العاصمة عدن تشهد فعالية الذكرى ال7 لاعلان مايو التاريخي    الحرب القادمة في اليمن    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    الرئيس الزُبيدي : نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    خبير اقتصادي بارز يطالب الحكومة الشرعية " بإعادة النظر في هذا القرار !    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    أبطال المغرب يعلنون التحدي: ألقاب بطولة المقاتلين المحترفين لنا    تحديث جديد لأسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    الحوثيون يعتقلون فنان شعبي وأعضاء فرقته في عمران بتهمة تجريم الغناء    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    ماذا يجرى داخل المراكز الصيفية الحوثية الطائفية - المغلقة ؟ الممولة بالمليارات (الحلقة الأولى)    مارب تغرق في ظلام دامس.. ومصدر يكشف السبب    ترتيبات الداخل وإشارات الخارج ترعب الحوثي.. حرب أم تكهنات؟    مأرب قلب الشرعية النابض    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    الكشف بالصور عن تحركات عسكرية خطيرة للحوثيين على الحدود مع السعودية    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    اخر تطورات الانقلاب المزعوم الذي كاد يحدث في صنعاء (صدمة)    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    وكلاء وزارة الشؤون الاجتماعية "أبوسهيل والصماتي" يشاركان في انعقاد منتدى التتسيق لشركاء العمل الإنساني    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    فالكاو يقترب من مزاملة ميسي في إنتر ميامي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة أمين مكتب الحزب بوادي حضرموت «باشغيوان»    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    بعد منع الامارات استخدام أراضيها: الولايات المتحدة تنقل أصولها الجوية إلى قطر وجيبوتي    مارب.. وقفة تضامنية مع سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من قبل الاحتلال الصهيوني    البنتاجون: القوات الروسية تتمركز في نفس القاعدة الامريكية في النيجر    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جئتِ أنتِ
نشر في عدن الغد يوم 24 - 08 - 2020

يزور أمه على الأقل مرة كل أسبوع بعد إصرارها على عدم الانتقال من بيتها رغم عجزها عن الحركة. يحمل إليها فاكهة يناولها للشغالة التي ترعاها، ثم يدخل حجرتها ويقعد على طرف السرير عند قدميها وهي جالسة محنية للأمام تراخت يداها في حجرها كجناحي طائر لا يرفرف. يزورها ولا يملك لها شيئا سوى أن يضحكها، أن يروي لها كل ما يستحضره من مفارقات وطرائف، فإذا لمعت بسمة في عينيها همس لنفسه "الله!". وحتى حين تلقى بجسدها للخلف وتتلمس برأسها موضع الوسادة وتنعس، فإنه يمسد جبينها ويحكي، يتأمل جفنيها المغلقين مثل سحابتين على قمرين متعبين، ويواصل الحكي، فقد هجس في نفسه دوما أن للعقل أثناء النوم صحوته الخاصة، مثل حديقة في ليل، تتنفس، تحت ضوء آخر.
دخل حجرتها. جلس. اطمأن عليها. قال لها "صحتك تمام". مازحها بقوله إن منظمي بطولة التنس ينتظرون قرارها إن كانت ستشارك أم لا؟. فحنت عليه بابتسامة خفيفة. حاول أن يطعمها بيده قطعة لحم مسلوق. نهض يدلك قدميها بيديه. خطرت بباله الحكاية التي وقعت منذ عشرين عاما. ذكرها بها فغمغمت بوجه متحير "لا أذكر". ألح على تذكيرها ببعض التفاصيل وهو يضحك. سألته بتشكك "أتختلق الحكايات؟". سددت نظرة إلى الماضي تستفسر "هل حدث هذا؟". قهقه مؤكدا عبر أنفاسه المتقطعة "نعم". وحدق فيها بعينين لامعتين ووجه متورد من الانفعال.
بشرود وتعب تحاول بما تبقى من يقظة العقل أن تقبض على ظلال تتلاشى في عتمة. يؤلمه عجزها عن الحركة. يضع يدها بين كفيه ويضغط عليها بحنان.
يحكي لها.
