كانت زيارة عدن حلم يطمح له أطفال القرى البعيدة، المنبسطة على جبال يافع العالية، لا نتمالك فرحتنا إذا سمعنا عن قدوم أحدا منها، نحتلق عليه، نسأله عن عدن؟ فيخبرونا عن المستشفى الذي يطيب المرضى فور وصولهم إليه، الدكتورة الروسية التي تعالج مرضاها بابتسامتها دون أن تتعب نفسها بحياكة الكلمات، والغربان التي تلقي تحية الصباح من الشبابيك للمرضى، والتلفاز الذي تسمع دقات قلبك من خلاله، لأن زيارة عدن لا تكون إلا لمرض عادة. كنت أشد الأطفال شوقا لزيارة عدن، للعلاج السري الذي تملكه الدكتورة الروسية، لسماع دقات قلبي في التلفاز، لرؤية الغربان وهي تلقي تحية الصباح من الشباك. بحثت عن السبب الذي يفعله الآخرون من أجل النزول إلى عدن... وفي ذات ليلة ممطرة، شديدة البرودة، تعمدت أن أترك وجبة العشاء متحججا برغبتي الشديدة بالنوم باكرا، ذهبت إلى مخزن الخضروات وأخذت رأس بصل، انطلقت إلى الغرفة، بسطت فراشي بركن الغرفة، غطيت نفسي بكل اللحافات ولم أترك لأخوتي لحافا، وضعت البصل في إبطيّ بعد أن قسمته. ارتفعت حرارتي، وأخذ الجوع يطوي معدتي، صرخة بأعلى صوت .. اماااااااه ، اماااااه أموت، مريض، سمعتني أختي الصغرى لكنها لم تعرني اهتماما، يبدو أنها سبقتني بهذه الخطة. انتظرت حتى الساعة العاشرة، العرق يتصبب من كل جسدي، تحول ألم الجوع إلى مقص شديد، يبدو أنني مرضت فعلا، لقد أعددت خطة حتى أنني خدعت بها نفسي وصدقتها. نامت أمي، ونام أخوتي بعد أن اعطوني كبسونات، كان من المفترض أن أبتلعها بعد الغذاء، لكن لا طاقة لي بالطعام، أنا مريض! لم يظهر مفعول الدواء عليّ، الحرارة لم تنخفض، وألم المعدة في ازدياد، الظلام مخيف في الغرفة، الكل نائم، لا أحد هنا يصدق كذبتي غيري!! أمااااه .. كانت مناداة شبيهة بالتنهيدة الأخيرة التي يلفظها محتضر قبل مغادرة الروح. - نعم .. . جدي يسلم وينه؟ - بسم الله يا صالح جدك مات له سنة، تعوذ من الشيطان وأرقد معك مدرسة الصباح. . لا جدي ما مات.. الآن جاء وجلس جنبي، وقال لي أخرج من الغرفة وتعال عندي.. فين هو يا أمه؟ أشتي أروح عنده. - بسم الله على ولدي.. جعلني فداك واصالح حرارتك مرتفعة. . وبطني عادها بتاجعني، ورأسي أحسه انفجر، جدي قال أروح عنده بعد قليل لأنه مستعجل. - وانكدي على بني.. خرجت أمي من الغرفة وهي تبكي، وتركتني أبكي في الغرفة، خفت أن لا أراها مرة أخرى، فلا أظن المرض سيغادرني، نعم سأرافق جدي يسلم هذه إشارة زيارته لي. لقد صدقت أمي، وكذلك أنا.. جاء عمي أنور، حملني مسرعا، قامت الأسرة كلها، كبيرها وصغيرها، ما زالت نظراتهم في مخيلتي إلى هذه اللحظة، كانوا يبكون بصوت مرتفع، حتى أختي كانت تنتحب. قبل أن نخرج من باب المنزل، قررت أن أسمح لروحي أن تغادر، لقد اكتفيت من هذه الحياة، الكل يحبني، ماذا سأجد أكثر من هذا!؟ أطلقت زفراتي الأخيرة، أخفيت حدقات عيني، أخرجت لساني من بين شفتي.. - واربي استر،.. صالح .. صااااالح .. سمعت تلك الأصوات لكنني كنت ميتا، كيف لي أن أجيب، نعم الميت يسمع لكنه لا يستطيع أن يتحدث، هكذا أخبروني عندما ماتت جارتنا أم ياسر. انطلقت السيارة، باتجاه عدن، فالحالة خطرة ولا وقت يضيعونه في مراكز المديرية السيئة السمعة، والتي تدخلها مريضا وتخرج منها مريضا، أو ميتا.. كانت السيارة مسرعة، كنت أتمنى أن أكون على قيد الحياة حتى أشاهد الطرقات، والسيارات التي تمر بالقرب منا، وصلنا عدن وما زلت ميتا، أخرجوني من السيارة باتجاه المستشفى، وعندما دخلت البوابة فتحت عينيّ! ما زلت على قيد الحياة؟ نعم هذه عدن، التي يشفى الناس في أبواب مستشفياتها، أدخلوني غرفة الطوارئ، كان عمي أنور فرحا بحياتي الجديدة، وكذلك أبي الذي وجدناه في منطقة العسكرية التي يعمل فيها تاجرا للقات، لم أصافحه عندما التقانا لأنني كنت ميتا، لكن دموعه الصامتة كانت تتساقط على وجهي على طول الطريق. فسألتهم أين الدكتورة الروسية؟ أجابني عمي أنور، هذه أمامك. . لكن هذه تتكلم، وما تبتسم!! سمعت كلامي فابتسمت.. والآن ؟ لا مش أنت الروسية. - أني هندية.. . لا لا أشتي الروسية ولا أرجع أموت.. ضحك أبي وضحك عمي .. الله عليك يا صالح خوفتنا، وأقلقتنا من أجل تشوف الروسية. . لا مش الروسية وبس والله، باقي الغراب، والنافذة، والسيارات. - زادت الضحكات حتى الدكتورة الهندية ضحكة، وحارس البوابة، وضحكة متقطعة من رجل عجوز ممتد على سرير الطوارئ. أخذتني الهندية للطابق العلوي لتريني زميلتها الروسية، ورأيت الغربان تطير في سماء حديقة المستشفى، ثم نزلت وأخذني والدي إلى الشيخ عثمان، اشترى لي ملابسا جميلة، رأيت السيارات، أكلت خبز الدبل الرطب لأول مرة في حياتي. غادرنا عدن، وأنا أشعر بالفخر بنفسي، لقد حققت حلمي، سأحكي للأطفال ما رأيته بالتفصيل الممل ويزيد، ولابد من الزيادة! وفي العسكرية نزل أبي من السيارة، وجاء عمي " عبد " يطمئن على صحتي _ هو الآخر يعمل في تجارة القات _ أخبروه بالقصة كاملة، شعرت بالخجل وتمنيت لو لم أفعل كل ذلك، كنت منتظرا أن يبدأ بالتوبيخ، لكنه قال ممازحا: شلك واصالح كنت تروح البحر والملاهي، ما المستشفى قده معك برصد؟؟؟ البحر.. الملاهي .. لم أسمع بهما من قبل! سأصنع خطة جديدة!!