عاش الجنوبيون مابعد الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني في الثلاثين من نوفمبر 1967م حقبةٌ زمنيٌةً ذهبيٌةً،لاتخطر على بال أحدٍ، ولايمكن حصولها حتى في قصص الاساطير أو روايات الخيال ، إذتنعٌم الجميع فيها بحياةٍ يسودها الازدهار والتقدٌم والرخاء والرفاة والأمن والاستقرار، في كنف دولةٍ فتيٌةٍ، ترعى وتهتم بمصالح كل أبنائها دون استثناء فلا فرق في حضرتها بين أسودٍ وأبيضٍ إلا بقدر مالدى الفرد منهم من همٌةٍ وعزيمةٍ وإرادةٍ ، لبلوغ ما ينشده من آمالٍ وطموحاتٍ ينوي في تحقيقها على صعيد حياته الخاصة ، كل شئ كان على حساب الدولة،المتعلٌم المتفوق يتخرٌج من أرقى جامعات برلين وموسكو وصوفيا وبراغ وبودابست وغيرها دون أن يدفع فلساً واحداً ، والمريض يقضي وقتاً في أقسام المشافي يتلقٌى العناية والرعاية والعلاج حتى يشفى ويعود إلى منزله صحيحاً معافى دون أن يشتري شرنقةً واحدةً ، لقد مرٌت وانقضت تلك الفترة كحلمٍ جميلٍ سرى على الجنوبيين عند السٌحر ولن يعود . فرٌط الجنوبيون في تلك النٌعمة ولم يحافظوا عليها من الزٌوال والسبب يرجع إلى الشبق والغلو السياسي في الفكر التقدٌمي لحركة القوميين العرب ، الذي رضعه أبناء الجنوب منذ نعومة أظفارهم ، فقد غرس فيهم هاجساً ثورياً تقدًمياً يدفعهم دفعاً رباعياً نحو التوحٌد مع الشمال كضرورةٍ ملحٌةٍ وهدفٍ مقدٌس لامناص من تحقيقه، باعتباره لبنةٍ أولى على طريق الوحدة العربية الكبرى ، وهو ماجعلهم في نزوعٍ دائمٍ وحنينٍ مستمرٍتواقين ليوم التوحٌد مع الشمال الذي كانوا دائماًيصفوه بالحبيب ظناً منهم بأنه سيكون عند مستوى المعنى الحرفي للكلمة أوربما يزيد،لكن الأمر كان مختلفاً،فعندما تحقق لهم ماأرادواوجدواأنفسهم يقعون في مصيدةٍ لها مطابق من حديد لايمكنهم الفكاك أو الخروج منها إلا الى تحت الثرى . فذلك الشوق الجارف والحنين العاصف إلى الطرف الآخر،قد عاد عليهم بالويل والثبور والخراب والدمار ، فبعد الراحة والرخاء حل فيهم الجوع والأوجاع والبؤس والشقاء والفقر والحرمان،وخيٌم على حياتهم الحزن والأسى ،فما أن يهال التراب على قبر شهبدٍ قد ترجٌل حتى يُقبل شهيد ثانٍ وثالثٍ ورابعٍ،ويستمر مسلسل الرحيل فيهم دون توقف. حرٌي على قومي وشعبي،فقد كثرت مواجعهم وزادت فواجعهم واختلطت دموعهم بدمائهم لأنهم بكل أسف تذكٌروا القربى مع من لا يستحقون القربى ولا هم في الأساس أهل لها .