هناك من الجنوبيين من يشبه عسف الطغمة العسكرقبلية القادمة من الشمال بأبناء الجنوب بالاحتلال. لكن ليسمح لي أصحاب هذه النظرية بأن أخالفهم التوصيف لعدة أمور هي : 1- إن الاحتلال كان متحضرا فعمر البلاد و حافظ على ثرواتها وسن القوانين التي تنظم البلاد. لكن الطغمة العسكرقبلية نشرت الدمار و الخراب و القتل في ربوع الجنوب و أماتت حكم القانون لغير الأثرياء و المتنفذين.
2- لم يكن حينئذ سطو ونهب للأراضي بل وضعت القوانين و النظم و المخططات الجيدة التي كانت تحمي الأراضي من النهب أو العشوائية في التخطيط و تُمكن بسطاء الناس من الحصول على أرض ليبنوا عليها بيوتهم. ولم يكن أحد من قوات الاحتلال يملك قطعة أرض واحدة في عدن بل كانوا يسكنون في مساكن تتبع دولتهم. و كانت دولتهم إن أرادت أرضا من اليمنيين اشترتها. بينما دأبت الطغمة العسكرقبلية ترسل أوباشها من ضباط و جنود ليقوموا بالسطو المسلح على أراضي الجنوبيين. وخربت القوانين و النظم وبسطت على الأراضي و راحت تضارب بها حتى أوصلت الأراضي إلى أسعار خيالية و أعجزت الكادح أن يظفر ببقعة تؤويه.
3- كانت قوات الاحتلال في أثناء حرب التحرير تحترم قواعد الاشتباك فلا تطلق النار على المدنيين حتى إن كانوا من المحتجين على وجودها, بينما لا ترى قوات الطغمة العسكرقبلية حرمة للمدنيين و ليس لديها أي قواعد للاشتباك بل بلغت بهم النذالة و انعدام الدين و الخلق أن يطلقوا الرصاص على الأطفال و النساء حتى بيوتهم, و ما قصة الشهيدة فيروز اليافعية عنا ببعيدة. وقد كانت قوات الاحتلال تطلق النار على المسلحين من الثوار و تواجههم ببسالة بينما تواجه قوات الطغمة العسكرقبلية المسلحين بنذالة حين ترى منهم العين الحمراء فيطلقون سيقانهم للرياح إن أسعفهم الوقت أو يستسلمون مطأطئي الرؤوس. أسود على النساء و العزل نعاج أمام حمران العيون.
4- أنشأ الاحتلال في عدن بنية تحتية ممتازة جعلت منها مدينة متحضرة تواكب عصرها فكانت أول مدينة تدخلها الكهرباء و شبكات المياه و الصرف الصحي في الجزيرة العربية, بينما خربت الطغمة العسكرقبلية كهرباء عدن و أدخلت سياسة تعذيب بغيضة لم يعرف العالم المتحضر لها مثيلا هي سياسة " طفي- لصي" , فكانت هذه الطغمة تطفئ الكهرباء في المناطق الجنوبية الساحلية و تستلذ بسلق جلود أهلها تحت الحر و الرطوبة الشديدين. فضلا عن ذلك تقطع المياه ليجتمع الحمى و الظما لنا. 5- أرسى الاحتلال البريطاني دعائم نظام قضائي حديث, لم يكن يحكم بشرع الله لكنه كان يوفر عدالة نسبية, وفصلا سريعا في المنازعات, و يأخذ على أيدي الجناة, بينما خربت الطغمة العسكرقبلية – و يا للهول تحت زعم الحكم بالشريعة الإسلامية الغراء- القضاء و أفسدت ضمائر المشتغلين به و جعلت العدالة في صف المتنفذين أو من يدفع أكثر و أطالت المنازعات بين الناس حتى إن بعضها لتستنفد عمر خائضيها.
6- أنشأت سلطات الاحتلال أول مستشفى في جزيرة العرب في عدن وكانت تهتم بشؤون الصحة العامة و توفر التطبيب و الدواء المجاني. بينما خربت الطغمة العسكرقبلية الصحة العامة في الجنوب و اليمن كلها و أدت سياساتها إلى جعل اليمن مباأة خصبة لأمراض السرطان وغيره.
7- ظل البريطانيون لمد 129 عاما لا يتدخلون في معتقدات اليمنيين و لا بأحوالهم الاجتماعية, و أخذ عليهم أنهم جلبوا بعض البغايا من أفريقيا إلى السيسبان ليشبع الجنود البريطانيون شهواتهم و ليتجنبوا أذية السكان المسلمين المحافظين. أما الطغمة العسكرقبلية ففي 10 سنوات أو أقل تمكنت من إفساد كثير من الأمور في المحافظات الجنوبية و لا سيما عدن فسمحت لمروجي الحبوب بأن ينفثوا سمومهم لتفتك بالشباب, و نشروا فسادا عظيما, وساهموا في إيجاد أجواء تدفع لارتكاب الرذيلة, وقاموا بقوة الأمن بحماية المباغي و الخمارات لقضاء أوطارهم المحرمة و لقضاء مآرب دنيئة أخرى و بعد أن كان في عدن مبغى أو اثنين صارت تحت حماية الطغمة العسكرقبلية تزيد اليوم على العشرين تحت مسمى فنادق يملكها المتواطئون مع الطغمة العسكر قبلية.
8- وضع الاحتلال البريطاني الأسس الأولى لتعليم حديث ووضع مدارس ترتقي بعقل الطالب وتنمي مداركه, و قد أخرجت هذه المدارس كوكبة من المثقفين و السياسيين اللامعين من أهل الجنوب والشمال, بينما خربت الطغمة العسكرقبلية نظام التعليم في الجنوب و أضاعته و أوجدت فيه جيلا جاهلا. لكل ذلك أعتقد أن ما تقوم به الطغمة العسكرقبلية في الجنوب ليس احتلالا, لأن الاحتلال على مساوئه كان حضاريا بنائيا أما هؤلاء فسرطان ينخر في جسد الشعب و يميته ببطئ.