ما إن سمعتُ بخبر عودة افتتاح القُنصلية والمكاتب التي تستقبلُ المُعاملات أرتسمتُ في دماغي عدة ذكريات، تذكرتُ كُلِ لحظة قضيتها في أرض الغُربة كوني كنتُ مغتربٍ لمدة ما يقارب خمس سنوات ونيف فخرجتُ خروج نهائي لكي أعودُ بتأشيرة جديدة فتعرقلتُ بسبب الجائحة الخُفاشية ، تذكرتُ كلِ فتاةٍ جميلة كانت تأتي إليّ عندما كنتُ أجلسُ على كُرسي الكاشير، حيثُ كنتُ أستقبلُ الزبائن على مدى اثنا عشر ساعة، تأتي إحداهن وتقول يعطيك العافية ، لو سمحت مَرر أغراضي على الجهاز فيرتجفُ قلبي قبل أن ترتجفُ الشاشة وترقصُ نبضاتي قبل أن يرقصُ برنامج الوعلان . أنتهي من تمرير جميع القطع فيظهر المبلغ أسفل الشاشة على هيئة أرقام فيخطرُ في بالي كمية الأيام التي قضيتها خارج البلد ، حيثُ البُعد عن الأهل والأصحاب والحبيبة وأتنهد حتى تهطل من السماء نجمة ، تناولني ورقة عليها صورة ملك وعقال وتوقيع مُدير المالية فيصرخُ فؤادي ويقول : آهٍ ماذا لو كانت هذه الورقة قلبي والفتاة مُدير المالية هذه كي ترسمُ التوقيع في قاع قلبي ، كنتُ أظل شاردا أسبِحُ للجمال الذي أراهُ ويقفُ أمامي بكل عنفوان ، تفوح منه رائحة عطرة فأقول : هل أنا هُنا أم أنني وسط حديقة ممتلئة بالورود والزهر فيجاوبني قلبي ويقول لا يا فتى أنت وسط أسواق مليئة بِعلب الفول والزبادي والنوتيلا وظروف النسكافية والكابتشينو والموكا . تلمحني شارداً فتصرخُ هيا يا فتى إعطيني بقية الحساب ، يرتجفُ جسدي نتيجة الفجيعة وتصفرُ ريئتي واُصاب بالإستحياء و أتقزمُ أمامها ، أدرِجُ الورقة مكانها الخاص ثم أخذُ من كل خانة ورقة ثم أطبعُ الفاتورة وأناولها وأنا ناكس الرأس، تأخذُ كل شيء وقبلُ وداعها للسوق تكرر وتقول يعطيك العافية ما قَصرت، أرد وأقول إيييه ربنا يعافيك ويكثر من زيارتُكِ للسوق كي يظلُ المَحل مليء بالعطر والإبتسامة يا أيتها الفتاة الهاطلة من الجَنة، إنهن فتيات نادرات ، مؤدبات ومُثقفات، محتشمات ومجلبات يغرفن لكَ الدعوات دعوة دعوة. تذكرتُ كُلِ لحظة جميلة ، تذكرتُ أصدقائي الأطفال سعود ومُشاري وسُلطان، أطفال أنقياء يسكنون في الحارة القريبة من مَقر عَملي ،أشتقتُ لضجيجهم وعندما يأتوا إليّ يشترون عُلب التونة والزبادي واللبن وعندما يحين موعد دَفع الحساب يصرخون بصوتِ مُرتفع هيا يا أبو يمن خلصني ترى ورأي عَمل يصرخون حتى تتساقط العُلب من الرَف ثم أطلقُ ضحكة هستيرية نتيجة صرخاتهم القوية، وعندما يرأؤني أصرخُ يقولون أنت تستَهبل يا الزيدي .! أحفظُ كبريائي ومن ثم أخلصهم سريعاً كي أقومُ بإستقبال مزيداً من الزبائن الواقفين في الطابور تذكرتُ وادي حُنيفة والدرعية، النسيم وإشبيلية، مخرج ستة وعشرين والمؤنوسية، شارع الملك فهد وشارع الملك سلمان وشارع الأمير مُحمد ابن الملك ، وتذكرتُ صديقي عارف النقيب وكيف كان يرتبُ حبيبته الأرجيلة وكيف يضع المُعسل وكيف يرتشفُ الشيشة وكيف ينفث بالدُخان حين كنتُ أجلسُ في الزاوية المُقابلة في يديّ حبات السجائر وكيف تصبحُ العُزبة مليئة بالدُخان وكأننا وسط معركة وصوت حمود السمة يصدح بصوته العَذب وكيف يداعبُ الوتر وكيف يخرِجُ النبرات من فَمه نبرة نبرة فنطير فرحة ونشوة. وتذكرتُ يحيى الزيدي ولهجته الجميلة وكيف يغتصب حرف القاف بالمطارق الحديدية ويحوله إلى مادة جافة ، وعصام الجُماعي الذي ما إن تجتمع معه تتسلل إليكَ السعادة وترقصُ في جميع اجزاء جسدك وفي كل زاوية وتذكرتُ ضجيج الزبائن حين يأتوا بعد صلاة الجُمعة ذلك الوقت الذي كنتُ أكرهه جداً والسبب الزحمة الزائدة، وتذكرتُ الزبون الذي أخذ مني أغراض بمبلغ أربعمائة ريال ومن ثم أخبرني بأنه لم يصطحب معه النقود فقلتُ له خُذ أغراضك ومن ثم إدفع الحساب حين تعاود الزيارة ومنذُ تلك اللحظة لم يأتي فَخُصم المبلغ عليّ ودفعته من راتبي الخاص وهأنا لم أنسى هذا الموقف البتة . 23-11-2020 وثيق القاضي. .