يرى كثير من السياسيين اليمنيين أن تعطل الحوار بين حزب المؤتمر الحاكم وأحزاب المعارضة في تكتل اللقاء المشترك لأكثر من عام، أضاف وقوداً جديداً للأزمة التي بدأت في الآونة الأخير مشتعلة وخارجة عن السيطرة بعدما حولت المظاهر العسكرية بعض المحافظات الجنوبية إلى ساحة حرب، فيما غرق الأفرقاء السياسيون في رهانات الفرصة الأخيرة في مظاهر برزت إلى الواجهة بالتسابق المحموم على حشد الشارع والتلويح بقدرة كل طرف على فرض شروطه بالقوة . بدا الوقت أشبه بجنرال أربك الجميع وخلط الأوراق، خصوصاً وأنه لم يتبق سوى أشهر قليلة على الاستحقاق الانتخابي المقرر في إبريل/ نيسان المقبل في حين أن الاتفاقات التي وقعتها صنعاء والمعارضة والتي تأجلت بموجبها الانتخابات النيابية سنتين لم تر النور وسط انسداد سياسي لا سابق له . وقياساً بذلك، فقد شهدت الساحة اليمنية في الأيام الأخيرة تحولات أثارت القلق، فصنعاء التي ظلت مدى الفترة الماضية تكابد من أجل التخفيف من حدة الاحتقان العاصف بالمحافظات الجنوبية، انزلقت مؤخراً إلى ماراثون استعراض العضلات بحشد عشرات الآلاف من المؤيدين في العاصمة صنعاء لمواجهة من أسمتهم “الانفصاليين والمتآمرين والخارجين عن القانون”، في إشارة إلى قوى الحراك الجنوبي وأحزاب المعارضة والمسلحين الحوثيين الذين وضعتهم في خندق واحد متهمة إياهم بالتآمر على الوحدة . جاء ذلك مع ظهور نذر أزمة جديدة مع المسلحين الحوثيين في الشمال واتساع هوة الخلاف مع أحزاب المعارضة في تكتل اللقاء المشترك في شأن مطالب الإصلاح السياسي والانتخابي والقضية الجنوبية، خصوصاً بعد إعلان المعارضة والحوثيين ولجنة الحوار الوطني عن التوصل إلى تفاهمات بشأن وثيقة “الإنقاذ الوطني”، ما فتح الباب على موجة صراع سياسي محتدم بينها والحزب الحاكم الذي وصف هذه التفاهمات ب “التحالف المشبوه” . ورغم أن توقيع صنعاء والمسلحين الحوثيين اتفاقاً للسلام عزز الآمال بمرحلة جديدة يتفرغ فيها اليمن لأزماته ومشكلاته التي تفاقمت جراء انشغال الدولة والحكومة بجولات الحرب، إلا أن تفاعلات الأسابيع الأخيرة أنتجت مشهداً أمنياً مخيفاً في المحافظات الجنوبية مع تصعيد قوى الحراك الجنوبي “احتجاجاتها بالدعوة إلى العصيان المدني استجابة لدعوات قيادات المعارضة المقيمة في الخارج”، وبخاصة الدعوات التي أطلقها نائب الرئيس اليمني السابق علي سالم البيض المقيم في المنفى بما رافقها من أعمال عنف وأعمال تخريب تمثلت باحراق بعض المحال التجارية وقطع الطرق وتكرر الهجمات على دوريات الجيش والاعتداء على المواطنين الشماليين المقيمين في المحافظات الجنوبية . وتوازى ذلك مع حشد صنعاء لقوات الجيش والأمن في العديد من المحافظات الجنوبية وفرضها حالة طوارئ وحظر تجوال في بعض المناطق، إلى وقفها خدمة الاتصالات اللاسلكية عن بعض المحافظات وشنها حملات اعتقال طالت عشرات المطلوبين والناشطين في الحراك الجنوبي والصحافيين، إلى إنشائها محاكم متخصصة ضد الصحافيين وتنفيذ محاكمات بحق العشرات من قيادات الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال . وبدت الأزمة اليمنية ماضية نحو التفاقم مع توجه الحكومة اليمنية إلى إصدار قوانين للإعلام البصري والإلكتروني، وإجراء تعديلات في قوانين الصحافة والمطبوعات والجرائم والعقوبات وإصدار قوانين على صلة بانتهاك حرمة العلم الوطني في مشاريع قوبلت باعتراضات شديدة ووصفت بأنها قوانين طوارئ، ولا سيما أنها جاءت في وقت لم تحرز صنعاء أي تقدم في حل المشكلات التي يعانيها سكان المحافظات الجنوبية وظهور تقارير رسمية تحدثت عن استمرار مسلسل