لم تبارح عدن موجات الصراع السياسي العنيف، ليس فقط قبل الاستقلال الوطني، ولكن قبل ذلك التاريخ بسنوات. كما أن الأمر لم يقف عند الخلفيات التاريخية، بل أن الصراع الداخلي الذي عاشته عدن قبيل إعلان الاستقلال الوطني انسحب على مجمل تفاصيل الحياة السياسية التي تلت الاستقلال. ولا نبالغ لو قلنا أن التداعيات الناتجة عن استمرار الصراع وتكرره في عدن مازالت تبعاتها إلى اليوم. واللافت في صراعات عدن المتلاحقة أنها تتخذ طابع التكرار والتتابع في صورة صاخبة للحالة التي وصل إليها الوضع، ليس فقط خلال الخمس السنوات الماضية فالوضع يعود إلى صراعات الأخوة المناضلين والمناوئين للاحتلال البريطاني ما قبل 1967 بأشهرٍ قليلة، وتكرر بين الرفاق عقب الاستقلال مباشرةً منتصف 1969، بينما اتخذ طابع التصفية في نهاية عقد السبعينيات وتحديداً في 1978، قبل أن يتحول الصراع إلى أكثر دموية في 1986. ويبدو أن متوالية الصراعات التاريخية التي ضربت عدن في نسيجها الاجتماعي، وقسمت أبناءها إلى أقسامٍ موالية وأخرى معارضة تُلقي بظلالها على واقع اليوم وهو وضعٌ بات لا يطاق، فانعكساته طالت الجوانب الخدمية والمعيشية للمواطنين، ولم تقتصر على المجالات السياسية فقط، فهذه الأخيرة تؤثر تلقائياً على مجمل نواحي الحياة. وكما أثرت صراعات الماضي القريب على ثاني أهم ميناء في العالم، وأحالت عدن من مدينة عالمية تحتضن ثقافات الدنيا إلى مدينة للأشباح، يهدد استمرار الصراع اليوم بتكرار هذه المأساة. وهنا تكمن المعضلة الرئيسية التي تنتج عن الصراعات المتكررة، فالمعضلة تتركز في التأثير المباشر على حياة المواطنين والبسطاء من أبناء هذه المدينة التي يبدو أنها "شبعت" صراعاً وحان أوان أن تهدأ. عقود من دفع الثمن: قد يربط كثيرون صراعات عدن بأسبابٍ سياسية أو قد تكون مناطقية، وربما صراع نفوذ، أو أجندات دولية وإقليمية، بحكم حرب الأيديولوجيات التي انغمست فيها عدن عقب الاستقلال مباشرةً لكن كل تلك الأسباب كانت مجرد واجهة لصراعات النخبة التي يذهب ضحيتها البسطاء والمواطنين "الغلابى"، ممن يدفعون ثمن المعاناة، ولا تعنيهم أسباب ودوافع الصراعات التي يكتوون بنيرانها. ولم تقف نتائج الصراعات عند حد المواطنين، بل ضربت مكامن الاستقرار الوطني برمته، وتداعياتها طالت حتى الأجيال التي لم تكن حينها حاضرةً في للمشهد.. تماماً كما هو حال الصراعات التي تعيشها عدن اليوم، والتي من المؤكد أن تؤثر عميقاً في نفسيات الجيل الحالي، الذي يفترض أن يتسلم مقاليد البلاد مستقبلاً واليوم.. لا يستطيع ذي عقل أن يراقب كيف استدعيت نزاعات الماضي وتم اجترارها على واقعنا الراهن، وهو ما يهدد المستقبل، بعد أن التهم الماضي والحاضر.
