تفاعل شعبي مبكر.. اليمنيون يحتفلون بذكرى تأسيس الإصلاح وثورة 26 سبتمبر    اليمن يفاجئ "إسرائيل" وشركاءها: موقف ثابت وعمليات متصاعدة    فريق القدس يتوج بطلا في ذكرى المولد النبوي الشريف    مدريد تستدعي سفيرتها لدى إسرائيل وتعلن إجراءات لوقف "الإبادة في غزة"    شرطة تعز توضح بشأن اختفاء عدد من الأطفال والفتيات    62 تغريدة صنعائية في حب "التي حوت كل فن": من يبغض صنعاء فإن له معيشةً ضنكًا*    62 تغريدة صنعائية في حب "التي حوت كل فن": من يبغض صنعاء فإن له معيشةً ضنكًا*    1200 من عمّال السينما ينتفضون: لا للتواطؤ مع جرائم الحرب    اليمن الأولمبي يواجه فيتنام في "نهائي مبكر" لتحديد التأهل    سياسي انصار الله يبارك عملية القدس    أمن الضالع يكشف عن 11 جريمة مجهولة    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 4 من جنوده شمالي غزة    الرئيس الزُبيدي يناقش مع فاجن إنجازات لجنة الإيرادات السيادية    الإعلام العبري يتشح بالسَّواد بعد مقتل 7 صهاينة في القدس    اليمن يودع "سفير الأغنية المهرية" محمد مشعجل    الستر.. أعظم درس في التربية    رئيس انتقالي لحج يطلع على الأوضاع الاقتصادية والعسكرية في مديرية يافع الحد    برعاية وزير الزراعة والري والثروة السمكية كاك بنك يدشن خطتة الاستراتيجسة الخمسية 2029/2025.    اللجنة الاستشارية تناقش مشروع اللائحة التنظيمية للإطار الاستراتيجي للحماية الإجتماعية    تعز.. وكلاء تجاريون في "الحوبان" يهددون بمقاضاة مجموعة هائل سعيد بسبب خسائر بمليارات الريالات    وزراء خارجية اللجنة العربية الإسلامية يرفضون تصريحات الاحتلال بشأن تهجير الفلسطينيين    تهديدات تطال الصحافي بكران بسبب مواقفه من أتباع بن حبريش    الهبوط الوهمي: ما الذي حدث؟ ولصالح من يحدث؟    روسيا تعلن عن لقاح جديد "جاهز للاستخدام" ضد السرطان    خبير مالي يوضح حول اسباب شح السيولة من العملة الوطنية بعد الاجراءات الأخيرة للبنك المركزي بعدن    النائب العام يوجه نيابة استئناف الأموال العامة بحضرموت بالتحقيق في بلاغ منع مرور المحروقات    الأرصاد يتوقع أمطاراً رعدية على عدد من المحافظات    تشييع جثمان الشهيد المقدم لطف الغرسي في صنعاء    الوزير البكري يعزي في وفاة أمين عام ألعاب القوى عبيد عليان    فريق التوجيه والرقابة الرئاسي لشؤون المنسقيات يطلع على احتياجات جامعة أبين    بهدفي البرواني وجراش على عُمان.. المنتخب اليمني للشباب يضرب موعداً في النهائي لملاقاة السعودية الخميس القادم في كأس الخليج العربي    الإسباني كارلوس ألكاراز يحرز بطولة أمريكا المفتوحة للتنس للمرة الثانية    طفل يقود مركبة يدهس طفة في مارب    تعز.. حملة ميدانية لإغلاق شركات الأدوية المخالفة للتسعيرة الجديدة    طنين الأذن .. متى يستدعي القلق؟    