شبكة البيضاء الاخبارية / بقلم الشيخ انور الخضري مركز الجزيرة للدراسة والبحوث خلق الله تعالى الناس عقلاء مدركين وأحرارا في إرادتهم، ونظرا لهذه الطبيعة التي جبلهم عليها بيَّن لهم الحق وأوضح لهم الحقائق، ووجه إليهم خطابا يدعوهم فيه بموجب إدراكهم العقلي وإرادتهم الحرة لاختيار الحق والصواب والأفضل دائما، والتزام ضرورياته، ويحذرهم فيه من اختيار الباطل والخطأ والأسوأ؛ هذا مع ترتيب المسئولية الكاملة عن اختيارهم النابع من هذين الشرطين: الإدراك العقلي والإرادة الحرة! وهناك من يخطئ ويخلط بين الإقرار بمبدأ حق الناس –أفرادا وشعوبا- في تقرير مصيرهم وبين الإقرار بصوابية وصلاحية هذا التقرير في ميزان الشرع أو العقل أو العُرف السائد؛ وبين المقدمة من حيث هي ومن حيث نتائجها وآثارها. فالمبدأ من حيث هو مقرر شرعا للأفراد والشعوب في أعظم قضايا الحياة ألا وهو الدِّين، فالمولى سبحانه وتعالى يقول: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)) ، وهي سنة في الأنبياء والمرسلين جميعا: ((وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)) . لذلك يأمر الله تعالى رسوله ليخاطب الناس بقوله: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)) ، وقوله: ((وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)) ، وقوله: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)) . وهكذا نجد أن الخطاب الإلهي يفرق بين مبدأ الاختيار وبين النتيجة وما يترتب عليها من مسئولية؛ يقول تعالى: ((قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)) . إن هذا الاختيار هو مقتضى الابتلاء الذي تشير إليه الآية الكريمة: ((إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا، إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)) . وحتى لا يتجاوز النبي أو الرسول المهمة التي كلف بها يقول تعالى: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)) ، ويقول تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) . إن الإسلام دين يتفق مع الفطرة البشرية والسنة الكونية، أما من حيث توافقه مع الفطرة البشرية فإن الإنسان يكره أن تستلب إرادته أو أن تنتقص حريته أو يمنع من التعبير عن خياراته في شئونه الخاصة أو العامة. وفي حال وقع على الإنسان إكراه أو إجبار بشأن من شئونه ليعلن عن قناعة تخالف قناعته، أو أن يلتزم بأمر لا يرغب في الالتزام به، أو أن يقوم بعمل لا يريده، مسلما كان أو كافرا، ينفي الإسلام أي اعتبار لما قد ينشأ عن هذا الإكراه أو الإجبار من نتيجة، بل يسعى في إلغائهما. يقول تعالى لنبيه الكريم –صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان يشق عليه كفر قومه ويعز عليه إعراضهم: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)) . فإكراه الناس على عقائدهم وعلى مشاعرهم وعلى تصرفاتهم من منطلق إلغاء إراداتهم واختياراتهم أمر لا يقره الشرع، لكنه لا يمنع من محاسبتهم على ضوء هذا الاختيار في ظل موازين الحق والعدل والصواب. وهناك من يسيء فهم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحق يمارسه المجتمع لإلزام الناس بما أعلنوا عنه من قناعات وإرادات حرة حفاظا على (أمانة الكلمة) و(مسئولية الحرية)، كأن يؤمر بالصلاة المسلم المتكاسل عنها نظرا لأنها واجب التزم به بارتضائه الإسلام دينا، وأن ينهى المسلم عن شرب الخمر وهي محرمة في الشريعة التي انتسب إليها، ويحاول أن يلبس الأمر باعتباره وجها من وجوه تقرير المصير وحرية الاختيار. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب المصطلح ذاته مهمة تأتي في إطار إلزام الناس بما ألزموا أنفسهم به دينا وعُرفا وتعاقدا. لذلك فإن الجهاد -الذي هو ذروة سنام الإسلام- لم يُشرع في مواجهته للدول المتجبرة المستبدة من أجل إدخال الناس في الدين جبرا، لا! بل شرع عند وجود الأمة المسلمة وقيام الدولة المسلمة لإزالة الأنظمة الطاغوتية عن الناس وإعطائهم فرصة الاختيار بين: الدخول في الإسلام اتفاقا مع الفطرة والعقل، والخروج من كل عبودية إلا لله، ومن كل قانون إلا شرعه؛ فإن أبوا ذلك أن يعيشوا في ظل دولته آمنين مطمئنين متمتعين بخصوصيتهم في الحياة والعدل في التعامل مقابل ضريبة يؤدونها وملتزمين بأمن وهوية المجتمع المضيف؛ فإن أبوا ذلك أن يصطلحوا مع دار الإسلام بعهد أو ميثاق دون أن يمنعوا الإسلام من التبشير في أوساطهم بدون إكراه؛ فإن أبوا أن يقبلوا بصراع الشرفاء وجها لوجه ليكون السيف الحكم! وبذلك فإن الإسلام يعلي أولا من شأن قيمة الإيمان والحق، فإن لم تسموا أرواح الناس وعقولهم إليها، أعلى من قيمة التعايش والعدل، فإن لم تسموا أرواح الناس وعقولهم إليها، أعلى من قيمة الأمن والتصالح بلا ضرر ولا إضرار، فإن لم تسموا أرواحهم وعقولهم لذلك واجههم بالمنطق الذي يناسبهم (القوة)! وقد أشار القرآن الكريم إلى أن نبي الله تعالى موسى –عليه الصلاة والسلام، وعقب أن وجد صدودا وإعراضا من فرعون وقومه لرسالته ودعوته إياهم للتوحيد والإيمان، عاد ليطالب فرعون بإطلاق سراح بين إسرائيل من العبودية والاستبداد الذي أخضعوا له، رغم إيمان قلة منهم به تخوفا من فرعون : ((وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ، أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)) . ومن ثمَّ فإن على العلماء والدعاة اليوم العمل بجد لإخراج الناس من ظلمات الظلم والطغيان والاستبداد ليمتلكوا إرادتهم وكرامتهم وحريتهم ويشعروا بقيمة اختيارهم ودور الدين في حياتهم؛ والبعد عن الجدل البيزنطي الدائر اليوم في الساحة الإسلامية: بأيهما نبدأ الحرية أم التوحيد؟ وكأن هذين المعنيين متضادين أو متناقضين أو مختلفين!فالحرية وجه من أوجه التوحيد، والتوحيد منطلق رئيس للحرية، لأن التوحيد إلغاء كل عبودية وقيد إلا عبودية الله وقيده، وهو بهذا المعنى الحرية الحقة، والحرية التي يخضع فيها الإنسان للقيود والعبوديات الأرضية ليست بحرية حقة مهما اتخذت من شعارات. على هذا الأساس يمكن أن نحلل التحول الكبير الذي جرى في حياة سحرة فرعون في لحظة الإيمان المطلق عندما أعلنوا عن إرادتهم الكاملة الحرة: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى))، وهو إيمان لم يؤخذ له الأذن من فرعون: ((قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى))، لذلك فإن القناعة التي انطلق عنها استعذب العذاب: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا)). وإذا لم يعِ العلماء والدعاة والمصلحون هذه الحقيقة السننية والكونية فإنهم يحرثون خارج أرض الزرع، ويقصون أنفسهم عن حاجة الناس الضرورة في زمان الطغيان والعلو في الأرض بالفساد، ويخسرون المعركة لأنهم في الميدان الخطأ والمعركة الخطأ.. حتى وإن كانوا جند الله!