يبدو أن الصحافة وحرية التعبير في اليمن تقفان اليوم على عتبة مرحلة جديدة من القمع في حقبة ما بعد الرئيس السابق علي عبدالله صالح، هذا على الأرجح هو العنوان العريض الذي يلخص إستئناف محاكمة مراسلي قناة "الجزيرة" الزميلين حمدي البكاري وأحمد الشلفي أمس الأول الإثنين على خلفية شكوى سابقة ب"مزاولة المهنة خارج القانون" رفعتها ضدهما وضد القناة وزارة الإعلام السابقة في يونيو الماضي. لكن نفي وزارة الإعلام الحالية علاقتها بالدعوى أمس الثلاثاء يثير المزيد من علامات الإستفهام حول إصرار المحكمة على تفعيل القضية رغم سحب الوزارة للدعوى. ونفت وزارة الإعلام علاقتها باستئناف المحاكمة بعد يوم واحد من تأجيل محكمة الصحافة والمطبوعات في جلسة الإثنين محاكمة البكاري والشلفي إلى 21 مايو الجاري حتى حضور الزميلين اللذين لم يمثلا في جلسة أمس الأول التي أعلنت عنها المحكمة بشكل مفاجئ يوم أمس الأول الأحد لتثير جدلا واسعا في وسائل الإعلام وصفحات الموقع الإجتماعي "فيسبوك" لم ينته حتى الآن حول أسباب وتوقيت تفعيل المحاكمة والجهة الواقفة وراء تفعيلها. غير أن القضية، التي تضاربت التحليلات بشأنها، قد تكون مرشحة لدخول تاريخ الصحافة اليمنية باعتبارها القضية التي حملت إعلان تدشين مرحلة القمع التوافقي للصحافة وحرية التعبير والحريات المدنية بشكل عام في يمن ما بعد علي عبدالله صالح. وكانت وزارة الإعلام الحالية تقدمت إلى النيابة العامة بطلب سحب الدعوى المرفوعة من طرفها ضد مراسلي الجزيرة في 29 فبراير الماضي. وقالت في رسالة وجهها وزير الإعلام الحالي علي العمراني إلى النائب العام علي الأعوش حصلت "الأولى" على نسخة منها: "بالإشارة إلى توجيهات دولة رئيس الوزراء بشأن إعادة فتح مكتب الجزيرة وبخصوص الشكوى المقدمة من وزارة الإعلام ضد مراسلي الجزيرة في اليمن: 1- الأخ أحمد الشلفي، 2- الأخ حمدي البكاري، تتقدم الوزارة بطلب سحب الشكوى المرفوعة من طرف وزارة الإعلام والمنظورة أمام محكمة الصحافة". رسالة وزارة الإعلام أتت بعد شهر من إصدار رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة توجيهاته في 28 يناير بإعادة فتح مكتب القناة الذي أغلقته الحكومة السابقة منذ أكثر من عام. غير أن كل هذا لم يثن محكمة الصحافة عن عقد جلسة الإثنين التي بدت لكثير من المتابعين كأول جلسة محاكمة لوسيلة إعلامية على خلفية تغطيتها للأحداث في البلاد تعقدها محكمة الصحافة في عهد الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي وحكومة الوفاق الوطني التي يرأسها باسندوة. لكنها ليست الأولى من نوعها في الواقع حيث سبق أن عقدت جلسات في بعض الدعاوى التي تنظر فيها المحكمة ضد بعض وسائل الإعلام التي قامت بنشر مواد خلال الثورة، لكن أيا من هذه الدعاوى والقضايا لم تتحول إلى قضايا رأي عام على غرار الدعوى المرفوعة ضد الجزيرة. وفصلت المحكمة في جلسة الإثنين في دعويين مرفوعتين من يحيى دويد ومدير أمن تعز السابق قيران على التوالي ضد صحيفتي الصحوة الناطقة باسم التجمع اليمني للاصلاح وصحيفة أخبار اليوم المملوكة للناشر سيف الحاضري والمقربة من اللواء الركن علي محسن الأحمر. وقضى الحكم الأول بتغريم الصحوة 10 ألف ريال في حين قضى الثاني بعدم وجود وجه لاقامة الدعوة ضد أخبار اليوم. غير أن هذين الحكمين بقيا متواريين خلف خبر تأجيل محاكمة مراسلي الجزيرة في القضية المرفوعة ضدهما التي ماتزال تتصدر اهتمام وسائل الاعلام في وقت يرى البعض أنها ربما أثيرت لتغطية بعض القضايا والأحداث التي شهدتها البلاد مؤخرا. ويربط بعض المهتمين بين