"منذ نحو عشرين عاما، حين كان طالبا في الجامعة، اعتقلوه مع عشرات من زملائه الآخرين، وبعد أسبوعين فاجأه ألم شديد داخل الزنزانة، فنقلوه إلى مستشفى قصر العيني لإجراء عملية".
بسبب كلمة عملية يتوتر وجهها، يفزع قلب الأم لابنها حتى من أمر وقع له في الماضي ولا تذكره. يطمئنها: "كانت عملية بسيطة. لاتقلقي".
يحكي لها.
"وصل إلى المستشفى بحراسة شاويش، وعلى الفور أخلوا له مكانا في حجرة معزولة في نهاية ممر طويل. دخلها ومن خلفه الشاويش يدير عينيه في المكان يتفحصه، وعندما اطمأن إلى أنه ليس بالحجرة سوى شباك عليه قضبان جرجر كرسيا وثبته قرب الباب وحط عليه. أما الشاب فأرخى حزام الحقيبة الصغيرة المعلقة على كتفه وتركها على كومدينو. استدار وألقى نظرة على السرير المقابل. رأى رجلا يناهز الأربعين. رأسه مرفوع على وسادة ويداه معقودتان فوق نصف صدره يتنفس بصعوبة ويدير عينيه بقلق بين الشاب والشاويش. أخذ الشاب يتأمله، فقبض الرجل على طرف الملاءة وسحبها مختفيا بالكامل تحتها. اتجه الشاب نحو الشباك الصغير. في الصمت المخيم كانت تصله صافرة حشرجة أنفاس الرجل من تحت الملاءة. سمع سعلة شديدة فالتفت إلى الرجل "سلامتك. تحتاج أي شيء؟". لكن الآخر مال على جنبه ببطء دون أن ينطق وجعل ظهره للشاب ووجهه للحائط. خمن الشاب أن الرجل يخشى الكلام معه مقدرا أنه "خطر" مادام ثمة شاويش يحرسه.
هنا تسأله باستنكار وقلق "أنت خطر؟!". يقول "نعم". تستغرب "أكنت هكذا من صغرك؟". يقول مبتسما "طوال عمري كنت شقيا يا أمي". تمط شفتها بعدم تصديق. تسأل "أتختلق الحكايات؟".
يحكي لها.
"بعد ساعة من وصول الشاب أجروا له العملية الجراحية. ومر يوم، والثاني، والثالث، كان الرجل خلالها يطل برأسه من تحت الملاءة ساعة الطعام فقط. يأكل ويرسل للشاويش نظرات متلاحقة بما معناه "كما ترى أنا لا أكلم الشاب ولا علاقة لي به". حين ينتهي من الأكل يتنهد بأسى ويختفى تحت الملاءة. ثم جئتِ أنتِ..".
هنا تنتبه الأم. تشتعل عيناها بالنظرة الصافية القديمة، كأنما انتفض فيها العصب القوي المرتبط بكلمة "أنتِ". تفكر "أنا؟ كيف جئت؟".
يحكي لها.
"ثم جئتِ أنتِ.. حين فوجيء الشاب صباح اليوم السابع بيد تدفع باب الحجرة، وبأمه واقفة تسد فتحة الباب كشراع مركب. كان الشاب قد تمكن من تهريب رسالة لبيته بأنه بمستشفى كذا حجرة رقم كذا مع مريض آخر. لكنه لم يتوقع أن تصل الجرأة بأمه حد زيارته دون أن تبالي بأن الزيارة ممنوعة. نعم. جئتِ أنتِ..".
تفتح عينيها بدهشة "أنا؟". يقول "نعم".
يحكي لها.
"كتم الابن شهقة المفاجأة حين رأى أمه واقفة وهي تضم إلى صدرها كيسا ورقيا يبرز من حافته برتقال وأصابع موز وهي تقلب عينيها في الحجرة بنظرة من يفتش عن وليده في اللهب".
هنا ترفع رأسها كأنما فوجئت بظهورها في حكايته. تضيق عينيها العجوزتين الصافيتين مثل نسر نسي التحليق. تقول "هل حدث هذا؟". تسكت مبهورة بامرأة تتخيلها لكنها لا تتذكرها.