الهدف من كل هذا التوصيف هو التأكيد على أن الصراعات التي عصفت بتاريخ عدن يمكن أن تهدد استقرار المدينة برمته، ويحولها إلى بؤرة صراع لا تنتهي، الأمر الذي يجعل من مستقبل المدينة وأبنائها على المحك، بعد أن كان ماضيها أكثر إشراقاً من اليوم وهو ما يستدعي إيقاف تبعات دفع الثمن التي يداوم عليها سكان المدينة، ممن يضحون بحياتهم وواقعهم المتردي بسبب صراعات لا ناقة لهم ولا جمل في تلك النزاعات كما أن على أطراف النزاع الالتفات ولو قليلاً إلى المتضررين المباشرين من البسطاء، ووضع حد للصراعات التي أكلت الأخضر واليابس في المدينة. خمس سنوات عجاف: لكن.. في حقيقة الأمر فإن واقع اليوم لا يختلف كثيرًا عن الماضي، فالصراعات ما زالت تضرب كل مفاصل الحياة بمدينة عدن، في متوالية حزينة تؤكد أن المدينة ليست بخير فمنذ 2015 والمدينة تسقط في أوحال الصراعات المتلاحقة، دون أن يتدخل أحد لانتشالها، في ظل استغاثة أبنائها الذين غرقوا في دماء المتصارعين. حيث أدى الاجتياح الحوثي في مارس من ذاك العام في تدمير البنى التحتية لمدينة عدن، لكنه لم ينجح في تفكيك عرى النسيج الاجتماعي لأبناء عدن، والذي لم يكن يوماً في أوجه وقمته كما كان حين الغزو الحوثي للمدينة. غير أن كل شيءٍ بدأ بالانحدار والتلاشي بمجرد تحرير المدينة من مليشيات الحوثيين، وتوالت الصراعات السياسية تعصف بحياة المدنيين والمواطنين، وتحيل واقعهم إلى جحيم وعادت الصراعات الداخلية تهدد واحدية الصف والموقف العدني، وتعددت النزاعات التي ترافقت مع مواجهات عسكرية مسلحة عنيفة جعلت استقرار المدينة في مهب الريح. والملاحظ في تلك الصراعات أن مسبباتها ارتبطت بعوامل خطيرة، لها صلات قوية بماضي وتاريخ النزاعات التي ضربت عدن في الصميم بل إن ما عاشته عدن خلال الخمس السنوات الماضية يكاد يتفوق بمراحل على ما حدث للمدينة منذ فترة ما بعد الاستقلال الوطني من الإنجليز. حيث كانت الأنظمة المتعاقبة تعود لترمم ما أحدثه الاقتتال والصراع في المدينة تماماً على العكس مما يحدث الآن، حيث تكتفي المكونات المتصارعة على التفكير بالغلبة، دون الاضطلاع بمسئولية الترميم والإصلاح عقب تحقيق أهداف، حتى أنها أحياناً تدفع نحو مزيد من التدمير والنزاع صراعاتٌ متلاحقة شهدتها السنوات الخمس الماضية، كانت وطأتها شديدة على الحياة في عدن، بل أنها تسببت في نسف النسيج الاجتماعي، وفرزت أفراد المجتمع إلى فئتين متناقضتين. ولعل ذلك أسوأ وأخطر ما اقترفه الصراع في عدن، أنه أوغل عميقاً في صفوف أبناء المدينة وجعلها على صفيحٍ ساخن لا ينتهي من الاتهامات والمماحكات التي أوقفت عجلة الحياة والتنمية. محطات من الصراع العبثي: لم يكن هناك يوماً صراعٌ- على مر التاريخ- غير عبثي، فجميع الصراعات لا غاية لها سوى الاستحواذ والسيطرة واستعراض القوة، ولم يكن همها أبداً تطوير حياة الناس والمواطنين نتحدث هنا عن الصراع في عدن الذي مر بالعديد من المحطات والمراحل الدموية والمزعجة خلال الخمس السنوات الماضية، والتي لم تزدد الأوضاع عقب كل صراع سوى سوءا وتدهورا. فليس هناك ما هو مجدٍ من الصراع الذي لم يخلق تحسناً، ولم يصنع تطوراً ولم يتغير الوضع نحو الأفضل في مختلف مراحل الصراع فعقب تحرير عدن من مليشيات الحوثي في 2015 دخلت