تفعيل محاكمة مراسلي الجزيرة بشكل مفاجىء الأحد الماضي وقضية الحارس الشخصي لرئيس الوزراء الذي قتل أحد حراس معهد أكسيد لتعليم اللغات أثناء مرافقته لأبنة باسندوة ظهر السبت الماضي، وهي القضية التي كانت قد هيمنت على اهتمام وسائل الاعلام والجدل العام الدائر في موقع الفيسبوك قبل أن تبدأ في التواري شيئا فشيئا خلف قضية استئناف محاكمة الجزيرة. وعدا عن التوقيت، يرى البعض في موقف اللقاء المشترك مؤشرا يعزز من احتمال صحة هذا الربط. واستغرب كثيرون من موقف المشترك الذي التزم الصمت حيال القضية، في حين لمس البعض ارتياحا لدى التكتل الحزبي الشريك في حكومة الوفاق لاثارة القضية في هذا التوقيت. لكن أمين عام نقابة الصحفيين أعتبر ما وصفه عدم تدخل المشترك في القضية منطقيا. وقال مروان دماج: "على العكس، المطلوب من المشترك عدم التدخل في القضاء. وفي حال تدخل يجب رفض تدخله." يبدو حديث دماج مفهوما ومنطقيا ولكنه في الوقت نفسه قد لا يشكل في نظر آخرين تفسيرا وافيا لموقف المشترك ولا سيما في ظل وجود مؤشرات على أن موقفه هذا (غير الرسمي) تخطى الحياد إلى تبرير المحاكمة بل وحث مراسلي الجزيرة على حضورها. المواجهة بين قناة الجزيرة والحكومة اليمنية السابقة بدأت في اعقاب اندلاع ثورة الشباب السلمية مطلع العام الماضي بسبب سياسة ونهج القناة في تغطية أحداث الثورة. وواجهت الحكومة السابقة عمل القناة خلال الثورة باغلاق مكتبها في صنعاء ومصادرة جهاز بثها المباشر في مارس الماضي، كما قامت وزارة الاعلام بسحب تراخيص عامليها. لكن القناة استمرت في مزاولة عملها بعد أن انتقلت إلى مبنى يقه في قلب ساحة التغيير في صنعاء كما فعلت الشيىء نفسه في ساحة الحرية بتعز. واضطر مراسلا القناة الشلفي والبكاري إلى التواري عن الأنظار والعمل خلف الكاميرا بدون أي ظهور لهما تقريبا طيلة ثلاثة أشهر حتى عاودا ظهورهما على شاشة الجزيرة في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس السابق علي عبد الله صالح في حادثة جامه النهدين الثالث من يوليو الماضي. الحكومة اليمنية السابقة اعتبرت ذلك انتهاكا لتشريعات وقوانين البلاد. وانطلاقا من هذا قدمت وزارة الاعلام السابقة شكوى بذلك الى محكمة الصحافة والمطبوعات التي تفيد المعلومات أنها مضت في اجراءات المحاكمة غيابيا بعد ان نصبت محاميا من لدنها للبكاري وللسلفي. وفال البكاري: "لم أعرف بوجود قضية ومحاكمة أبدا إلى قبل يومين حين فوجئت باستئنافها وبوجودها من الأساس". وقال أمين عام نقابة الصحفيين ان وزارة الاعلام هي من يجب محاكمتها وليس البكاري والشلفي وقناة الجزيرة التي قامت بواجبها في تغطية الأحداث في حين سعت الأولى إلى حجب أعمال القتل التي مارسها النظام ضد المحتجين. لكن عن أي وزارة اعلام نتحدث اليوم؟ بالتأكيد أن الوزارة الحالية ليست الوزارة نفسها التي رفعت الدعوى ضد الجزيرة قبل عام من يومنا هذا. فالوزارة السابقة التي كان يقودها الوزير حسن اللوزي كانت وزارة مؤتمرية في اطار حكومة مؤتمرية بالكامل في حين أن الوزارة الخالية التي يقودها الوزير علي العمراني من حصة اللقاء المشترك في اطار حكومة الوفاق الوطني التي يتقاسمها المشترك مع المؤتمر بالمناصفة. لماذا إذن تستأنف محاكمة الجزيرة في ظل وزارة اعلام تابعة للمشترك، وحكومة يرأسها رئيس وزراء محسوب على المشترك؟ يتساءل البعض، لكن تصريحات الوزارة أمس الثلاثاء، التي نفت فيها علاقتها باستئناف المحاكمة فضلا عن طلبها من النائب العام سحب الشكوى نهاية فبراير الماضي، تجيب على هذا السؤال. غير أن هذه الاجابة تثير الاستغراب أكثر حول أسباب اصرار المحكمة على الإستمرار فيها، إلى درجة أن بعض الناشطين في الثورة بدأوا الحديث عن أن البكاري والشلفي والجزيرة عموما تتعرض اليوم للعقاب من قبل صالح ونظامه نتيجة تغطيتها لأحداث الثورة ويعلنون بالتالي تضامنهم معها في وجه الرئيس السابق وما يصفونه ببقايا نظامه الذي يعتقدون أنه وراء تفعيل القضية. لكن هل يقف صالح وما يسمى ب"بقايا نظامه" خلف تفعيل محاكمة مراسلي الجزيرة فعلا؟ يبدو أن المنطق والحقائق الأولية التي تسير على الأرض تقول أمرا آخر مفاده أن أطرافا محسوبين على اللقاء المشترك وليس المؤتمر الشعبي العام من يقفون اليوم خلف تفعيل المحاكمة. عدا عن وزارة الاعلام، فإن وزارة العدل من حصة اللقاء المشترك أيضا ما يجعل من تفعيل المحاكمة رغم سحب الاعلام الدعوى امرا لا يخرج عن سلطة المشترك لأن محكمة الصحافة التي تصرفت خارج ارادة وزير الاعلام لا تستطيع التصرف خارج ارادة وزير العدل التي تخضع لسلطته المباشرة. وليس هذا كل شيىء. بعيدا عن كل الاتهامات الموجهة لصالح ورجاله، تقول أكثر المعلومات تفصيلية المتوفرة لدينا حتى الآن أن اللاعبين الرئيسيين في تفعيل المحاكمة لا علاقة لهم بصالح وحزبه. وطبقا للمعلومات هناك بطلان رئيسيان خلف هذه القضية إلى جانب القاضي منصور شائع: المحامي محمد ناجي علاو وناشر صحيفتي أخبار اليوم والشموع، سيف الحاضري. شائع هو القاضي الذي فعل المحاكمة ومحمد ناجي علاو هو محامي البكاري والشلفي والقناة وهو يبذل جهدا في تبرير استئناف المحاكمة في سياق سعيه إلى اقناع المراسلين بضرورة حضور المحاكمة، الأمر الذي يرفضه البكاري والشلفي اللذان أبديا قلقهما من الحضور. غير أن علاو يسعى إلى تطمينهما بأن المحاكمة رمزية وأن القاضي يريد اقفال ملف القضية كمؤشر ابداء حسن نية من جانبه على سبيل تقديم نفسه لقادة العهد الجديد بحسب معلومات خاصة ادلت بها مصادر طلبت عدم الكشف عن هويتها. لكن الدور الرئيسي في تفعيل المحاكمة يبدو كما لو أن صاحبه سيف الحاضري الذي يلعب دور الوسيط بين القاضي من جهة ومراسلي القناة وعلاو من جهة أخرى، طبقا لمعلومات خاصة أفادت أن تفعيل المحاكمة أتى بعد اتفاق بينه وبين القاضي على تفعيلها عبر عقد جلسات محاكمة رمزية تنتهي باقفالها وحكم يقضي بعدم وجود وجه لاقامة الدعوى. هذه المعلومات قد تعزز من السيناريو الذي يربط بين تفعيل محاكمة مراسلي الجزيرة على نحو مفاجئ وقضية الحارس الشخصي لرئيس الوزراء باسندوة، لكن قد يكون وراء الأكمة ما وراءها. تزامن استئناف محاكمة الجزيرة مع إصدار حكم ضد صحيفة الصحوة والفصل في الدعوى المرفوعة ضد صحيفة "أخبار اليوم" المحسوبة على علي محسن يثير مخاوف حول وجود سيناريو لدى الجهات الواقفة وراء هذه المحاكمات الهدف منه تدشين مرحلة جديدة من قمع الصحافة وحرية التعبير من المرجح أن تكون الصحف الأهلية والصحفيين المناوئين للقاء المشترك وللإصلاح وحلفائه العسكريين والقبليين تحديدا ضحاياها الرئيسيين. وقد لا يكون البدء بمحاكمة مجموعة من الصحف ومراسلي أكثر قناة مقربة من الإصلاح وحلفائه ومحسوبة على ثورة الشباب السلمية سوى طعم سيلعب دورا ليس في تطبيع مرحلة تكميم الأفواه وقمع حرية الرأي وإنما في تبريرها وشرعنتها أيضا. فهل ما شهدناه للتو يشكل فعلا إعلان تدشين وتطبيع مرحلة القمع التوافقي للصحافة وحرية التعبير في اليمن بمجموعة من المحاكمات الرمزية لوسائل إعلام مقربة من الإصلاح وحلفائه أو ناطقة بإسمه أو محسوبة عليه؟ مايزال من المبكر الإجابة على هذا السؤال، لكنه سيبقى مطروحا في وجه الفترة القادمة. * الأولى