في بداية أغسطس 2018, وقع محمد رشاد أسيراً لدىّ الحوثيين في الحديدة، لقد قبض عليه شياطين السلالة في مديرية الدريهمي وهو يقاتل في صفوف القوات المشتركة بالساحل الغربي، ليعود بعد عامين قضاهما في السجن، مستريحاً في بيته، وقد حررته الضغاطة من عبء نفسه والحياة. كان محمد أحد شباب عدن المندفعين للحرب، آمن بها بحماس جمعي وذهب يجري وراء معارك ضارية لا يعرف عنها أدنى فكرة. خاض نزالات محتدمة ضد أعداء لا يعرفهم، ودفعته برائته نحو حروب عاصفة بلا أفق، ولا أهداف، ولا معنى. على هذا الفرش العربي يستريح محمد، وهو العائد من سجون الحوثي فاقداً للشعور والذاكرة ومعهما حياته. لم يمت محمد تماماً وليس يعيش أيضاً. إذا ما قلت أنه مات أخطأت المسألة، وستقع في الخطأ ذاته لو أنك منحته صفة الحياة. ولا حتى أيضاً، تلك العزاءات التي ستكتبها من أجله والدموع التي ستبكيها إياه ستضيف شيئاً ذا أهمية بالنسبة له. إنه الآن لا يريد الحياة ولا يتمنى الموت، لا يهتم لأحد ولا يفكر في شيء، وكما أيضاً ليس له طموح أو بحاجة إلى مواساة. منذ اللحظة التي وقع فيها أسيراً عرف محمد أنه ارتكب خطأً فاحشاً جداً، ليس القتل أقل ما سيجني من وراءه بل سيدفع ثمنه أشياء لا يمكن تخيلها أمام الموت. منذ أن وطأت قدماه السجن وهو يشعر أنه غرق في مغامرة لا تتوقف عند التهلكة؛ إنما ستتخطاها بدرجات كبيرة. وهو يترنح بين السجانَيْن إذ يقوداه إلى الضغاطة كان يتحسس عبر ضربات قلبه وهي تخفق برعب، الطريقة التي سيسحق بها، وما إن رُمي بين جدران الضغاطة حتى أحس برجفة قادمة من خارج المتوقع تجتاح نفسه ويزرأب لها جسده، ففهم أن تلك القشعريرة الدخلية تنبت في تفاصل جلده كدلالة واضحة على أنه قد أدرك المآل قبله هو نفسه. وفيما هو يرسم بقلبه الطريقة المريعة التي سينتهي بها، كان ما يزال هناك آمل ما ولو بدا تافهاً يحاول تطمينه بفرج ما قادم من خارج الدائرة، آمل يمكن أن يبني عليه نهاية بلا ملامح، قد تبدو فضيعة وشنيعة وبائسة، قد تخفي ملامحه؛ لكنها في آخر الأمر ستحتفظ له بخصائصه الأولى، ستحرقه، إلا أنها على الأقل ستبقي منه محمد، ولو كان ذلك أمام الناس فقط. غير أن ذلك الآمل التافه دفن في الضغاطة مع أول جلدة سوط مزقت ملامح وجهه. فمنذ الركلة الأولى التي وجهها له السجان على ظهره بقدمه ذات الحذاء العسكري الصلب، أدرك بأنهم لن يكتفوا بهرس فصلات عموده الفقري؛ فيما أن هذه هي ركلة البداية، بل ركلة تدشينية لمسيرة عذاب مريع سيقتطع كل جزء من نفسه وجسده وعمره وجميع ذكرياته. أدرك أنهم لن يكتفوا بتحطيم عظامه وتمزيق جسده وإهانته، فأخذ يرتعد للمصير المجهول الذي ينتظره. ثم مع أول ليلة يبيتها هناك فهم بأنه لن يبقى في السجن طويلاً ولن يخرج منه أبداً. محمد لم يكن خائف من العذاب، ولا يبكي من الألم، إنه لم يهزمه السجن، ولا الأقلال هي التي تمزقه. محمد لم يكن يرتعد من الموت ولا يتشبث بالحياة، إن الفكرة التي كانت تعذب روحه وتسحق نفسه؛ فكرة أنه لن يبقى محمد الذي يعرفه، لن يبقى محمد الذي عرفه الناس على الدوام. لذا كان يبكي بحرقة وألم، وهو يسكب آخر دموع ستخرج من مقلتي محمد إلى الأبد.. فكر في كل شيء، تذكر كل شيء، تخيل كل شيء، ثم ودع كل شيء. حاول أن يخرج من قلبه كل الفرح الذي يسكن بداخله، وأن يستنفد كل حزنه، أن يضحك بكل ما أوتي من تسلية، وأن يغضب على الأخير. غنى، رقص، صاح، بكى، مات، عاش، حدق بعينيه، أغمض قلبه، سخر، مشي، وقف، أكل، جاع، شرب، عطش، استخدم عقله، تغابى تماماً، تذكر أمه، ودع أباه، سب السلالة، لعن الحرب، قذف الشرعية، تبول على التحالف، وبصق على الأرض عندما تذكر الانتقالي. أخذ حصته كاملةً من الحياة، ومارس كل ما من شأنه أن يجعل منه إنسان حي، ثم في النهاية استسلم طوعاً للرداء الجديد الذي سيتدثر به، للعالم الفضيع الذي سيذهب إليه... إنه لا يعلم الآن من هو، ولا أين هو، ولا من أين أتى، ولا أين سيذهب. لا يحس بنفسه ولا يشعر بمحيطه والأخرين، فقد شعوره بالزمان والمكان، بالحياة والأشياء. لقد صار إلى كسيح، تحول إلى جثة خالية من عناصر الحياة، سوى قليل من الحركة.. والتحديق إلى الفراغ. محمد قذف به اللؤماء إلى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، ادخلوه في معركة لا تشبهه، فنجوا بجلودهم فارين كالفئران، ولأنه صادق وشجاع قاوم حتى اختفت ملامحه، وخسر كل شيء.. المجد لك يا محمد.. ما زلت محمد، وستظل كذلك حتى الأبد.