نهب الأراضي في المحافظات الجنوبية والشمالية، ومنها التقرير الذي أصدره البرلمان وتحدث عن تورط مسؤوليين كبار في نهب الأراضي بمحافظة الحديدة، فضلاً عن وتنامي مشاعر الاحتقان نتيجة استمرار السلطات في حملات الملاحقة والدهم للمنازل على خلفية احتجاجات الحراك الجنوبي . span style=\"color: #800000\"اتهامات علنية لأول مرة بدت صنعاء في مواجهة أزمة عميقة متعددة الأوجه عبّر عنها الحشد الجماهيري الكبير الذي دعا إليه حزب المؤتمر الحاكم في العاصمة صنعاء، والذي قال مسؤولون إنه جاء لغرض “توجيه رسالة إلى القوى العميلة والانفصاليين والمتآمرين على الشرعية الدستورية ورافعي السلاح ضد الدولة في صعدة والمحافظات الجنوبية” . وعكست تصريحات المسؤولين اليمنيين، وبخاصة تصريحات رئيس مجلس الوزراء الدكتور علي محمد مجور عمق الأزمة الحاصلة، إذ اتهم المعارضة علناً بالعمالة والتآمر على الوطن والهروب من الحوار السياسي واستحقاقاته، ناهيك عن إعلانه أن الحشود التي جمعها حزب المؤتمر في العاصمة صنعاء والتي ناهزت الخمسين ألف مواطن عبرت عن “الهبة الشعبية في وجه كل الذين يحيكون المؤامرات ويبيتون الأحقاد والدسائس لإجهاض مشروعنا النهضوي الوحدوي الكبير” . مجور الذي وصف قوى المعارضة والحراك الجنوبي بأنهما “حفنة من المتربصين بالوطن وبمقدراته وإنجازاته” اعتبر احتشاد المواطنين في صنعاء “صرخة قوية في وجه المجاميع التي سلكت طريق الشيطان وتمسكت بخيار الأعمال غير المشروعة والخارجة عن النظام والدستور والقانون سبيلاً لتحقيق أهدافها الماكرة” . وذهب رئيس الوزراء إلى أبعد من ذلك عندما وصف المعارضة وقوى الحراك ب “حملة المشاريع الخبيثة المرتهنة إلى الخارج والتي كانت وراء من رفعوا السلاح في وجه الدولة في صعدة وفي بعض مديريات المحافظات الجنوبية، وخاصة الذين امتهنوا أعمال التقطع والنهب والسلب ورفعوا أعلاماً شطرية مهترئة” إلى تأكيده أن “الشعب هو الذي رسم ويرسم بإرادته شكل الخارطة السياسية وهو من يقرر الجدير بمسؤولية الحكم في هذا البلد” . span style=\"color: #800000\"فشل الإدارة قياساً بنبرة الاتهامات الحكومية لم تكن قوى المعارضة في تكتل اللقاء المشترك بعيدة عن دائرة الاتهامات، إذ لم يكف العديد من قيادييها عن توجيه اتهامات إلى النظام الحاكم بالفساد وعسكرة الحياة المدنية والإصرار على الدفاع عن مصالح النخبة الحاكمة حتى وإن كان الثمن جر البلد إلى دوامة العنف . وفي ندوة “القضية الجنوبية” التي نظمتها اللجنة السياسية في اللجنة التحضيرية للحوار الوطني بصنعاء مؤخراً، كان ثمة إجماع لدى المعارضة على أن جوهر الأزمة الجنوبية نشأ بفعل فشل السلطة في إدارة دولة الوحدة بعدما عممت نظام حكم شمولي كان سائداً في الشمال قبل الوحدة على اليمن ككل . وذهب المشاركون في الندوة وجلّهم من القادة الكبار في أحزاب المعارضة إلى التأكيد على أن التعديلات التي فرضها النظام لدستور دولة الوحدة بعد حرب صيف 1994 حولته من عقد ينص على نظام حكم تعددي ودولة شراكة ديمقراطية تحكمها المؤسسات والقوانين والأنظمة، إلى عقد يكرس نظام حكم الفرد الواحد الذي رأى تالياً في الجنوب محلقاً ومصدراً للفيد والنهب والغنيمة . وأشار هؤلاء إلى أن هذا الوضع أنتج على الأرض ثورة مظالم واحتجاجات سلمية قابلتها السلطة بعنف مفرط واتهامات بالعمالة والتخوين والردة والانفصال في ظل معالجات خاطئة بشراء الولاءات وتوزيع الأموال والمناصب على كل من يقف في وجه المطالبين بالحقوق العادلة، ما دعا إلى انخراط الجنوب كله في حراك سلمي يطالب بالانفصال . span style=\"color: #800000\"تقويض مضامين الوحدة يقول الدكتور عبدالله عوبل الأمين العام للتجمع الوحدوي اليمني أن حرب صيف 1994 بتداعياتها المختلفة أدت إلى تقويض المضامين السلمية والديمقراطية للوحدة الوطنية، فيما أدت عمليات تعديل الدستور بعد الحرب إلى تقويضه وتوجيهه لتكريس المزيد من سلطة الفرد ومنحه المزيد من صلاحيات التحكم في السلطة والثروة، فتم العبث بالبشر والممتلكات العامة والخاصة وبالمؤسسات . ويضيف “سحق الدستور واستبداله بآخر كرس منهجاً وسلطات مطلقة لحكم الفرد على حساب المؤسسات أنتج أول مؤشرات الأزمة اليمنية، إذ إنه قاد إلى نتائج كارثية منها إلغاء الشراكة الوطنية والانفراد بالسلطة والثروة وإقصاء الجنوبيين وتهميشهم وسلب حقوقهم من خلال تسريح 80 ألف ضابط وجندي وأكثر من 160 ألف موظف مدني، وجرى في ظل ذلك نهب منظم للأراضي في المحافظات الجنوبية من قبل نافذين في الحكم بآلاف الكيلومترات، حتى وصل النهب إلى الاستيلاء على القطاع العام التابع للدولة بطرق غير مشروعة من قبل نافذين بذريعة موجة خصخصة مؤسسات القطاع العام ما أدى إلى تحويل عمال هذه المؤسسات إلى عمالة فائضة ومن تبقى منهم مورست بحقهم أسباب الإذلال وطردوا منها بعد شهرين فقط من نقل ملكية هذه المؤسسات إلى النافذين . وأدت حال الفقر والبطالة إلى تصاعد معاناة المواطنين في المحافظات الجنوبية وزادت مشاعر الإحباط لديهم، بما في ذلك وزراء وقادة عسكريون كبار تقاعدوا في فترات سابقة وتنامت لديهم مشاعر الإذلال، خصوصاً عندما وجدوا انفسهم يتقاضون رواتب لا تزيد على 20 ألف ريال في الشهر وهم الذين صنعوا لبنات الدولة في الجنوب ناهيك عن العديد من الممارسات التي عبثت بحياة الناس ودفعتهم دفعاً إلى حيث لا يريدون . ويؤكد الأمين العام المساعد للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري علي اليزيدي أن الجذور المرتبطة بحركة الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية تعود إلى نهب عشرات الكيلومترات من أراضي الدولة والمواطنين وتسريح عشرات الآلاف من الموظفين وقادة وضباط الجيش وحل الجيش وتسريح قرابة المائة من أعضاء هيئة التدريس في جامعة عدن وهم في أوج عطائهم ومنع الترقيات عن البعض ووضع القيود على الالتحاق بالكليات العسكرية وعسكرة المحافظات وبيع 66 مؤسسة حكومية وطرد العاملين فيها إلى الشوارع . يضاف إلى ذلك استنزاف الثروات المعدنية والفساد وارتفاع الأسعار وانعدام المواطنة المتساوية وتكريس المركزية الشديدة والتخلي عن وثيقة العهد والاتفاق وفرض التعديلات المتتالية التي أخلّت بدستور دولة الوحدة . span style=\"color: #800000\"آمال التغيير رغم اتفاق معظم أطراف المعادلة السياسية على الحوار الوطني الشامل كمخرج للأزمة اليمنية، إلا أن البعض يرى أن هذا المشروع لن يكون قابلاً للتحقق على المدى القصير، فصنعاء لا تزال مصرة على أن جذر الأزمة يكمن في وجود قوى انفصالية فقدت مصالحها بعدما غادرت السلطة بعد حرب صيف 1994 وأقصت نفسها عن الحياة السياسية وتآمرت على الوطن وتحاول اليوم إحياء النزاعات الانفصالية وتبني مشاريع خارجية تستهدف الوحدة اليمنية والأمن والاستقرار ما يقتضي مواجهتها بقوة لإخمادها . ومن جهة ثانية، وبحسب قياديين في حزب المؤتمر الحاكم، فإن تخبط قوى المعارضة في تكتل اللقاء المشترك وتناقضها في ظل غياب البرامج البديلة كان سبباً مباشراً في تعطيل كل مبادرات الحوار السياسي الهادف إلى الخروج بتوافق بشأن القضايا السياسية موضع الخلاف في ظل إصرارها على المضي في المكايدات السياسية والتحريضية، وآخرها تأييد الأعمال