نستطيع الجزم ان عدن باتت هي راس الحربة الاوحد في اي صراع او مخاض سياسي يسبق عادة الولادة المتعسرة لمرحلة جديدة ينتظرها البلد .. التاريخ القديم والمعاصر كلاهما يخبرك بأن مدينة عدن لطالما كانت حاضرة الدولة والانظمة السياسية الحاكمة بمختلف توجهتها. فالمدينة المطلة على بحرين هامين وذات الخليط السكاني المتنوع والفريد شكلت قبلة وهدفا استراتيجيا لأكثر من محتل وطامح وفي كل مرة كانت تلك المدينة حينها على موعد مع الثورة والتحرر واستعادة هويتها وهيبتها الشامخة .. لن أجوب بك حقب التاريخ او أسرد لك قصص عدن الباسلة مع الغازة والمستعمرين الذين لفضتها المدينة واحدا تلو الاخر . فقط دعنا نقف سويا امام جزء بسيط من الزمن يجسد فدائية عدن وتضحيات ابنائها خلال أخر خمس سنوات من اليوم .. لم تكتف قوى الانقلاب في أبتلاع صنعاء على الرغم من دلالاتها السياسية الكبيرة بحكم انها عاصمة دولة الوحدة وسقوطها يعني سقوط الدولة ونظامها الحاكم وان البلد باتت بحكم الميت سريريا ريثما يعلن عن ولادة عهد جديد شاء من شاء وأبى من أبى . وهكذا هو أصلا منطق سلطة الانقلاب عبر التاريخ .. كانت مسألة ساعات فقط تسقط خلالها مؤسسات الدولة وتفر منظومة الحكم خارجا حتى نسمع بعدها بيان الانقلاب والاعلان عن سلطة امر واقع ثم دورة إستبداد جديدة تعيشها البلد . ..لكن شيئا من هذا لم يحدث حينما فضل قادة الانقلاب التوجه جنوبا والسيطرة على عدن بحجة جلب الرئيس هادي من هناك. في الحقيقة لم يكن الرئيس هادي ولا غيره هو مبتغى ودافع الانقلاب في ذلك ..! الهدف كان عدن وعدن فقط ولاجل ذلك جيشت الجيوش وشحذت الالة العسكرية وحتى الاعلامية كل امكانتها طالما والوجهة هي عدن بكل ما تعنيه المدينة من ثقل سياسي وموقع استراتيجي هام .. ثلاثة اشهر او يزيد وعدن تعاني حصارا مطبقا وقتلا مروعا ورعبا وتنكيلا أصاب سكانها بلا رحمة .. ثلاثة اشهر او يزيد وعدن لم تنفك مدينة مقاومة صامدة محتسبة وتقدم ابنائها فرادا وجماعات قرابين للحرية وعناوين للفداء .. نعم لقد انكسر مشروع الانقلاب وفشل مخطط اسقاط عدن هذه المرة .. نعم لقد انتصر المشروع العربي الذي لازالوا يتغنون به. لكن من بوابة عدن وليس من نوافذ غرفهم المكيفة .. لا يختلف أثنان في حقيقة أن عدن وإنطلاقا من البعد السياسي والاستراتيجي الذي تمتلكه المدينة وملحمة انتصارتها تلك قد شكلت الضربة القاضية التي كسرت عنق المتطاول الدخيل او كما اسموه ربيب ايران واداة مشروعها الفارسي باليمن. حتى ان البعض وصف ذلك يومها بالانتصار العظيم فيما ذهب الاخر في وصفه بالملحمة التاريخية الخالدة لكني ساعتبر ما حدث ليس الا احد كرامات عدن في قومها وحالة إيثار تتكرر في كل منعطف تاريخي.. عدن التي لم تبخل يوما بعلمها وفنها وحبها وبشاشتها وكل ذخرها تجاه ضيفها قبل اهلها فهل تظنها ستبخل بدماء ابنائها فداء لشموخ وعزة وحرية كل ربوع الوطن وبلا مقابل. هي كرامة تكتنزها عدن وقد وهبها الخالق دون سواه قبل ان تكون بسالة وواجب يقدمه ابنائه تجاه الوطن والجيرة .. تقف عدن اليوم وحيدة مرة اخرى امام منعطف جديد لا يقل بشاعة وظلما عن سابقيه ..