حسن يافعي: عندما أستمع إلى أغنية سرى الهوى للشاعر والملحن الأمير العبدلي عبد الحميد (عبده) عبد الكريم، رحمه الله، أجد نفسي مجبراً على مشاركته ذات المعاناة النفسية التي تمخضت عنها هذه القصيدة الرائعة والتي أتى اللحن الجميل أيضاً لشاعر الأغنية ( ليُكمل الحلو) ويجعل من هذه الأغنية تحفة رائعة تشهد للعصر الذهبي للون الغناء اللحجي، وتذكر الأجيال الجديدة بالزمن الجميل الذي عاش فيه هذا المبدع .. زمن القمندان وفضل وسبيت وصالح فقيه وغيرهم من مبدعي لحج في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي.
لقد عبرت هذه الأغنية بصدق عن الحالة النفسية التي لازمت الشاعر وقت ولادة هذه القصيدة، كما أفصحت عن عمق محبته لمسقط الرأس و مهوى الفؤاد، موطنه (لحج). فقد كان العبدلي قد ارتضى لنفسه العيش خارج لحج ووطنه الذي تشكل بعد انتصار الثورة وتحقيق الاستقلال للجنوب وذلك لأكثر من عقدين من الزمان. ويبدو أنه آثر العمل بالحكمة القائلة "من شاف ما يكره يفارق من يحب".
إن الحالة النفسية التي استغرق فيها العبدلي بسبب فراق الوطن والأحبة كانت قويةً ومؤثرةً، لذا جاء تعبيره عنها أيضاً قويا يتناسب مع ما يعانيه من حرقة الشوق إلى الوطن والأحباب فيه. لقد وصفها بالعشي وهو عبارة عن حالة مناخية (موسمية) تكتنفها هبوب رياح وتراكم سحب داكنة ممطرة تغطي السماء، كما يصاحبها أيضاً رعود وبرق، وتنتهي هذه الحالة بسقوط الأمطار الغزيرة التي تجري سيولاً في الأودية والسواقي فتسقي الأرض والزرع والإنسان.
لقد استعار شاعرنا مظاهر هذه الظاهرة وأسقطها على ما كان يعتمل في جوانحه وجوارحه عند كتابته هذه القصيدة، فكأن تساقط المطر كان على فؤاده المتعب وسيلها يسقي قلبه الظامئ إلى رؤية أحبته ويطفئ لظى كبده المحترق هوىً ولوعة. لقد طفح كيل صبره وكثرت أشجانه وخارت قواه ولم يعد في مقدوره مقاومة أو احتمال المزيد من الوجد والحنين.
سرى الهوى ركب عشي يمطر على رأس الفؤاد وسال سيل الشوق سقى طين قلبي والرواد وهيج الخاطر و شبت نار في وسط الكباد قد احترق قلبي من الفرقة ولازمني السهاد وتراكمت الأشجان ضاق الحال زاد الوجد زاد حنين قلبي والهوى أعلن على صبري الجهاد
والحقيقة، أن العبدلي أبدع في وصف الحالة التي مر بها والجو النفسي الذي عاشه، وجاءت الأبيات الثلاثة الأولى (السابق ذكرها) في قصيدته لتشكل مقدمة وخلفية رائعة لشرح معاناته تمكن بها من شد أذن المستمع وقلبه إليه ... لقد أفصح الشاعر عن سبب ما هو فيه من كدر، فكان السبب هو فراق الأحبة وانقطاع الوصل معهم. فهاهو يتذكرهم: بشراً وحقولاً زراعية وبساتيناً ومخادراً وأعياداً ومواسماً وحصاداً، ولا ينسى أيضا أن يذكر معلماً من حارة من أحب "فاتنتي سعاد". كما أنه يرى نسيانهم أمراً صعباً عليه ( إذا لم يكن مستحيلاً)، بل ويتمنى أن يسمح الزمان بوصل جديد معهم...
تذكر الخاطر ظباء حيط المخرج والخداد ومن سكن حبيل بن عبد الله وقرية بن زياد حُكى حُكى أنسى الأحبة والمخادر والعياد أعياد في أعياد في تلك المواسم والحصاد يا ليت وقتي با يساعدني ويأتي بالمراد يسمح بوصل الزين ساجي العين بفاتنتي سعاد
وبما أنه لا توجد شكوى من غير مُشتكى منه، فكان أن بث الشاعر شكواه ممن يعتقد أنه السبب في ما هو فيه من معاناة؛ لقد كان الزمان غريم العبدلي الذي تجاوز في قسوته وعناده ووعده ووعيده صبر واحتمال الشاعر. ولكنه، لعزة في نفسه، لم يوجه شكواه إلى بشر، بل وجهه إلى من "عليه الاعتماد".. خالق الكون .. رب العباد.
قسيت يا وقتي كثير، وزاد فحسك والعناد تنذر وتتوعد تقول لي: يا أدادك بالأداد وأنا على الله متكل، ربي عليه الاعتماد ديني وإيماني سلاحي وصواريخي المضاد
هكذا هو دين العبادل وديدنهم في محبة وطنهم الصغير(لحج) وأهله والتي قل أن يباريهم فيها أحد من سلاطين وأمراء الجنوب حينها، فهم – كما قال أحد المعمرين من أبناء لحج: " إذا حبُّوا سخيوا" أي أنهم إذا أحبوا لم يبخلوا بالغالي والنفيس على من سكن قلوبهم وعقولهم.. إنهم كانوا (وشاعرنا أحدهم) عبادلة الهوى والهوية. الحوطة 8/2/2012