المدينة نفقاً مظلماً من الصراعات، كان فتيلها وشعلتها هم أبناء المدينة، الذين تفرقت ولاءاتهم بين المتصارعين فحتى حملات تخليص عدن من التنظيمات المتطرفة في 2016 لم تسلم من الهجوم والتقليل من غاياتها وأهدافها، واتخذ البعض مواقف مناهضة ضد الأجهزة الأمنية التي تنفذها. وتبعات 2018 كانت مقدمة لما شهدته مدنية عدن من انقسامٍ، في أغسطس 2019، وما أعقبه من محاولات توسيع رقعة الصراع ليشمل جميع محافظات الجنوب، ويضع مزيد من "الملح" على جراحات عدن الموغلة في الألم ولعل أحداث أغسطس الماضي، ما زالت تداعياتها مرشحة نحو مزيد من الألم والجراح التي ينال أبناء عدن النصيب الأكبر منها، للأسف وهو ما يرشح المدينة للمرور بحلقات جديدة من سلسلة الصراعات؛ بناءً على ما يُشاهد من معطيات ومقدمة مرشحة نحو المزيد إذن.. ما دامت تلك الصراعات بلا جدوى، وجميعها صراع عبثي.. فلماذا الاستمرار على هذه الوتيرة؟. صراعٌ بارد! لم تقف الصراعات عند الأنواع العنيفة والحادة التي كانت الدماء عنوانها الأبرز، فالمرحلة الراهنة التي تعيشها عدن تؤكد أن هناك صراع من نوعٍ جديد كان وليد نتائج الصراعات السابقة. إنه صراع تنفيذ اتفاق الرياض، بين الطرفين الموقعين عليه، فمنذ نحو خمسة أشهر ونيف مازال هذا الاتفاق محل مثار للجدل، خاصةً وأن التوقيع عليه كان منذ ذلك الحين، وحتى اليوم، لم يدخل حيز التنفيذ. وهو ما جعل البعض يصف صراع اتفاق الرياض بأنه صراع بارد، يكتفي فيه طرفا الاتفاق بكيل التهم للطرف الآخر بالتعميد بتعطيل الاتفاق وعدم تنفيذه وحتى ولو كان هذا الصراع بارداً إلا أن ما يترتب عليه لا يبدو أنه سيكون بذات الصفة من البرودة، فالاتهامات تتضمن تهديدات عسكرية ومسلحة، من المحتمل أن تكتب مرحلة جديدة من مراحل الصراعات المتلاحقة التي ملّ منه العدنيون. فالأحداث الأخيرة والتطورات التي عاشتها عدن قبل أيام في محيط مطار عدن ومديرية خورمكسر تنذر بتجدد الصراعات، والتي لا يتمناها أحد والصراع القائم على اتفاق الرياض يضيف مأساةً إضافية على مينة عدن، والتي احتفى أبناؤها بالاتفاق حين تمت مراسيم توقيعه، لكنهم انصدموا بواقع التنفيذ الأليم الذي قد يقود لمرحلة صراع جديدة وهو ما لا يتمناه العدنيون الذين بنوا أحلام الاستقرار بين المتصارعين على هذا الاتفاق، ولهذا فإن العدنيين يعتقدون أن مزيدا من الصراع يعني مزيدا من الظلم والقهر لا يستحقه أهالي المدينة. تهجير ومعاناة: كما فعلت صراعات الماضي، التي نتج عنها هجرة قسرية لرؤوس الأموال المحلية والعالمية من مدينة عدن؛ وهو ما جعل المدينة تتحول إلى قرية أشباح. فالتهجير عن المدينة، ومغادرة التجار ورجال الأعمال كان نتيجة حتمية للواقع الذي تلا مواجهات المتصارعين المتكررة في عدن، وليس فقط أحداث أغسطس الماضي كما أن هناك العديد من أنواع المعاناة الأخرى التي ترتبت على مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية والتنموية، فالحياة في عدن بعد 2015، ليست كما قبل هذا