«إذا جئت إلى باب عدن لمقابلة السلطان فتحنا لك الباب، وقطعنا رأسك بالسيف، وعلقناه على باب عدن»، هكذا جاء رد السلطان العبدلي، عام 1838م على رسالة الكبتن/ كوماندرهينز، قائد السفينة الحربية البريطانية «بالينورس» العائمة في خليج عدن. كان العرض البريطاني مغرياً (ثمانية آلاف سنوياً، وامتيازات سلطانية وحماية بريطانية ) لا يرفضه في تلك الحقبة الزمنية إلا وطني جسور، أو مغفل جاهل.. وجواب العبدلي كان مثيراً لمطامع البريطانيين، الذين حشدوا من ذلك التاريخ عشرات السفن والزوارق المزودة بجنود من مشاة البحرية البريطانية والبوارج الحربية ومدافعها المتحركة الموجهة إلى عدن، وبعد معارك عنيفة تفوق فيها السلاح البريطاني على المقاومة اليمنية، وعقب (15) قتيلا بريطانيا، و(139) شهيداً يمنياً. كان يوم 19يناير 1839م، إعلان بتاريخ مغاير لعدن، فلقد تحولت عدن إلى محمية بريطانية تابعه للملكية التي لا تغيب عنها الشمس، ومن يومها غابت عدن عن الجزيرة العربية. وبنهاية الحرب العالمية الأولى 1918م، أجبرت القوات العثمانية على الانسحاب من اليمن، رغم انتصارها في معركة مشتركة خاضها قائد القوات العثمانية "سعيد باشا الشركسي" مع ثلاثة ألف جندي تركي، وألآف الجنود اليمنيين، ومسلحي القبائل ضد الاحتلال البريطاني في 5 يوليو 1915م ليتمكنوا من طرد المحتل الإنجليزي من سلطنة لحج ونوابها والحوشب، وإمارة الضالع، ويافع، وسلطنة الفضلية، ويلتحق بالولاية العثمانية المنتصرة بعدئذ مشائخ وسلاطين حضرموت. الإمامة في الشمال تسلم الجنوب للبريطانيين انسحبت القوات العثمانية، من الحوطة بعد أن كانت عاصمة عسكرية لها خلال ثلاث سنوات، لينشب بعدئذ صراع بين الملكية الإمامية الحاكمة لصنعاء، والقوات البريطانية، ومثل تنازل الإمام يحيى حميد الدين عن المناطق المحررة بدماء العثمانيين واليمنيين، لصالح البريطانيين، وتوقيع معاهدة سلام مع المحتل في تاريخ 11فبراير 1934م، اعترفاً بحماية بريطانيالجنوباليمن. رضخ الإمام يحيى لشروط الحاكم البريطاني (رايلي) وسحب القوات والإدارة التابعة لسلطة صنعاء من الضالع والعوذلي، ليسلم في سبتمبر عام 1934م جنوب الوطن كاملاً للمحتل البريطاني، مقابل أموال وامتيازات تجارية وعلاقات دبلوماسية. الاحتلال الغاشم طوال فترة احتلال الإنجليز لجنوباليمن، التي بلغت 129 عاما، في الفترة الممتدة من (19 يناير/كانون الثاني 1839م وحتى جلاء آخر جندي بريطاني في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1967)، كانت السلطنات والمستعمرات اليمنية في الجنوب تحت وصاية واحتلال حكومة التاج البريطانية. كانت سنوات مليئة بالأحزان والأوجاع والظلم والتجهيل والطغيان لكل اليمنيين شمالاً وجنوباً، ومع شروق فجر ال26 من سبتمبر 1962م، معلناً ميلاد كل أيام الوطن الثورة والجمهورية والاستقلال والوحدة، ليتوج الشهيد المناضل/راجح غالب بن لبوزة، مسيرة كفاح اليمنيين، بإطلاق أول شرارة للثورة ضد المحتلين في الرابع عشر من أكتوبر 1962م، من على قمم جبال ردفان لتعصف بالثورتين اليمنيتين، منعطفات خطيرة، ومراحل نضالية، حافلة بالتضحية والفداء