في منتصف منحدر جبل صبر من الجهة الشرقية، توجد قرية الشقب التابعة لمديرية صبر الموادم، والبالغ عدد سكانها نحو 9 ألاف نسمة. في ديسمبر من العام الماضي، حاولت مليشيات الحوثي وقوات المخلوع صالح، أن تلتف عبر مديرية خدير في محاولة الصعود مجددا إلى جبل العروس عبر الشقب، تصدى الأهالي لتلك المحاولة بما توفر لديهم من إمكانيات ذاتية، فاشتعلت المعارك ولم تتوقف حتى اليوم. صباح الاثنين الماضي كنا في طريقنا إلى الشقب، (مجموعة صحفيين وناشطين وناشطات)، وبينما نحن نقترب من موقع العروس، سيخبرني أسامة الوتيري، أنه قاتل العام الماضي هنا إلى جانب ثمانين مقاتل، وأن غياب الدعم هو من مكن الحوثي من الصعود إلى العروس. فعندما انسحبت مجموعته، كان قد صمد معها لنحو يومين ولديه ثلاث طلقات في الكلاشينكوف الذي ظل يوجهه إلى الطريق التي ستأتي منها المليشيات. "المقاتل المحظوظ كان لديه في مخزنه عشر طلقات، فقد رفض بعض قيادات المقاومة إمدادنا بالذخيرة، لهذا انسحبنا وفي اليوم الثاني سمعنا أن الحوثيين أصبحوا في العروس، واستغربت حينها من هذه السرعة". ذكرني حديث أسامة بالقصص الكثيرة المشابهة التي سمعتها عن المقاومة في مشرعة وحدنان التي هي بمثابة البوابة الغربية لصبر بينما الشقب هي البوابة الشرقية. إحدى تلك القصص تقول أن خمسة مقاتلين كانوا يتناوبون على كلاشينكوف واحد، وأن النساء بعن حليهن لأجل شراء الذخيرة. لماذا العروس؟ في محيط موقع العروس، وعلى مقربة منه، دارت المعارك الأشرس منذ بدء الحرب قبل أكثر من عام ونصف. ورغم التقهقر وحالة الضعف والشتات التي أصبحت عليه مليشيات الحوثي وصالح، إلا أنها ظلت تحاول التقدم ولم تفقد الأمل في السيطرة على العروس. كانت المقاومة الشعبية في صبر، قد تمكنت في شهر أغسطس من العام الماضي، استعادة الموقع الأهم، وحرمت بذلك المليشيات الحوثية والمسنودة بالقوات الموالية للمخلوع صالح، من فرصة عقاب المدينة. يقول أسامة أن المقاومة أعادت ترتيب صفوفها سريعا، وتمكنت من استعادة الموقع، الذي لو ترك بيد المليشيات، فإنها كانت ستسيطر من خلاله على مناطق واسعة. ومع نهاية العام الماضي كانت المليشيات قد طردت خارج صبر. الأمر الذي سيدفعها لإيجاد طرق جديدة للعودة، وتفعيل بعض الجيوب التي ظلت تحتفظ بها طوال الفترة الماضية. بالطبع تنبع أهمية موقع جبل العروس، من كونه يطل على أغلب الجبهات المشتعلة في تعز، سواء في الريف أو المدينة، كما انه يوفر طبقا لخبراء عسكريين إمكانية قصف مدينة عدن، في حال تمكنت المليشيات من إعادة السيطرة عليه، وتوفرت لديها صواريخ بعيدة المدى. الشقب حارسة العروس!
بعد ظهر الاثنين، كنا قد وصلنا فعلا إلى الشقب، القرية التي ستسمع فيها عن كل البطولات التي قد ترغب في سماعها، لكن أيضا إلى جانب حديث المعاناة التي لا تتوقف والخذلان المستمر. في الثاني عشر من شهر أغسطس الحالي، كانت معركة فك الحصار عن مدينة تعز قد انطلقت على أكثر من جبهة، وفي الشقب بمديرية صبر الموادم تمكنت المقاومة من السيطرة على تبة الصالحين. وهي التبة التي ظلت المليشيات تتمركز فيها وتقصف منها مساكن المواطنين منذ قرابة عام كامل. لا تزال المعارك مشتعلة في الشقب، وسط قصف كثيف من قبل المليشيات على مساكن المواطنين الذين لا تمضي يوم دون أن يسقط منهم قتلى وجرحى. ورغم شحة الإمكانيات وغياب الدعم بل وحتى الاهتمام الإعلامي بهذه الجبهة المهمة، فإن صمود المقاتلين من أبناء المنطقة واستبسالهم، على مدى قرابة عام، كبد المليشيات حتى الآن الكثير من الخسائر على الصعيد البشري والمادي. يقول مقاتلون التقينا بهم في الشقب، أن المعارك اشتدت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة، ومنذ استعادة تبة الصالحين، لم تتوقف المليشيات عن محاولة استعادتها، وكل يوم يسقط منها عدد من القتلى. ويضيف هؤلاء المقاتلون "اليوم مثلا هناك من ست إلى سبع جثث لا تزال مرمية حتى الآن، رغم أننا