منذ اخر مواجهة جنوبية جنوبية في حرب صيف 94م،فمنذ ذلك التاريخ ظلت الامور تدار بسلمية تامة بين الجنوبيين،فمع مرور الوقت وخصوصا بعد العام 94م وحدهم الظلم الجاثم على صدورهم في وجه خصومهم،ولم يكونوا مسلحين،وعندما تسلحوا في الحرب الحالية لم يوجهوا بندقيتهم في وجه بعضهم البعض إلا مؤخرا،وهذا معناه ان قواعد اللعبة السياسية في الجنوب تحولت أو سمح بتحولها من سياسية سلمية لا يتجاوز الخلاف فيها كحد اقصى مجرد التراشق بالالسن والبيانات وقنينات المياه المعدنية،إلى قواعد اشتباك عسكرية يتراشق فيها الأشقاء بكل انواع الأسلحة،فينجح طرف يفترض انه خارج القانون وغير رسمي في انتزاع المكاسب وفرض الامر الواقع على طرف اخر يفترض انه الطرف الرسمي والقانوني ويقاسمه بكل شي بل ويغبنه وربما يبدله لاحقا...هذه المعادلة الجديدة الخطيرة التي شرعنها الاتفاق وجسد جدواها وامكانية تكرارها ولم يلغي نتائجها ويمحي اثارها وتداعياتها،قد اسست لاسلوب جديد في حل الخلافات مع الآخر وفي التعبير عن الذات واعلام الاخرين بالحضور وانتزاع المطالب..هذا الأسلوب الجديد كما اسلفت أضفى تغييرا مهما في قواعد اللعبة السياسية، فعسكرها بعدما كانت سلمية حتى وقت قريب جدا،وتحولت الى قواعد اشتباك غير مسبوقة بالجنوب الحديث مفادها "أن اي طرف سياسي منذ الان وصاعدا يمكنه ان يسود وينتزع المكاسب مادام هو الافضل تنظيما وتسلحيا وتمويلا"..وهذه القاعدة لا يتوقف معناها عند هذا الحد وحسب،بل يتعداه الى قراءة اخرى قد تكون الاغرب والاشد خطورة،فهذه لقواعد الجديدة لا تعني فقط ازاحة اي تيار جنوبي مناوء بالقوة وخصوصا من تلك التيارات التي تناوء الحلول حتى العادلة منها للقضية الجنوبية وتصر على استمرار وضع الجنوب في وحدة 22مايو، ولكن حتى الحراك الجنوبي نفسه الممثل الشرعي للقضية بحسب الشرعية الدولية والاقليمية وقرارتها ومرجعيات العملية السياسية والمبادرة الخليجية التي قامت عليها صار هو الاخر برسم الاستهداف والتصفية، خصوصا وأنه اختط النهج السلمي في نضاله كخيار استراتيجي،وربما وفق القواعد الجديدة لن يكون هذا الخيار الا سببا في تصفيته كونه لا يمتلك السلاح والمال والتنظيم والتبني الخارجي،فبعد ان حاربته منظومة صنعاء الحاكمة سابقا بكل الوسائل وجاءت الشرعية واكملت المهمة في تفكيكه واضعافه واستنساخه،ربما سيجئ الان الدور على بعض ابناءه ممن كانوا بالامس القريب الأكثر تعصبا في صفوفه ومقدمة قيادته لتصفيته تماما حتى تفرغ الساحة لهم بالتخلص من هذا الممثل الشرعي المزعج وانتزاع هذا التمثيل ولو عنوة وبفرض اتفاقات وأمر واقع اخر كما حدث في حالة الشرعية،ولايهم أن تناقض ذلك مع الشرعية الدولية والاقليمية ومرجعيات العملية السياسية والقرارت ذات الصلة التي تؤكد هذه الشرعية مادامت القوة هي سيدة الموقف...هي اذا مرحلة تاكل الشرعيات تمهيدا لابتلاعها على مايبدو..! وتبدل قواعد اللعبة بالجنوب هذا قد يكون ايدانا بتبديلها لاحقا بشرعيات وليدة تكون ضمن سيناريوهات حلول جديدة للازمة اليمنية لم تتضح معالمها بعد وربما لازالت تتشكل..وهذا ربما سيفتح الطريق ليتعدى الامر مجرد سباق سياسي بين مختلف التيارات الجنوبية إلى سباق تسلح وصراع مفتوح من أجل البقاء.