والثبات في مصارعة الطاغي الأمامي في صنعاء، والطاغي المحتل في عدن. ثلاثون نوفمبر بين انطلاق ثورة الأحرار ضد الاستعمار في 14 من اكتوبر، ويوم إعلان الاستقلال في 30 من نوفمبر، مراحل من المقاومة والعمليات الفدائية، فلم يمض على استشهاد المناضل راجح لبوزة سوى تسعة أيام، حتى أصدرت قيادة الجبهة القومية في 23 أكتوبر 1963م، قيام الثورة من أعلى قمم ردفان الشماء، وبداية الكفاح المسلح ضد المستعمر بكل أشكاله وصوره. وخلال أربع سنوات من الكفاح التائق للتحرير, قدم أبناء الجنوباليمني, أعظم التضحيات في سبيل الخلاص من جحيم المستعمر البريطاني بمشاركة مختلف الأطياف والتوجهات والتكوينات، من الفعاليات الطلابية والنسائية والنقابية في مسيرة النضال من خلال المظاهرات والإضراب والكفاح المسلح... تكللت في العام 1967م بإعلان استقلال الجنوباليمني، وتحرره بخروج آخر جندي بريطاني من مستعمرة عدن، وكان الثلاثين من نوفمبر هو يوم الحرية وعيد الجلاء والاستقلال. ركز الثوار في جنوب الوطن كفاحهم المسلح ضد المحتل البريطاني، في المناطق الريفية أولاً، وفتحوا عدة جبهات قبل أن تتشعب المواجهات لتصل إلى مدينة عدن، لينتقل النضال المسلح إلى مرحلة متقدمة في فرض أجندته وأهدافه على المحتل، ويوصل صدى عملياته التفجيرية وطلقات الحرية والكرامة إلى العالم كله، بعد أن فشل المستعمر في إخفاء الثورة والتكتم على جرائمه التي ارتكبها ضد الشعب والثوار. وشكّل العمل العسكري في عدن انعطافاً استراتيجياً لتنظيم الجبهة القومية والثورة محلياً، وعربياً، ودولياً، بل شكّل مرحلة جديدة في حياة المناضلين أنفسهم الذين اشتركوا في العمليات العسكرية، فكان العمل العسكري والفدائي داخل المدينة عامل إرباك للقوات الأجنبية, حيث عمل على تحقيق الضغط على الجبهات الريفية المقاتلة، وتشتيت قوات الاحتلال، الأمر الذي ساعد على مد الجبهة القومية لنشاطها النضالي إلى مختلف مناطق الجنوب. تطورت أساليب النضال المسلح ليشهد صوراً مختلفة كان أكثرها تأثيراً العمليات الفدائية, حيث شهدت أهم وأخطر العمليات الفدائية كالعملية التي اشترك فيها (30) شخصاً لضرب الإذاعة البريطانية في التواهي، وحادثة مطار عدن، التي قتل فيها مساعد المندوب السامي البريطاني في عدن, وإصابة المندوب السامي، وعدداً من مساعديه أثناء توجههم إلى الطائرة التي كانت ستقلهم إلى لندن. لقد مثل الانسحاب البريطاني من عدن وبقية المدن الجنوبية صفحة سوداء في تاريخ القوات الاستعمارية، لم يمنح أي منهم فرصة تأديّة التحية ومصافحة الأيادي كما جرت العادة عند تسليم الاستقلال، فقد خرجت بريطانيا مكرهة تجر أذيال خيبتها أمام شعب فقير الإمكانيات... لكن الشيء الوحيد الذي لم يقوى أحد على سلبه إياه كان إرادته وعزيمته وتشبثه بإنسانيته وحقه في الحياة الحرة الكريمة.. وربما كان ذلك هو الجانب الوحيد الذي تفوق فيه الجنوبيون على قوات الاحتلال القادمة من أقصى بقاع الأرض لتتطفل على حياة ومقدرات الشعوب الفقيرة.. ولهذا السبب فقط انتصر الجنوبيون، حتى تحقق النصر المظفر لأبناء الجنوب وطردوا الاستعمار البريطاني من أرضهم في