صعد الحوثي على حالة الإحباط المتراكمة داخل النفوس في اليمن من بطء وتعذر عملية التغيير السياسي بالبلاد منذ عقود، وتعزز ذلك الإحباط أكثر خلال سنوات ما بعد ثورة 2011م، وما رافقها من ضربات متتالية استهدفت ذاكرة الوعي الشعبي كعقاب جماعي على سلوك الثورة واللجوء إليها لمنع تكرارها في المستقبل، وتشويهها كخيار شعبي واسع للتغيير. الحوثي اليوم يقدم نفسه كقوة جديدة ثائرة، ولدت من مشروع ثوري، ومنطلقات ثورية فرضها الواقع، لكنه بعد أن تمكن من فرض ثورته على الجميع أخفق في تقديم نموذج إيجابي يمكن اعتباره نجاحا كما هو حال ما بعد الثورات السياسية والشعبية. الذي استطاع الحوثي إثباته هو أن الثورة كروح تسري في أجساد الشعوب لتدفعها نحو التغيير لم يحن بعد أوانها بالنسبة لليمنيين، فرغم الزخم الثوري الذي صاحب ثورة فبراير 2011م، وحصولها على جميع المبررات التي تدفعها للوجود والانبعاث، لكنها ظلت ثورة في أجندة النخب فقط، اما على المستوى الشعبي العام أفقيا فلم تفلح في تحريك الوعي الشعبي ليتمسك بها كمخرج ومنطلق مثلما هو الحال في تونس على سبيل المثال. ولذلك عندما جاء الحوثي من صعدة لم يفرض ثورته ومشروعه بسبب تعطش الشعب والبلد للثورة والتغيير، ووجد فيه ما يستحق المؤازرة لكي تتحقق الآمال، ولكنه فرض نفسه بمنطق القوة وإرادة القوي، وهذا المنطق هو الذي يؤمن به اليمنيون ويتصرفون على ضوئه منذ قرون، وهي ثقافة الاستكانة التي تجعل الجموع خاضعة للطرف الأقوى، وتداهنه وتلتف حوله لتستر ضعفها رغم كرهها لذلك الطرف، حتى تكتب الأقدار لها طرفا جديدا ذو بأس يحررها من قوة السابق ويفرض عليها ذات القيود. أذعن اليمنيون للحوثي كطرف يتمتع بالقوة ويفرض العقاب الذي يراه على المخالفين، بينما فشلت الثورة كسلوك مثالي في إخضاع الناس وحثهم على الإيمان بها، وغالبية المحطات التأريخية الثورية في اليمن تثبت وتؤكد هذا السلوك الإذعاني الذي يتصرف على ضوئه اليمنيون، ولم يكتب لنا بعد محطة تأريخية واحدة شهدت إجماعا شعبيا ونخبويا كاملا في حياة وتأريخ اليمن. ما يبدو ملاحظا هو حالة البتر والقطيعة والفجوة الواضحة بين إنجازات السلف الثوري السابق والجيل الصاعد في اليمن، في جميع المحطات الثورية، وغياب التكامل والتناسق التأريخي بينهما، وتلاشي وضياع واحدية المسار والهدف، رغم تطابق دوافع نضال الأجداد في السابق مع مبررات ثورية الأحفاد في اللاحق. فالأجيال التي عاصرت سنوات ثورات سبتمبر وأكتوبر و22 مايو تدرك جيدا عظمة تلك الأحداث، ومدى التغيير الذي أحدثته في النفوس أولاً وعلى الأرض ثانيا، لأنهم عانوا وعاينوا واقع ما قبل تلك الأحداث وما بعدها. لكن، إما أن أصحاب تلك المنجزات الثورية فشلوا في تخليد تلك الاحداث لتظل قوية عصية على الانهيار، ومحاولة الانقلاب عليها مستقبلا، أو أنهم لم يجيدوا تمتين مدامكها والقضاء على جذورها نهائياً، حتى بتنا نشاهد عودة ذات المبررات التي ناضل الأوائل لأجلها، فثورة سبتمبر يعتريها الآن اهتزازات تنذر بالنيل منها ولو بأشكال مختلفة، قد لا تتمكن من إطفاء جذوتها، لكنها تكرس ذات النهج الاستبدادي الذي قامت ضده الثورة. وكذلك الحال مع ثورة أكتوبر التي قامت لطرد الاستعمار الجاثم على البلاد لعقود، تشهد محاولات لتصفيرها، وتمجيد حقبة الاستعمار والتطلع لها مجدداً. والأمر نفسه مع إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين في ال 22 من مايو 1990م، والتي تتعرض الآن لأقوى الضربات في خاصرها، آملاً في محوها من الذاكرة. كل ذلك يعكس بأن ما ناضل لأجله الآباء في اليمن لم يؤمن به الأبناء، ويسعون لنسفه وإحياء ذات القضايا، وجعل عجلة الصراع تمضي بشكل دائري، وليس بخط مستقيم واضح، يدفع نحو الأمام، بما يكفل تجاوز الماضي، ومعالجة الحاضر والانطلاق نحو المستقبل. فالجيل الذي جاء بعد ثورة سبتمبر وأكتوبر لا ينظر لتلك الثورتين بنفس القيمة والأهمية التي نظر إليها آباؤه السابقون، ويفتقد للحماس الوطني الذي يجعله مستميتاً عنهما ومدافعاً عن مكتسباتهما، وكذلك الحال في الجيل الذي ولد مطلع التسعينات مع تحقق الوحدة اليمنية بين الشطرين، فالفئة التي ولدت في سنوات ما بعد الوحدة هي الجمهور الأكبر الذي يدفع حاليا نحو الانفصال، وهم الغالبية الكبيرة من الجموع التي خرجت في المحافظات الجنوبية للمطالبة بفك الارتباط وتنخرط في الأنشطة الرافضة للوحدة، ومثلهم نفس الجيل في الشمال، والذي لم يعد لديه أي استعداد للتمسك بالوحدة كقيمة راقية بين الشطرين، بل إنه بات مستسلما وضائقا لتلك الأصوات المطالبة بالانفصال والقادمة من الجنوب، ليتخلص من صدى وقعها المستمر على أذنيه، كي لا تؤذي مسامعه في صراخها ونواحها المستمر من التذمر ورفع شعار ومطلب الانفصال. وهذا الحال يكاد يكون وضعاً خاصاً باليمن دون غيره من بلدان ثورات التحرر العربية في الستينات من القرن الماضي، وبلدان الربيع العربي في العقد الأول من القرن الحاضر. فأين يكمن الخلل إذاً؟ هل الإشكالية تكمن في طبيعة الثورة نفسها وفهم الناس لها؟ أم في تركيبة اليمن نفسها والقائمة على عدم الاستقرار طوال تأريخها السياسي والاجتماعي؟ أم في تأثير العامل الخارجي؟ أم في كل تلك الأسباب مجتمعة؟ *مدير تحرير صحيفة الناس