التخريبية التي تهدد الوحدة الوطنية في بعض المناطق بالمحافظات الجنوبية وسعيها إلى اختلاق الأزمات والتهرب من الحوار السياسي تنفيذا لأجندات خارجية . ويقول رئيس الوزراء الدكتور علي محمد مجور إن الدولة “قدمت كل ما بوسعها من أجل إنجاح الحوار وفقاً للاتفاقات التي تم بموجبها التمديد لمجلس النواب وتأجيل الانتخابات سنتين، وبذلت ما بوسعها لكي لا تبقي مجالا لمشكك أو متخاذل ومع ذلك ومع كل ما تم تقديمه وجدت المعارضة ألف سبيل وسبيل لكي تتهرب من الحوار وتتهرب من استحقاقاته، تماماً كما هربت وتملصت من التزاماتها تجاه اتفاق فبراير/ شباط في حين أن الدولة لا تزال ترى أن حل أي خلافات أو تباينات أو قضايا لا يكون إلا عبر الحوار تحت مظلة القنوات الدستورية والثوابت الوطنية . وترى صنعاء أن ثمة مشكلة أخرى تكمن في الفهم الخاطئ للديمقراطية وحرية التعبير التي تضمن حق الرأي والتعبير وتجعله مكفولاً للجميع في إطار احترام الدستور والقوانين النافذة وعدم الإضرار بالمصلحة الوطنية، ما دعا البعض إلى المساهمة في التحريض على العنف والمسّ بالوحدة الوطنية تحت شعار الممارسة الديمقراطية . وفي مقابل الرؤية الحكومية ترى دوائر سياسية معارضة أن الأزمة العاصفة باليمن اليوم ضاربة الجذور وبالغة التعقيد ويصعب الإقرار بإمكان حلها عن طريق الحلول التي تطرحها السلطة التي لم تكف عن ممارسة أساليبها القديمة في شراء الولايات وترحيل المشكلات ورفض أية مبادرات من جانب القوى السياسية الفاعلة في المجتمع . ويشير هؤلاء إلى رفض صنعاء المعالجات التي قدمتها رؤية الإنقاذ الوطني لحل القضية الجنوبية من طريق إعادة بناء الدولة والنظام على أسس متينة تحقق الشراكة الوطنية والتداول السلمي للسلطة، وإحداث تغيير سلمي يخرج البلاد من براثن استبداد وفساد الوضع الراهن وصولاً إلى عقد اجتماعي جديد جامع يؤسس لقيام دولة مؤسسية يمنية حديثة تتفق مع معايير الدولة العصرية . ويؤكد البعض حاجة اليمن الملحة اليوم إلى معالجات للأزمة الحاصلة بحلول وطنية للقضية الجنوبية بأبعادها الحقوقية والسياسية وتهيئة الأجواء السياسية بوقف الحملات العسكرية والاعتقالات والملاحقات والإفراج عن المعتقلين وإنها عسكرة المدن والغاء القوانين والقرارات والتوجيهات والأوامر المقيدة للحقوق والحريات العامة، وإشراك كل القوي السياسية في حوار وطني شامل يفضي إلى معالجات تزيل آثار حرب صيف ،1994 وتتيح إجراء مصالحة وطنية شاملة ومحاكمة الفاسدين المتورطين في العبث بأراضي وعقارات الدولة والمواطنين ورفع القبضة الأمنية عن كاهل الجهاز الإداري للدولة ووضع نهاية لحكم الفرد وإقامة الدولة الوطنية المؤسسية المرتكزة على مبدأ المواطنة المتساوية وسيادة القانون . ويؤكد الدكتور محمد السعدي الأمين العام المساعد للتجمع اليمني للإصلاح أن الأساس في ذلك مرتبط بالنظر إلى القضية الجنوبية كجزء من الأزمة الوطنية ومعالجتها من طريق إزالة أسبابها وتداعياتها والتركيز على جذورها الحقيقية . ويلفت إلى إن اليمن اليوم بحاجة إلى إعادة صوغ النظام السياسي وتحويل الحكم الفردي إلى حكم مؤسسي ومعالجة التشظي النفسي من طريق الجلوس على طاولة الحوار مع كل الأطراف والاتفاق على نظام سياسي لإدارة البلاد لا يسمح بتكرار الأزمات وتحقيق المزيد من المساحات للحرية وإعادة الحقوق ودفع التعويضات وإعادة أراضي الدولة، وإزالة المظاهر العسكرية من المدن، ومحاكمة الفاسدين الذين ارتكبوا الجرائم وعاثوا في الأرض فساداً ومحاسبة المتسببين في تغيير مضامين الوحدة وإعادة الهيبة للديمقراطية والتعددية وإطلاق مشروع تنموي شامل .