ال30 نوفمبر1967م. تناحر الرفاق وبالمرور على التاريخ لقد كانت أول مشكلات عدن بعد ثورة 14اكتوبر والاستقلال في 30 نوفمبر، هي إقصاء شركاء النضال في الثورة ضد الاستعمار، بين الجبهة القومية والجبهة الوطنية لتحرير الجنوب، وقد تمكنت بريطانيا قبل انسحابها -وهي تجر أذيال الهزيمة- في زرع الخلافات عبر التفاوض مع طرف واحد من القوى الوطنية، لكننا هنا لسنا بصدد الحديث عن سلبيات الثورة، بقدر ما نوثق معالم ومعنى 30 نوفمبر للشعب والوطن والجمهورية والوحدة. إعلان الانتصار رضخ الاحتلال البريطاني واعترف بفشل عملياته ضد الثوار والجبهة الوطنية، وكان للكفاح المسلح والعمليات الفدائية التي وصلت في عام 1967م، إلى أوجها وزادت ضعفين عما كانت عليه العام 66م، وباستقالة آخر حاكم بريطاني لعدن يدعى «السير تشارلز جونستون» كانت الجبهة القومية قد فرضت نفسها بقوة، وأصدرت قرارين أعلنت فيهما شكل الدولة واسمها وعملها ونظامها المؤقت ورئيسها . وحدة اليمن الطبيعية شمالاً وجنوباً صباح 30 نوفمبر وفي احتفال شارك فيه الآلاف اعتلى رئيس الجمهورية الناشئة المنصة وبدأ خطابه «بسم الله.. باسم الثورة، وباسم الشعب الذي آمن أن الحرية تنتزع ولا تُعطى..(..).. أعلنُ أنا قحطان محمد الشعبي رئيس جمهورية اليمنيةالجنوبية الشعبية، أنه بناءً على القرارات الصادرة عن القيادة العامة للجبهة القومية فأنه ابتداءً من اللحظة الأولى ليوم 28 شعبان سنة 1378ه الموافق 30 نوفمبر 1967م، أعلنُ مولد وقيام جمهورية اليمنالجنوبية الشعبية، كدولة مستقلة ذات سيادة كاملة على كل أجزاء الوطن براً وجواً وبحراً، التي كانت تحت السيادة والحماية البريطانية والتي كانت تُعرف في السابق باسم عدن ومحمياتها الشرقية والغربية، وكل الجزر التابعة لها، وأنه من اللحظة الأولى لهذا الاستقلال ومولد الجمهورية تنتهي بذلك التجزئة البغيضة التي فرضت من قبل الاحتلال البريطاني والحكم السلاطيني الرجعي الإقطاعي، لتحل محلها دولة موحدة واحدة وحكومة مركزية واحدة تدير وتسيِّر كل شؤون هذه الدولة الجديدة.. وأن مولد الجمهورية لا يعني مطلقاً أننا قد وضعنا السلاح بل أن على الشعب وقواته المسلحة أن يظل يقظاً وساهراً للحفاظ على مكاسب الثورة والجمهورية، وأن على الشعب تقعُ مسؤولية حماية الثورة وخطها التحرري التقدمي». منذ الدقائق الأولى للدولة الجنوبية، أكد بيان استقلالها طموحها للوحدة مع كل اليمن، وتابع الرئيس قحطان الشعبي إعلان بيان الاستقلال ملخصاً علاقة الدولة الجنوبية بالجمهورية العربية اليمنية، «وأنها تؤكد إيمانها الصادق بوحدة اليمن الطبيعية شمالاً وجنوباً، وستعمل من جانبها جاهدة بالتشاور والمشاركة مع حكومة الجمهورية العربية اليمنية الشقيقة، في بحث السبل العملية للوصول إلى تحقيق هذا الهدف السامي». الوصاية الجديدة بعد مرور 51 عاما على إعلان استقلال جنوباليمن 30 نوفمبر 1967م، تخلص فيه اليمنيون من الاستعمار البريطاني، لم يكن أحد ليتوقع أن يعود هذا اليوم على اليمنيين، وهم تحت محاولة جديدة لفرض الوصاية البريطانية على كل اليمن، فضلاً عن احتلال المليشيات الحوثية الموالية