يحكي لها.
"هب الشاويش واقفا يصدها. قالت "جئت أزور سي خلوصي" وأومأت برأسها ناحية سرير الرجل الآخر! تفحصها الشاويش بشك ثم عاد لجلسته وللجريدة التي بيده. توقفت بين السريرين في منتصف الحجرة. ألقت نظرة على ابنها وحبست دموعها. جلست على حافة سرير الرجل الآخر ووضعت كيس الفاكهة بينها وبينه. خاطبت الرجل لكن وهي تحدق في ابنها "والله ياسي خلوصي العائلة كلها تسأل عنك وفي غاية الشوق". ثبتت نظرتها على إبنها "في غاية الشوق يا حبيبي". أدرك الرجل أنه المقصود بخلوصي وأنه أصبح شريكا في تدبير زيارة ممنوعة، فأخذ يائسا ينظر تجاه الشاويش لينبهه لما يجري. استدارت الأم بجسدها ناحية ابنها "وأختك تبلغك سلامها". سحب الرجل الملاءة على رأسه واختفى تحتها. أمسكت بالملاءة وأنزلتها بالقوة لأسفل "وأبوك يقول لك إذا احتجت فلوس اكتب له". شد الرجل الملاءة. سحبتها ناحيتها. شدها، سحبتها. وظلا يتجاذبان طرف الملاءة بسرعة متزايدة وهي تكرر "ياعين أمك ياضناي". فجأة نهضت واندفعت إلى سرير ابنها تضمه وتبكي هاتفة "يا حبيبي يا ابني".
تحدق فيه. تحاول أن تتذكر تلك العاطفة الساخنة. تحاول أن تقتطف باقة المشاعر الحارة. تحاول أن ترى هل يمكن لوهج إحساس انقضى ولا تذكره أن يتقد مجددا؟. شيء يمتد مطمورا بين الأزمنة ولا يندلع. تؤرجح رأسها يمينا ويسارا وفي عينيها أسف لأنها لا تستطيع أن تتذكر اللحظات التي كان فيها قلبها عامرا بالدفء والشجاعة.
يحكي لها.
"أفاق الشاويش على ما يجري ربما بسبب كلمة "يا ابني" التي لم تكن لتليق بسن الرجل الآخر، أو بسبب اللوعة في صوتها، فهب من مكانه يجرجرها من كتفها إلى خارج الحجرة. وقفت في فتحة الباب تصيح ناحية ابنها "ولا يهمك. مسيرك تخرج". زعق الشاويش فيها "عيب قوي كده ياست". خرجت مستمرة في الصياح "عيب؟! ماشاء الله على العيب". وارتها الردهة وصوتها يتردد من بعيد "قال عيب قال".عاد الشاويش إلى مقعده وهو ينفخ "قلة أدب" . وعبرت وجه الرجل الآخر سحابة خجل من أنه حاول فضح حيلتها بدلا من أن يداري عليها، ثم قال بصوت منهك "لايصح ذلك"!. حلت الدهشة على ابنها، فهي المرة الأولى التي يسمع فيها صوت الرجل. قال الآخر "أقول لا يصح أن يتفوه الشاويش بمثل هذه الكلمات". وابتسم الرجل "لكن من أين جاءت الوالدة باسم خلوصي هذا؟". وضحك، فقهقه ابنها ومد كفه في الهواء يضرب بها كف الرجل استحسانا. تبادل الاثنان نظرة طويلة عميقة".
فردت أمه جسدها متعبة، نهض وأحكم الغطاء حول قدميها. سألته بصوت غاف "هل حدث هذا حقا؟". قال "نعم". قالت "وأنا جئت إليك والزيارة ممنوعة؟". قال "نعم". أدارت رقبتها إلى الناحية الأخرى وسرحت ببصرها. "وتشاجرت مع الشاويش فعلا؟". ضحك "نعم"! سألته قبل أن يأخذها النعاس تماما "ألا تختلق هذه الحكايات لتضحكني؟". قال "لا، أنتِ جئتِ.. فعلا جئتِ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.