لا نمانع في آخذهم لجثث مقاتليهم". لقد صنع الناس الفارق بأنفسهم، أمنوا ظهر المدينة، قطعوا إمكانية عودة المليشيات إلى العروس، وشكلوا ما يمكن القول أنها نقطة انطلاق هامة، في حال قرر الجيش الوطني والمقاومة الشعبية قطع خط الإمدادات التي تصل عبر خط الحوبان الدمنة، ثم حيفان والصلو وباقي الجبهات المشتعلة في جنوبتعز. معاناة الشقب كان أول شخص التقيته، يدعى منصور شايف، سائق سيارة دفع رباعي عمره 29 عاما. طلبت منه أن يحدثني عن الشقب. كنت قد نسيت كل الأسئلة التي رتبتها براسي في اليوم السابق من الزيارة. قال منصور أن الشقب تفتقر لكل الأشياء، وهي صامدة حتى الآن، وكبدت المليشيات الكثير من الخسائر، بفضل صمود المقاتلين الذين يعتمدون على أنفسهم ولا يتلقون أي دعم. حولنا بينما نتحدث يتجمع كثيرين، من مختلف الأعمار، وكان يبدو أن كل واحد منهم لديه شيء مختلف يرغب في قوله. أحد المقاتلين قال مقاطعا: "في بعض الليالي كنا نخوض معارك شرسة ولدينا حقنتين فقط لإيقاف النزيف". وافق منصور "معظم الذين استشهدوا، استشهدوا في الطريق جراء النزيف". فهو واحد ممن يتكفلون بنقل الجرحى إلى مدينة تعز مضيفا: "كان يفترض أن يكون هناك مستشفى ميداني لطالما وجدت جبهة، بدلا من قطع مسافة ساعتين ونصف في طريق معظمها وعرة لكي نصل بالجرحى إلى إحدى مستشفيات تعز". استرسل منصور في رواية القصص التي عايشها عن موت مصابين بسبب النزيف، سواء من المقاتلين أو من المواطنين الذين تتعرض منازلهم للقصف. أحد المسنين فضل الحديث عن الحصار. قال أن سوق الدمنة في خدير هو أقرب سوق للشقب، ومنذ بداية الحرب والطريق إلى هناك مقطوعة، بينما المسافة إلى تعز طويلة، وتعز هي الأخرى تعاني من حصار. قال الرجل: "يصل الكيس الدقيق إلى القرية وقد أصبح سعره عشرة ألف ريال". وقت الغداء جلست إلى جوار مقاتل من قرية مجاورة، وسيخبرني أن جبهة الشقب مهملة من قبل الجميع، رغم أهميتها في منع المليشيات من الوصول إلى العروس. ووفقا لهذا المقاتل فالمقاومة هنا تعتمد على نفسها بشكل كامل، يبيعوا مدخراتهم ويشترون الذخيرة. الرجل المقابل على المائدة، أوضح أنهم عرضوا وثائق أراضيهم للرهن لمن سيتكفل بتوفير الذخيرة على أن يقوموا بالسداد بعد أن تنتهي الحرب. لكن لا أحد استجاب لهم. عندما أعود إلى تعز سأسمع أن قيادات في مجلس تنسيق المقاومة صرحت في إحدى اجتماعها، أن جبهة الشقب هي جبهة ثانوية. وهذه رؤية قاصرة ويدحضها الواقع، فالشقب بمثابة الحارس الأخير لموقع العروس الاستراتيجي. غير أن قول كهذا يفسر لماذا الشقب جبهة منسية، وأي ثمن يدفعه الناس هناك بسبب النظرة القاصرة. المرأة في صبر لا تكره الحرب هناك قاعدة تقول أن جميع النساء يكرهن الحرب رغم أنهن لا يشاركن فيها بشكل مباشر. لا وجود لهذه القاعدة هنا في صبر، لن تجد ولو قليل من التذمر لدى النساء، جميعهن أو على الأقل من سنقابلهن هنا في الشقب، عندما يتحدثن عن الحرب سوف يتحدثن عن أهمية تحقيق النصر. واحدة من هؤلاء النساء امرأة تجاوزت منتصف العمر سنقابلها في الطريق أثناء زيارتنا لحدود الجبهة، عندما اقتربنا منها كانت آخذت تدعو للشباب بالحفظ والنصر. لتضيف بشيء من الحزم: "يا عيالي لو كنتم كورتم بعد أبتهم ما كان بقي واحد من الكلاب". كان برفقتنا مجموعة من المقاتلين حاملين أسلحتهم، وهي تخاطبنا جميعا: "في القرية السفلى قالوا إن الكلاب هربوا كلهم ولم يبقى إلا واحد؟" أخبرها أحد الشباب أن الألغام هي من أعاقت تقدمهم، لهذا أكتفوا بدحرهم من تبة الصالحين، وفي الأيام القادمة سيكملون المهمة. شعرت المرأة التي لم نعرف أسمها بالطمأنينة، ثم عادت تتلو أدعيتها من جديد. سيجعلني هذا اعرف أن المرأة في صبر لا تكره الحرب قدر كرهها للهزيمة، الأمر الذي يكشف جزء من السر الذي يختبئ خلفه انتصارات المقاومة الشعبية في صبر رغم شحة الإمكانيات. قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة @aleshterakiNet