لطهران لمعظم مناطق شمال اليمن، وبروز قوى وتيارات تدعي الوطنية وتعمل كأداة وصاية تابعة لدول شقيقة أو صديقة . وفي هذا الاتجاه يؤكد الكاتب العربي "خيرالله خيرالله" أنه من الصعب فهم الموقف البريطاني من معركة الحديدة واستعادة الميناء الاستراتيجي، وافترض الكاتب تفسيراً وحداً يتمثل في الرغبة في مساعدة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة "مارتن غريفيث"، وهو بريطاني، في التوصل إلى تسوية سلمية في ضوء العرض الذي قدّمه إليه الحوثيون بتسلم الأممالمتحدة للميناء. يضيف خيرالله ناقداً: «هل في لندن وغير لندن من لديه دليل على أنّ “أنصار الله” يمتلكون أيّ مشروع حضاري من أيّ نوع يمكن أن يخفف من المأساة اليمنية باستثناء استعادة تجربة قطاع عزة، تحت حكم “حماس” في منطقة يمنية تقع صنعاء في وسطها؟». ونشرت وسائل إعلام تقارير تتحدث عن الضغوط البريطانية الحثيثة على الشرعية وعلى السعودية والإمارات، اللتان تقودان تحالف عربي عسكري لدعم الشرعية في اليمن، للقبول بخطة المبعوث الأممي البريطاني، والتي تمثل مخرجاً قد يعيد الحوثيين إلى قوتهم، بعد ما تكبدوه من خسائر في الحديدة. التقارير أشارت إلى استماتت بريطانيا ومحاولتها إنقاذ الحوثيين، عبر محاور مختلفة ليس أخرها تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يلزم الأطراف بالإيقاف الفوري للحرب في اليمن. وصاية أخرى وتتحدث التقارير عن وصاية عربية فرضتها بعض الدول على اليمن، وباتت تتمتع بنفوذ كبير خصوصاً في جنوباليمن، والذي كان يسمى مستعمرة عدن ومحمياتها الشرقية والغربية. الوصاية الجديدة في اليمن، كان الحوثيون اصحابها الرئيسيون، فتحت شعار مجابهة الوصاية الأجنبية، يقودون مئات الألاف والأطفال للموت، رامين باليمن والشعب والعرب جميعهم تحت الوصاية الإيرانية الفارسية، وتحت رحمت الصواريخ الطائفية التي يطلقونها على اليمنيين والجيران. هي إذا وصاية متعددة ومتنوعة يحاول أن يفرضها أطراف كثر، أحدها بريطانيا المستعمرة السابقة لجنوباليمن، والأخرين يمنيون يحملون أعلام ولافتات استعمارية لدول أخرى، لكنهم يرددون شعارات تنادي بالاستقلال ورفض الوصاية. خلاصة تعود ذكرى الاستقلال 51 لنوفمبر المجيد، واليمنيون يخوضون معركة مصيرية للاستقلال والتحرر من الوصاية الغربية والوصاية الفارسية، واستعادة الشرعية والدولة بعد اغتصابها من الجماعات والتشكيلات الحاملة لأعلام المستعمرين الجدد. ومهما كانت الحرب مكلفة من الناحية البشرية وأعداد القتلى من أبناء الوطن والشعب، فإن الوصاية الاقتصادية أول ما يجب أن يتحرر منها الشعب وحكومته الشرعية، فمن لا يستطيع أن يتحكم باقتصاده لا يملك سيادة على الأرض، وعليه فذكرى الاستقلال محطة ثورية ووطنية لكل من أراد أن يستعيد أمجاد وإباء وشجاعة وبطولة ثوار اليمن في الجنوب والشمال، ليستحضر منها الدروس والعبر، ويسقط تلك الأحداث ويحاكيها في الواقع اليوم، ويطبقها حسب الضرورة في المرحلة الحرجة التي يمر بها اليمن، وما يعانيه الشعب من مخاض استعادة الدولة وتحرير الوطن، ليسهل قدوم ميلاد النصر بالدولة الاتحادية المدنية العادلة.