الذهب يستقرقرب أعلى مستوى قياسي    اعتراف مثير من مبابي بشأن باريس    اكتشاف عجائب أثرية في تركيا    عدن .. قضاة وموظفون يرفعون الإضراب ويعلنون عن اتفاق يعالج مطالبهم    إسرائيل تكشف بنود مقترح امريكي لصفقة تبادل أسرى في غزة وحماس ترحب    ناشطة تحذر من توسع ظاهرة اختطاف الأطفال وتدعو الجهات المعنية لتحمل مسؤولياتها    الجاوي: اليمن لن يُحكم بعقلية الغلبة ومنطق الإقصاء    العلامة مفتاح يزور وزارات العدل والخارجية والثقافة ويشيد بإسهامات وزرائها الشهداء    الحارس وضاح أنور يستحق الثناء والمديح    رئيس الوزراء يشيد بإنجاز منتخب الشباب ويؤكد: أنتم فخر اليمن وأملها المشرق    النعيمي يؤكد أهمية استكمال السياسات الزراعية ويشيد بإسهامات الشهيد الدكتور الرباعي    بحشود ايمانية محمدية غير مسبوقة لم تتسع لها الساحات ..يمن الايمان والحكمة يبهر العالم بمشاهد التعظيم والمحبة والمدد والنصرة    دائرة الشباب في الإصلاح تهنئ المنتخب الوطني للشباب بتأهله إلى نهائي كأس الخليج    وفيكم رسول الله    يوم محمدي    بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف 1447ه .. بريد منطقة الحديدة يكرم عدداً من كوادره المتميزين    كتاب قواعد الملازم.. وثائق عرفية وقبلية من برط اليمن " بول دريش جامعة أكسفورد" (12)    الحوار أساس ومواجهة الاستكبار نهج    مرض الفشل الكلوي (20)    اكتشاف تأثير خطير لمرض السكري على القلب    للمعاندين: هل احتفل الصحابة بالمولد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام    حلاوة المولد والافتراء على الله    مدينة الحب والسلام (تعز)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جئتِ أنتِ
نشر في عدن الغد يوم 24 - 08 - 2020

يزور أمه على الأقل مرة كل أسبوع بعد إصرارها على عدم الانتقال من بيتها رغم عجزها عن الحركة. يحمل إليها فاكهة يناولها للشغالة التي ترعاها، ثم يدخل حجرتها ويقعد على طرف السرير عند قدميها وهي جالسة محنية للأمام تراخت يداها في حجرها كجناحي طائر لا يرفرف. يزورها ولا يملك لها شيئا سوى أن يضحكها، أن يروي لها كل ما يستحضره من مفارقات وطرائف، فإذا لمعت بسمة في عينيها همس لنفسه "الله!". وحتى حين تلقى بجسدها للخلف وتتلمس برأسها موضع الوسادة وتنعس، فإنه يمسد جبينها ويحكي، يتأمل جفنيها المغلقين مثل سحابتين على قمرين متعبين، ويواصل الحكي، فقد هجس في نفسه دوما أن للعقل أثناء النوم صحوته الخاصة، مثل حديقة في ليل، تتنفس، تحت ضوء آخر.
دخل حجرتها. جلس. اطمأن عليها. قال لها "صحتك تمام". مازحها بقوله إن منظمي بطولة التنس ينتظرون قرارها إن كانت ستشارك أم لا؟. فحنت عليه بابتسامة خفيفة. حاول أن يطعمها بيده قطعة لحم مسلوق. نهض يدلك قدميها بيديه. خطرت بباله الحكاية التي وقعت منذ عشرين عاما. ذكرها بها فغمغمت بوجه متحير "لا أذكر". ألح على تذكيرها ببعض التفاصيل وهو يضحك. سألته بتشكك "أتختلق الحكايات؟". سددت نظرة إلى الماضي تستفسر "هل حدث هذا؟". قهقه مؤكدا عبر أنفاسه المتقطعة "نعم". وحدق فيها بعينين لامعتين ووجه متورد من الانفعال.
بشرود وتعب تحاول بما تبقى من يقظة العقل أن تقبض على ظلال تتلاشى في عتمة. يؤلمه عجزها عن الحركة. يضع يدها بين كفيه ويضغط عليها بحنان.
يحكي لها.
