هو عصر غريب حقا هذا الذي نعيش فيه ، فإذا تغاضينا كليّا عمّا دعت إليه الاحتجاجات الثورية التي شهدتها مناطق متفرقة في العالم، والتي انطلقت من المنطقة العربية ، سواءٌ أكانت قيماً سامية ومطالب تحاكي معظم الثورات الراقية - راقية هنا بمعنى صانعة للحضارة إذا ما صح التعبير - كالحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة، وأبسط الحقوق كالخبز، أو دعواتٍ إلى تغيير البنية الاجتماعية بالتوجّه نحو التطرّف الديني كالحركات الإسلامية المتشددة، أو بعيدا عنه كالحركات الشبه شيوعية والتيارات شبه اليسارية المتخبطة في هويتها ضمن منطقتنا . إذا وضعنا كل ما سبق جانبا ونظرنا إلى التحرّكات الشعبية الأخيرة نظرة أكثر حيادية وتجريدا ، لنتوقف قليلا ونتساءل : هل كان من الخطأ تحريك خزان المياه العتيق الذي تمثّله منطقتنا ؟ ألم تكن مياهه راكدة وصافية وكل الأوساخ بعيدة عن السطح ؟ لماذا أصر البعض على نشر ملابسنا المتسخة أمام العالم بأكمله؟ لكن بالمقابل هل خفاء الأوساخ عن الرؤيا يعني أن المياه صالحة للشرب والاستعمال اليومي ؟ بعيدا عن معايير سلامة المياه ، تذهلني قدرة الكثير من الوجوه في مجتمعاتنا على الإجابة بمنتهى السلاسة حالما تُوجّه لهم أسئلة من قبيل : أكانت الانتفاضة العربية نعمة أم نقمة ؟ خريفا أم ربيعا ؟مفيدة أم ضارة ؟ تذهلني قدرتهم على الإجابة السريعة بالحكم السلبي على التحركات الشعبية الأخيرة، إذ يعتقد أصحاب الرؤية السلبية لما عانته مجتمعاتنا في الفترة الأخيرة أنّ ماجرى من تغيير في الحالة والمناخ العام كان نحو الأسوأ كليّا، وهذا موضوع جدليّ . ومن اللّامقبول أبدا بالنسبة لي هو اختصارهم كل المعاناة على أنها حدثٌ لا طائل منه، وببساطة كان من الأفضل ألّا يحدث، وقولهم بأنّ ليت البوعزيزي اختنق بضيقه على فراش غرفته قبل أن يستيقظ مقررا حرق هشيم أنظمتنا المزيفة . فهل السكوت عن الخطأ أضحى فضيلة هذه الأيام ! وهل الحل للتخلص من عش الدبابير في منزلك ألا تنكشه، وألا تقترب منه، وأن تتجاهل لسعاته اليومية الحارقة في حياتك وأن تنتظر ريثما تموت الملكة وتحل ابنتها مكانها علّها تقرر نقل العش ؟. هل يتصور أصحاب هذه الرؤية أن الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي المتردي والمتأخر عن ركب الحضارة في بلادنا كان ليتلاشى لمجرد تجاهلنا لحقيقة وجوده . أحب هنا اجترار الحكمة المكرّرة كل يوم في حياتنا بأن أول خطوة لتصحيح الخطأ هي الاعتراف به . فلنعترف بالجهل وغياب الوعي لدى الشريحة العظمى من شعوب أوطاننا ،ولنبحث عن حلول للمشكلة، خير لنا من أن ننغلق على أنفسنا ضمن بوتقة ضيقة من مدّعي الثقافة والمعرفة ونتجاهل السواد الأعظم من الناس في البلاد . فلنتوقف عن النظر بازدراء نحو كل فقير يجازف بكبريائه وبجزء معتبر من راتبه اليومي ليأخذ ابنه لمشاهدة مسرحية في منطقة راقية ولننقل المسرح إلى الأحياء الشعبية حيث يجب أن يكون. حريّ بنا رفع صوتنا عاليا كي يسمع إعلامنا المتخاذل أن رياءه أصبح مرفوضا، وأن عقولنا لم تعد قادرة على تقبّل الأسلوب الغبي الذي يحاول أدلجتها به، وأن عليه توخي الحقيقة من الآن فصاعدا أو البحث عن سبل أقوى لاستغبائنا إن استطاع ذلك بعد اليوم . فلتكن النهضة الشاملة البعيدة عن التنظير والمنغمسة أكثر بالفعل والملبية لتطلعات شعوبنا نحو مستقبل أفضل ولائق، نحو مستقبل رائد . ولنعترف بوجود الديكتاتور، ولنرفضه اليوم مهما كان الثمن لأن سكوتنا عنه لا يعني إمكانية سقوطه بالتقادم البتة، وإنما يعني تمكّنه وتغلغله في العقول أكثر فأكثر، ونحن بصمتنا اليوم نلقي عبء إزاحته على ظهور ألأجيال القادمة في المستقبل . فعجلة التطور دائما ما تطحن الديكتاتور شاء أم أبى ، ولو بعد حين. ختاما سواء أكانت النتائج المستخلصة مما حدث ويحدث في منطقتنا إيجابية أم لا، فهي حتما هامة ، ومحورية ، وضرورية لبعثها الحياة مجددا في الشارع السياسي والفكري المتآكل، فاتحة الباب على مصراعيه أمام الشك بكل ما تم تدجيننا على التسليم به طيلة سنين خلت، وأمام الجدل، الجدل "التوجّهاتيٌّ" والإيديولوجيٌّ على مختلف الأصعدة، ومبّينة بما لا يقبل الشك لشعوبنا العاطفية بامتياز في اصطفافاتها، زيف ادّعاءات العالم برعاية السلام، وحقوق الإنسان، وإلى آخره من شعارات طنّانة ضجّ بها الإعلام العالمي طيلة الفترة الأخيرة من التاريخ الحديث والمعاصر. هذه النتائج كشفت لنا أنّ هكذا شعارات لا تطبق إلاّ على الشعوب الحرّة وما من رعاة رسميين لها سوى الشعب نفسه حينما يؤمن ويسعى إلى المطالبة بحقه بها، وأن كل الاستراتجيات والتحالفات في المنطقة مصالحيّة بحتة تتغير وفقا لألوف الاتفاقيات ما تحت "الطاولاتية" بين الدول الكبرى والفاعلة اقتصاديا في العالم ومامن تحالفات ثابتة حقا . أما لكل من يتشدق بعبثية ما حدث ، بعدم جدواه وبأنه سبب تأخر البلاد من جديد وبأنّه قضى على النهضة الشعواء التي كان حكامنا الغرباء قادتها! فأرجوكم التزام الصمت وكفى تشويشا على أحلامنا إذ لدينا ما عَظُم ويكفي من الأشواك لنقتلعها فلا حاجة لصراخكم طيلة الطريق . أمر التطور حتمي لذا فلنجد سبلاً ليكون تطوراً فاعلاً بدلاً من محاولة عرقلته على الدوام خوفا من التغيير . التغيير، والحرية الغير قابلة للقيود، صحيّان وحتميان . فلنخجل من دماء من سقطوا حلما بغدٍ أبهى حُلة . *مقال خاص ب(عدن الغد)