وسيظن المرجفون ان المدينة المثقلة بجراح الامس واليوم باتت منكسرة ومهزومة وقد حان وقت قطاف ما صنعته ايدهم العابثة وفسادهم النتن بجسد المدينة وعنفوان ناسها وربما قرب أعلان النصر بتحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه قبل سنوات ظنا منهم بأن المدينة المعجزة والحاضرة المنيعة قد ركعت اليوم .. الاغبياء توهموا بأن سوط الفساد وعصي الخدمات المتردية التي ظلوا يضربون بها جسد عدن لسنوات قد آتت أكلها وان ابواب المدينة قد اضحت مفتوحة لاستقبالهم واستجداء ما تجود به ايديهم الملوثة من بعض مساعدات او طفرة خدمات.ليكتشفوا لاحقا عكس ذلك تماما وان كل ماصنعوه بغية اذلال عدن كان عبثا لا طائل منه؛ بل ليس سوى وخزات قزم سرعان ما سيدوسها العملاق العدني وانها في أعتى صورها لن تصنع اكثر مما صنعته الالة العسكرية المغيرة على عدن قبل سنوات والتي لازلنا نتذكر كيف جرت يومها أذيال الهزيمة والعار .. الحقيقة التي غابت عن هؤلاء وهم يمعنون في مضاعفة عذابات عدن والآمها هي ان الشاب العدني سيظل ..! مغدورا ويبتسم. مطعونا ويضحك . مصادرا بحقه ويشع كبرياء وأنفة. مطحونا بضنك العيش ويتنفس عزة وإباء . مهمشا بمكانته ودوره وينير مهابة وعلوا . منكوبا بلا مغيث ويغني : ياحجة معليش ..معليش .. فهكذا هي دوما المدينة الكريمة العظيمة وهكذا هو ابنها العصامي المغوار .. لا ذنب لهذه المدينة الماجدة سوى ان اسوارها كانت دائما مقابر للغزاة وان بحارها ترفض الجيف. أيعقل ان كل ما صنعته عدن وقدمه ابنائها من خير وتضحية تجاه الوطن والشعب حقا يستدعي ان تكون هذه المدينة محاربة ومهدورة ومتروكة لسنوات بل لعقود دونما إستنفار وإستنهاض لهمم الغيورين عليها كافة؟ والصراخ عاليا : كفى عدن ..توقفوا . أم ان قدر هذه المدينة وناسها الطيبين في ان تنال الجحود والنكران والكفر عقب كل تضحية تقدمها . وانا اشاهد كل ذلك الصلف والتعنت والتنصل امام كارثة السيول التي تجتاحت ازقة عدن ومنازلها في كل مرة وبالعودة قليلا الى مشاهد الملاحم والبطولات التي خلدها ابنائها يتأكد لدي يقينا ان عدن تعيش قهر وأسى النبي في قومه الجاحد ؛ القوم الذين يفترض انهم الاولى بتوقير نبيهم وتكريمه لكنها الخيبة التي لم تغادر حياة الانبياء والسنة التي درجت في مسيرة الرسل والاتقياء وهنا يمكنني القول ان ذات الخيبة والجحود هو ما خلف واقع عدن اليوم وقاد لأن تعيش المدينة مرارة تفاصيله لحظة بلحظة .. (حقا وكما انه لا كرامة لنبي في قومه فإنه لا كرامة لعدن في أدعياء حبها )..هذا هو واقع عدن اليوم لمن لا يدرك حجم الضيم الذي اصاب المدينة وأبنائها .