"منذ نحو عشرين عاما، حين كان طالبا في الجامعة، اعتقلوه مع عشرات من زملائه الآخرين، وبعد أسبوعين فاجأه ألم شديد داخل الزنزانة، فنقلوه إلى مستشفى قصر العيني لإجراء عملية".
بسبب كلمة عملية يتوتر وجهها، يفزع قلب الأم لابنها حتى من أمر وقع له في الماضي ولا تذكره. يطمئنها: "كانت عملية بسيطة. لاتقلقي".
يحكي لها.
"وصل إلى المستشفى بحراسة شاويش، وعلى الفور أخلوا له مكانا في حجرة معزولة في نهاية ممر طويل. دخلها ومن خلفه الشاويش يدير عينيه في المكان يتفحصه، وعندما اطمأن إلى أنه ليس بالحجرة سوى شباك عليه قضبان جرجر كرسيا وثبته قرب الباب وحط عليه. أما الشاب فأرخى حزام الحقيبة الصغيرة المعلقة على كتفه وتركها على كومدينو. استدار وألقى نظرة على السرير المقابل. رأى رجلا يناهز الأربعين. رأسه مرفوع على وسادة ويداه معقودتان فوق نصف صدره يتنفس بصعوبة ويدير عينيه بقلق بين الشاب والشاويش. أخذ الشاب يتأمله، فقبض الرجل على طرف الملاءة وسحبها مختفيا بالكامل تحتها. اتجه الشاب نحو الشباك الصغير. في الصمت المخيم كانت تصله صافرة حشرجة أنفاس الرجل من تحت الملاءة. سمع سعلة شديدة فالتفت إلى الرجل "سلامتك. تحتاج أي شيء؟". لكن الآخر مال على جنبه ببطء دون أن ينطق وجعل ظهره للشاب ووجهه للحائط. خمن الشاب أن الرجل يخشى الكلام معه مقدرا أنه "خطر" مادام ثمة شاويش يحرسه.
هنا تسأله باستنكار وقلق "أنت خطر؟!". يقول "نعم". تستغرب "أكنت هكذا من صغرك؟". يقول مبتسما "طوال عمري كنت شقيا يا أمي". تمط شفتها بعدم تصديق. تسأل "أتختلق الحكايات؟".
يحكي لها.
"بعد ساعة من وصول الشاب أجروا له العملية الجراحية. ومر يوم، والثاني، والثالث، كان الرجل خلالها يطل برأسه من تحت الملاءة ساعة الطعام فقط. يأكل ويرسل للشاويش نظرات متلاحقة بما معناه "كما ترى أنا لا أكلم الشاب ولا علاقة لي به". حين ينتهي من الأكل يتنهد بأسى ويختفى تحت الملاءة. ثم جئتِ أنتِ..".
هنا تنتبه الأم. تشتعل عيناها بالنظرة الصافية القديمة، كأنما انتفض فيها العصب القوي المرتبط بكلمة "أنتِ". تفكر "أنا؟ كيف جئت؟".
يحكي لها.
"ثم جئتِ أنتِ.. حين فوجيء الشاب صباح اليوم السابع بيد تدفع باب الحجرة، وبأمه واقفة تسد فتحة الباب كشراع مركب. كان الشاب قد تمكن من تهريب رسالة لبيته بأنه بمستشفى كذا حجرة رقم كذا مع مريض آخر. لكنه لم يتوقع أن تصل الجرأة بأمه حد زيارته دون أن تبالي بأن الزيارة ممنوعة. نعم. جئتِ أنتِ..".
تفتح عينيها بدهشة "أنا؟". يقول "نعم".
يحكي لها.
"كتم الابن شهقة المفاجأة حين رأى أمه واقفة وهي تضم إلى صدرها كيسا ورقيا يبرز من حافته برتقال وأصابع موز وهي تقلب عينيها في الحجرة بنظرة من يفتش عن وليده في اللهب".
هنا ترفع رأسها كأنما فوجئت بظهورها في حكايته. تضيق عينيها العجوزتين الصافيتين مثل نسر نسي التحليق. تقول "هل حدث هذا؟". تسكت مبهورة بامرأة تتخيلها لكنها لا تتذكرها.
