" كانت هذه الفتاة الصغيرة التي لا يتجاوز عمرها الست سنوات بائعة المناديل الورقية تسير حاملة بضاعتها على ذراعها الصغير باحد الشوطئ فمرت على سيدة تبكي توقفت أمامها لحظة تتأملها فرفعت السيدة بصرها للفتاة والدموع تغرق وجهها فما كان من هذه الطفلة إلا أن أعطت للسيدة مناديل من بضاعتها ومعها ابتسامة من أعماق قلبها المفعم بالبراءة وانصرفت عنها حتى قبل أن تتمكن السيدة من إعطائها ثمن علبة المناديل وبعد خطوات استدارت الصغيرة ملوحة للسيدة بيدها الصغيرة ومازالت ابتسامتها الرائعة تتجلى على محياها .
عادت السيدة الباكية إلى إطراقها ثم أخرجت هاتفها الجوال وأرسلت رسالة((( آسفة ... حقك علي!!! ))) وصلت هذه الرسالة إلى زوجهاالجالس في المطعم مهموم حزين !!! فلما قرأها ابتسم وما كان منه إلا أنه أعطى ( الجرسون ) 50 جنيهاً مع أن حساب فاتورته 5 جنيهات فقط !!!
عندها فرح هذا العامل البسيط بهذا الرزق الذي لم يكن ينتظره فخرج من المطعم ذهب إلى سيدة فقيرة تفترش ناصية الشارع تبيع حلوى فاشترى منها بجنيه وترك لها 10 جنيهات صدقة وانصرف عنها سعيداً مبتسماً !!.
تجمدت نظرات العجوز على الجنيهات فقامت بوجه مشرق وقلب يرقص فرحاً ولملمت فرشتها وبضاعتها المتواضعة و ذهبت للجزار تشتري منه قطعاً من اللحم ورجعت إلى بيتها لكي تطبخ طعاماً شهياً وتنتظر عودة حفيدتها وكل ما لها من الدنيا جهزت الطعام و على وجهها نفس الابتسامة التي كانت السبب في أنها ستتناول ( لحم ) لحظات وانفتح الباب ودخل البيت الصغيرة بائعة المناديل متهللة الوجه وابتسامة رائعة تنير وجهها الجميل الطفولي البريء !!! "
كل ما في الاعلى هو سرد مبسط لإحدى روائع الادب العالمي قصة (بائعة المناديل) وهي قصة تقاطعت في "الشكل" على الاقل مع قصة (فاطمة ) الطفلة التي وجدناها "تبيع المناديل" على ساحل ابين بخور مكسر ودردشنا معها عن حياتها.
تحقيق: حسين الحنشي و شيماء باسيد :
فاطمة زهرة في وطن الأشواك:
فبينما كنا نلتقط صورا تذكارية على ساحل ابين لفتت نظرنا طفلة بجسد نحيل وعليها علامات البؤس كأنها احد ابطال رائعة فكتور هوجو "البؤساء" وتحمل على ظهرها كيس نايلون كبير به بواكت "مناديل ورقية" تبيعه لتكسب رزقها اقتربت منا لعرض بضاعتها علينا ولترضي فضول طفولي كما بدى لي ساورها عن الكميرا وعن ما الذي نعمله كما انها ارادت اخذ صورة لها معنا.
كانت الطفلة النحيلة حيوية وجريئة ودردشنا معها عن احوالها بعد ان لفت نظرنا اصابة اسفل العين اليمنى يبدو انه لم يمر عليها ايام ويبدو ان "الطفلة" معتادة على هكذا اصابات وتعامل حيث مرت على شرح الحادثة بسرعة وعدم تعمق.
سألنها عن اسمها قالت : "اسمي فاطمة ابي من محافظة تعز ونسكن حاليا بمنطقة البساتين " هذا كلما قالت فاطمة من معلومات عنها وعن اسرتها وهي معلومات كافية لتتضح منها صورة عن حياة الطفلة.
سألنا فاطمة عن سبب الندبة والاخضرار الذي تحت عينها اليمنى قالت : " رجمني واحد في الحافة " سألناها : لماذا رجمك قالت وهي تعير كل انتباها للكميرا :"رجمني رجمني عادي" .
طلبنا بعدها ان نتصور معها وهي رحبت بذلك وبشغف تصورنا وهي ترفع علامة النصر جارينها في رفع اصابعنا وكان الامر كما يبدو تقليد من قبل الطفلة لمن اراهم في الصور حيث يرفع كل من يتصور في ايامنا هذه علامة النصر رغم ان الانكسارات هي الحاضرة ورغم ان الندب تملأ عيون الوطن ولا تقتصر على عيون فاطمة. اخذنا من فاطمة باكت مناديل وغادرت مبتعدة بملابسها الرثة وخمارها الذي يغطي نصف جسدها الهزيل.
