"مكانني ظمآن".. هذا هو الشعار الذي رفعه شاعرنا عبد الله عبد الوهاب نعمان "الفضول" طيلة سنوات رحلة ظمأ عاطفي تحولت فيه مهجته إلى لظى لا يطفئ سعيرها ماء. لقد أمطرنا بفلسفة العطش حتى ارتوينا.. أما هو فقد ظل يشرب ليزداد ظمأً واشتعالاً يصل به حد الاستحالة الحتمية والجلية في جزئية (محال أن يروى فؤادي محال). وطيلة فترة هذا المشوار لم نجده إلا يستعذب الاحتراق بنار الظمأ ويتلذذ بحرمان أحلامه لذة الارتواء، ويأمرها بالصيام لتبلغ أقصى ظمأ فتزداد متعة الارتواء وفق معادلة "على قدر العطش تكون لذة الشرب" كعادته.. "أظمأت أحلامي لكي ترتويك"، "صامين.. حتى يلاقنك بكل الظمأ". ها هو ذات موقف ينعت أيوب ب "الملفلف" عندما عرض عليه أغنية "شلوك قبال عيني" معنفاً "أرجم.. أرجم جالس تلفلف لك من هذين الأغاني اللي ما ينفعينش"، وأعطاه أغنية "طال الفراق" بدلاً عنها، وكما هو الحال لديه كلما استفتح كتابة قصيدة وجد نفسه لا إرادياً يقف أمام الظمأ مباشرة في حالة لا شعورية يثبتها لنا حتى في هذه القصيدة "أظمأ وتسقيني الحياة أشواق". إننا لنستغرب أي تماهٍ في الظمأ ذلك الذي عاشه الفضول، وأظهر ملامحه في قصيدة "مدرب السيل" فقد شرب الغيث والسيول والضوء والندى والظل دون أن يرتوي له صدى ولم يخرج إلا بنتيجة واحدة.. "والشوق لا يطفيه شلال ماء والحب لا يرويه ماء السماء" وعلى ذكر (مكانني ظمآن) تحضرني قصة طريفة.. الحاج محمد ثابت ظل طوال اليوم منشغلاً بالأغنية التي كان أحد أولاده يستمع إليها، ولكونه إنسانا قرويا بسيطا (على نياته) فقد تقطع قلبه والمغني يردد ويكرر (مكانني ظمآن) من صبح الله حتى غربت الشمس دون أن يغيثه أحد، فقام وملأ علبة السمن بالماء وصبها داخل المسجل قائلاً (ظمآن.. هيا اشرب لما تشبع) فتوقفت المسجل وأتى ولده ليعرف سبب توقفها، ولما تبين له الأمر تعجل بالقول.. مو تعمل يا شيبه؟! فكان رده: سمعتوه يصيح مكانني ظمآن، قمت أسقيه.. أي ظمأ هذا يا عم عبد الله؟! وحيث وأن مشوار الظمأ قد طال أمده.. وبما أن "فرق الأحبة قدر ما بعده إلا الضنا" كما قال الشاعر أحمد الجابري فإن التلاقي قدر أيضاً، والتلاقي هو ذات الوعد الذي قطعته الأقدار للفضول ومحبوبته بعد أن "طال الظمأ في فؤاديهما" وصرح به في "واحنا حبيبين .. أعطتنا مقاديرنا للملتقى وعد" ولعل إيمانه العميق بصدقها جعله يستدرك بيقين مطلق "والأقدار لا يكذبين". وفعلاً فقد أوفت الأقدار بوعدها للفضول الذي انبرى في غمرة النشوة مؤكداً لمحبوبته "بك أنت لاقاني وواعدني القدر" موجهاً إليها الخطاب يوم أن "برد من شجونه ولاقاها بظمآته وكأسها ملان"، وعلى مشارف قصيدة "هنوا لقلبي" ودعت أشواقه مشوار عمر ظامئ وأعلنت أحلامه الارتواء الذي دعانا أن نشاركه أفراح موسمه المطير ونزف له التهاني: "هنوا لقلبي عند قلبي ضيوف .. وصفقوا حتى تدموا الكفوف .. وباركوا حبي وقوموا وقوف.. ملخصاً لنا تفاصيل حكابة الظمأ وما عاناه من عذابات الاحتراق وكيف شاءت له الأقدار أن يرتوي: "دمى فؤادي وأحلامي بكت والمنى هامت وما لاقيت قلباً رؤوف وعشت أيام كنت أطمع بقطرة ندى تروي ظمأ قلبي المحب الشغوف وكان تبخل بها الدنيا ولكن أتت أقدار أسقتني الأماني غروف وكانت "طاب اللقاء وا حبيب القلب وافي العهود" هدية اللقاء لمحبوبته، وهي الأخرى تحمل نفس الأسلوب السردي لقصة الظمأ التي لخصها في قصيدة "هنوا لقلبي" وهو ما يتجلى في نسق القصيدة "عشنا ظمى والندى سكاب من حولنا .. كم غرسوا الشوك والأحزان في دربنا .. كنا على الجمر نمشي في طريق المنى" وهو إلى هنا يتحدث عن الماضي (عمر الظمأ) إلى أن يصل إلى الإفصاح بحقيقة الارتواء التي طالما انتظرها حتى جاء يوم اللقاء: "واليوم ها نحن في أحضان أيامنا حقيقة ترتوي أضواء أحلامنا" "وأفراحنا راكعات عند أقدامنا مستغفرات فؤادينا لآلامنا" وفي لحظة عناق ارتشف الفضول من كأس اللقاء الشربة التي أطفأت ظمأ السنين وأخمدت نار مواجيد الشوق والحنين الذي طالما لوعه.. وأتت الأفراح شافعة تستغفر القلوب لذنوب الآلام "والحب غفار لا يأوي فؤاد الحقود" معلناً بذلك نهاية المشهد الأخير من مسرحية الظمأ.