يحكي لها.
"هب الشاويش واقفا يصدها. قالت "جئت أزور سي خلوصي" وأومأت برأسها ناحية سرير الرجل الآخر! تفحصها الشاويش بشك ثم عاد لجلسته وللجريدة التي بيده. توقفت بين السريرين في منتصف الحجرة. ألقت نظرة على ابنها وحبست دموعها. جلست على حافة سرير الرجل الآخر ووضعت كيس الفاكهة بينها وبينه. خاطبت الرجل لكن وهي تحدق في ابنها "والله ياسي خلوصي العائلة كلها تسأل عنك وفي غاية الشوق". ثبتت نظرتها على إبنها "في غاية الشوق يا حبيبي". أدرك الرجل أنه المقصود بخلوصي وأنه أصبح شريكا في تدبير زيارة ممنوعة، فأخذ يائسا ينظر تجاه الشاويش لينبهه لما يجري. استدارت الأم بجسدها ناحية ابنها "وأختك تبلغك سلامها". سحب الرجل الملاءة على رأسه واختفى تحتها. أمسكت بالملاءة وأنزلتها بالقوة لأسفل "وأبوك يقول لك إذا احتجت فلوس اكتب له". شد الرجل الملاءة. سحبتها ناحيتها. شدها، سحبتها. وظلا يتجاذبان طرف الملاءة بسرعة متزايدة وهي تكرر "ياعين أمك ياضناي". فجأة نهضت واندفعت إلى سرير ابنها تضمه وتبكي هاتفة "يا حبيبي يا ابني".
تحدق فيه. تحاول أن تتذكر تلك العاطفة الساخنة. تحاول أن تقتطف باقة المشاعر الحارة. تحاول أن ترى هل يمكن لوهج إحساس انقضى ولا تذكره أن يتقد مجددا؟. شيء يمتد مطمورا بين الأزمنة ولا يندلع. تؤرجح رأسها يمينا ويسارا وفي عينيها أسف لأنها لا تستطيع أن تتذكر اللحظات التي كان فيها قلبها عامرا بالدفء والشجاعة.
يحكي لها.
"أفاق الشاويش على ما يجري ربما بسبب كلمة "يا ابني" التي لم تكن لتليق بسن الرجل الآخر، أو بسبب اللوعة في صوتها، فهب من مكانه يجرجرها من كتفها إلى خارج الحجرة. وقفت في فتحة الباب تصيح ناحية ابنها "ولا يهمك. مسيرك تخرج". زعق الشاويش فيها "عيب قوي كده ياست". خرجت مستمرة في الصياح "عيب؟! ماشاء الله على العيب". وارتها الردهة وصوتها يتردد من بعيد "قال عيب قال".عاد الشاويش إلى مقعده وهو ينفخ "قلة أدب" . وعبرت وجه الرجل الآخر سحابة خجل من أنه حاول فضح حيلتها بدلا من أن يداري عليها، ثم قال بصوت منهك "لايصح ذلك"!. حلت الدهشة على ابنها، فهي المرة الأولى التي يسمع فيها صوت الرجل. قال الآخر "أقول لا يصح أن يتفوه الشاويش بمثل هذه الكلمات". وابتسم الرجل "لكن من أين جاءت الوالدة باسم خلوصي هذا؟". وضحك، فقهقه ابنها ومد كفه في الهواء يضرب بها كف الرجل استحسانا. تبادل الاثنان نظرة طويلة عميقة".
فردت أمه جسدها متعبة، نهض وأحكم الغطاء حول قدميها. سألته بصوت غاف "هل حدث هذا حقا؟". قال "نعم". قالت "وأنا جئت إليك والزيارة ممنوعة؟". قال "نعم". أدارت رقبتها إلى الناحية الأخرى وسرحت ببصرها. "وتشاجرت مع الشاويش فعلا؟". ضحك "نعم"! سألته قبل أن يأخذها النعاس تماما "ألا تختلق هذه الحكايات لتضحكني؟". قال "لا، أنتِ جئتِ.. فعلا جئتِ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.