التاريخ. ومن الطبيعي أن يكون للحرب التي شنتها مليشيات الحوثيين على البلاد بأسرها تداعيات ونتائج كهذه، لكن الأمر لم يكن مناطاً فقط بالحوثيين، فالأطراف الداخلية معنيةٌ هي الأخرى بالأمر، وتتحمل المسئولية عما وصلت إليه مدية عدن من معاناة وتدهور فليس يخفى التردي في الخدمات العامة للمواطنين في عدن، وهي قضية تتحملها الأطراف المتصارعة التي تسببت تردي الأوضاع ولم تلتفت لما يحتاجه المواطن، بل راحت تركز على صراعاتها الضيقة مع الخصوم، وتركت المواطن غريقاً في مستنقعات الخدمات المتعثرة. بالإضافة إلى إهمال الجوانب التنموية والنهوض بالاقتصاد العدني، الذي لم يتعاف منذ 2015، نظرًا لانشغال المتصارعين إما بالفساد أو الاستحواذ وتوزيع الثروات وتقاسمها، دون أن يتصدر المواطن اهتمامات أيٍ من المعنيين بالأمر. وفي ظل هكذا أوضاع، من الطبيعي أن تتحول عدن إلى مكانٍ عير صالح للعيش في حالة استمرت الصراعات، وهي نتيجة كنا نتجنب الحديث عنها أو ذكرها، لكن هذه هي النتيجة الحتمية لتركيز المتصارعين على تفاصيل الخصومة وصغائرها، وإغفال احتياجات المواطنين الضرورية. تقسيم المجتمع: وما يندى الجبين، ويحز في النفس أم تتحول مدينة السلام والانفتاح والقبول بالآخر- عدن- بتاريخها العريق في هذا المجال، إلى مدينةٍ تنهشها الصراعات والانقسامات بين شرائح المجتمع الواحد فمن الطبيعي أن تؤثر سياسات السياسيين والعسكريين على البسطاء، حيث تتحرك آلات المتصارعين وأدواتهم الإعلامية للتأثير على المواطنين، وكسب أكبر قدر ممكن من التأييد والمؤازرة، وهذا ينعكس على حالة التعايش التي كانت عدن تتغنى بها فيما مضى مما يؤدي إلى وجود فئتين متناقضتين من المنتمين لكل جهة، إن لم يكن هناك العديد من الفئات تبعاً لتعدد المتصارعين. وكل ذلك يتسبب بانقسام المجتمع العدني، ورفض الآخر، وهي قيم لم تعرفها عدن طيلة تاريخها، وهي المدينة التي عرفت ذات يوم بأنها مدينة "كوسموبوليتانية"، وهو مصطلح دقيق يعني المدينة العالمية التي تحوي مختلف الأعراق والأجناس وحتى الأديان، التي تتنوع وتتعد لدرجة التناقض أحياناً. وإذا استمرت حالة الصراعات، وما يتبعها من فرز وانتماءات وولاءات ضيقة تقصي ولا تجمع، فإن عدن في طريقها للتخلي عن كونها مدينةً منفتحة متعايشة. هل آن الأوان لكي تستقر عدن؟ وسط كل هذا الكم من الصراعات المستمرة، وهذا الكم من التحديات التي تهدد هوية عدن وقيمها وتقاليدها المنفتحة، ينبغي لأطراف الصراع أن يتيحو المجال لشيءٍ من العقل. فالمدينة، بل والوطن بأسره يتسع للجميع، ولا مكان للإقصاء في بلدٍ عُرف بتنوعه وتعدده، الطائفي والمذهبي والديني، وليس العرقي فقط. ولهذا يجب على الدولة أن تتسيد المرحلة المقبلة، وعلى الجميع القبول بخيار الشراكة وعدم الإقصاء، ووضع حد للتشتت والتهميش، كمت يجب الانفتاح على الآخر حتى لو كان شديد الاختلاف وكل ذلك لن يصب إلا لمصلحة مدينة عدن، التي يبدو أنه قد حان الأوانلاستقرارها وعودة أمجادها من جديد.