من هنا يمكن القول ان الصراعات الأخيرة وتداعياتها أفرزت نتائج سيئة بل وكارثية شديدة الخطورة ينبغي التنويه لها وقرع جرس التنبيه ولو كره القوم ذلك،فلقد عودونا الا يسمعوا إلا ما يطرب مسامعهم حتى لو كان كذبا مع الاسف..ولا يتقبلون النقد البناء الهادف لاستدراك الأخطاء وتصويبها،فأي كلام منافي لما في رؤوسهم ولما يصلهم من خلال حملة مباخرهم لايتقبلوه ويعتبرونه عداءا سافرا،ولكن الوطن اهم والمخاطر تحدق بالجميع والأخطاء ستصل بنا إلى قاع الهاوية السحيق أن لم يتم تداركها. ومن هنا اقول ان نتائج تداعيات الأحداث الأخيرة لايمكن تجاهلها او اخفائها بعد ان صار لها آثارها وتبعاتها في"النفوس" وهذا الاخطر برايي لانها لايمكن ان تمحى وتلغى بسهولة خصوصا وانها اوجدت واقع معاش على الارض وصارت لها قيمة بل وعلامة فارقة في المشهد السياسي الجنوبي،وتحديدا النتيجة التي تفيد بان منطق "إستخدام القوة" في حل الخلافات حول القضايا صار هو المنطق السائد، وبالتالي الاقوى هو من يسود وليس بالضرورة الافضل، وهذه النتيجة ربما ستكون مدعاة لفصائل وقوى اخرى أن تنتهج النهج نفسه،وبالتالي فانه عاجلا أم آجلا الغابن اليوم سيكون غدا مغبون وهكذا دواليك..فيستمر الصراع ومسلسل التشظي والتشرذم الجنوبي الشهير وعودة الجنوب إلى معادلة"قلبة بقلبة" الذائعة الصيت وماقد يستتبعها من تداعيات مروعة على النسيج الاجتماعي والسلم الاهلي والتي بدأت تظهر بعض آثارها المؤسفة بالفعل.
ان الاصرار على تجاهل تعميد مسيرة التصالح والتسامح الجنوبي وتاكيدها وبلورتها وصكها في قالب المصالحة الوطنية التي هي الضامن الحقيقي والدائم بعد الله لحاضر الجنوب ومستقبله وامنه واستقراره،،هو اصرار على معايشة المجهول..فهذه المصالحة بحساب الربح والخسارة وبلغة السياسية ستصب بكل تاكيد في خانة الربح للجميع أن احسنوا النوايا،فعلاوة على انها مكسب للجنوب،سيربح اليمن كله كذلك ان استقر الجنوب وربما يكون ذك مقدمة لاستقراره كاملا بصرف النظر عن بقاءه ضمن الحدود السياسية مع الجنوب من عدمها..وسوف يخدم هذا الاستقرار دول الجوار والمنطقة ايضا ويقلل شيئا من المنسوب العالي للتوتر والصراعات فيها..اذا هذه الخطوة ستحقق "للجميع" وليس ^للبعض" حلا شاملا جذريا ومستداما وليس مجزا مؤقتا وموضعيا،او مرهونا بضروف معينة أو حاجات انية أو أشخاص وكيانات بعينها،لأن الشعب هنا سيكون صاحب المصلحة وسيكون هو الراعي والضامن والحامي لها بوجه من يفكر بالخروج عنها وعن الإجماع الوطني،وان تحققت هذه الخطوة فلن يكون هناك داع لإنتاج نسخة او نسخ جنوبية عن اتفاق السلم والشراكة الذي لم يكن سوى مدخلا لحرب ضروس طويلة اضاعت كل معاني السلم والسلام والشراكة.