قصص متشابهة وطفولة معذبة واحدة :
لكم ان تتخيلوا ايام فاطمة التي تسكن في "البساتين" بمديرية دار سعد وتبيع المناديل لحساب صاحب "البقالة" كما يبدو وتحمل بضعتها صباحا وتقف على قارعة الطريق ليتفضل "صاحب سيارة" ما بتوصيلها معه الى اقرب منطقة من ساحل ابين بمديرية خورمكسر حيث تعرض بضاعتها مقابل مبلغ معين على كل باكت تبعيه. حياة بالتأكيد بعيدة كل البعد عن حياة الأطفال في العالم الأول , فالعالم الثالث تتزاحم فيه قصص فاطمة مع غيرها الكثير من الأطفال الذين تتراوح قصصهم حدة وبشاعة بينما تظل الطفولة المعذبة هي القاسم المشترك في عذابات الجميع . تذكرنا مع قصة "فاطمة" قصة ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين التاسعة والحادية عشر يقطنون إحدى الحارات في أقصى حوطة لحج الخضيرة . حارة خاصة "بالمهمشين" تبدو لي هذه الكلمة قاسية جدا بينما هي مثلما يتداولها البعض هنا بأنها أخف حدة من كلمة " أخدام" .الأطفال الثلاثة يسرحون منذ الصباح الباكر ولا يعودون إلا آخر النهار مجبرين على إحضار مبلغ معين من المال كل يوم تصرفه الأم والأب على القات والسيجارة وو ..وأشياء أخرى . سألناهم ساعتها عن شعورهم فيما يقومون به فقال أحدهم أتمنى أن أذهب للمدرسة وأغدو طيارا بينما قال الثاني : "أنا رجال وشاقي وأصرف على البيت .." بينما أختبى الثالث خلف ابتسامة طفولية جميلة جدا تشبه إلى حد كبير إبتسامة "بائعة المناديل" ولم ينطق بأي كلمة تعليقا على أسئلتنا . تركانهم على أمل الوصول إلى خيط أمل نتمكن فيه من المساعدة ..بينما وقفت عقولنا حائرة لساعات طويلة مندهشة لواقع يُجبر الأب أو الأم طفلهما على الخروج لبيئة بشعة جدا من أجل حق القات في المساء.
حقائق مخيفة وسط تخاذل الجميع :
تشير نتائج دراسة أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة التخطيط والتعاون الدولي واليونيسيف ومنظمة العمل الدولية إلى أن هناك أكثر من مليون وستمائة ألف طفل عامل في أسوأ أشكال عمالة الأطفال باليمن. حيث تعد عمالة الاطفال من أكثر المشاكل بشاعة وانتشارا في هذا البلد الذي يعاني من اختلالات اقتصادية وسياسية واجتماعية فلا يوجد قانون وطني يعاقب فيه ولي الأمر الذي يشغل ابنه أو ابنته في أي عمل كان أو يعاقب أيضا رجال" مافيا الأطفال" الذين لا يكتفون بالإسترزاق من براءة الطفولة بل ويمارس غالبيتهم أعمال عنف وتشويه يتعرض لها وجوه الأطفال وأجسادهم لإثارة شفقة العامة وتعاطفهم.
وبينما تحذر المنظمات الدولية من انتشار عمالة الأطفال باليمن على نحو أوسع وخصوصا على المناطق الحدودية والعشوائيات والمدن الأشد فقرا تتفاقم حدة الظروف الإقتصادية وترمي بثقلها على الأطفال وحسب الشريحة الأكثر حساسية وتأثر بكل ما يحيط بها بالإضافة للتأثير النفسي البشع والعنف الممارس على الأطفال العاملين مما يهيأهم وبإمتياز ليصبحوا أفرادا مشوهين نفسيا وثقافيا يمارسون عنفا مضادا تجاه نفس المجتمع الذي عاملهم بعنف وقسوة في أجمل سنوات حياتهم .
عمالة الأطفال قضية شائكة ومعقدة في صلب المجتمع اليمني ومشاكله في حين أن المجتمع يواجه تحديات جمة ناتجة عن هذه المشكلة أو حتى مسببة لها , أسهمت الظروف السياسة المعقدة التي مرت بها اليمن خلال الثلاث سنوات الأخيرة في تفاقمها بينما أسهمت عمالة الأطفال في زيادة نسبة الانقطاع عن الدراسة، حيث يوجد حوالي مليوني طفل منقطعين مما يعني ان معظمهم سينتهي بهم الأمر إلى الأمية.
تبقى كل هذه الأرقام والدراسات والتقارير لليونيسف أقرب الى الحقيقة لكنها لن تصيب كبد الحقيقة دوما وإن قاربتها فعمالة الأطفال في انتشار واسع والإحصاءات لا تصل الى الجميع بينما تقف ممارسات اجتماعية للحول للوصول للمعلومة الصحيحة فمن يتجرأ على كشف عورات المجتمع اليمني يُحارب من قبل الجميع دون إستثناء فنحن نصدر لمستقبلنا مواطنين مشوهيين نفسيا وعقليا وثقافيا وجنسيا على الأغلب فالكثير من قصص عمالة الأطفال تنتهي بتحرش وإغتصاب تنال أطفال في عمر الزهور وتحطمهم إلى الأبد . فالأطفال وحدهم المستقبل ومستقبل اليمن عاري عن كل تطور وتقدم بينما تدرك المجتمعات المتحضرة أن الطفولة هي مفتاح السر لمستقبل البلدان وتطورها فنرى عناية بالطفل تتجلى في أروع درجاتها في كل نواحي الحياة من تعليم وصحة وغذاء وأمن وإستقرار.
قصة فاطمة "بائعة المناديل " لم تنتهي عند غروب شمس ساحل أبين بل استمر الى فجر يوم آخر تشد فاطمة فيه الرحال ليوم عمل جديد , شاق يسلبها كل حقوقها كطفلة لكنه يبدو عصيا أن يسلبها إبتسامة ساحرة تملئ جسدها الهزيل صبرا وعزيمة لتحدي الحياة بشجاعة , ابتسامة لن ننساها أبدا وسندعو الله كثيرا ألا تخبو أبدا من على وجهها الطفولي العذب.