قبل عام صرح المخلوع صالح في خطاب متلفز، بأنه سيحارب لمدة 11 عاما، ولعل هذا أصبح اليوم يذكرنا بحروب الإمامة التي لا تتوقف في سبيل استعادة السلطة وأيضا الحفاظ عليها حتى يبقى الحكم ألهيا ومحصورا في سلالة معينة، لا يهم إن كان هذا سيأتي على حساب فناء شعب كامل. في العام 1943، كان الإمام يحيى حميد الدين، قد خاض حروب كثيرة في سبيل إرساء دعائم سلطته، بدأت قبل خروج الأتراك من اليمن، واستمرت حتى بعد خروجهم. وكنتيجة طبيعية لتلك الحروب، التي كانت هي كل ما يمكن لدولة الإمام أن تقوم به، فإن المجاعة التي ظلت تتنامى طوال الأعوام السابقة كانت قد وصلت تقريبا إلى حدودها النهائية. كانت المجاعة قد وصلت إلى مركز الحكم الإمامي، غير أن وطأتها كانت أشد في الأرياف البعيدة، التي لم يكن يربطها بالدولة سوى عكفة الأمام القائمين على جباية الزكاة والضرائب المضاعفة. جاءت هذه الأزمة بالتزامن مع سنوات قحط، وانتشار واسع للأوبئة والأمراض الفتاكة، في ظل عدم وجود أية أدوية أو رعاية صحية. يقول د. كمال البعداني، أنه في عام 1943م اجتاحت اليمن مجاعة كبرى وكان الناس يتساقطون في الطرقات من الجوع ومات الآلاف بسبب ذلك رغم أن مدافن بيت المال بعموم اليمن كانت ممتلئة بملايين الأقداح من الحبوب. ويتابع "كان الناس يتوافدون على الإمام يحي بصنعاء لعلهم يجدون ما يسد رمقهم ولكن هيهات أن يلين قلب الإمام". وطبقا لما كتبه البعداني ونشر في مواقع إعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أجتمع "علماء ووجهاء صنعاء وقدموا عريضة للإمام يترجوه أن يوجه فرن "الكدم" بمضاعفة الإنتاج بحيث يعطى لكل وافد ومحتاج حبتين من الكدم في اليوم، فكان رد الإمام على ظهر الورقة: أحسنتم بالرأي ولكن ما يكفي الخلق إلا الخالق دعوهم من عاش منهم فهو عتيق ومن مات فهو شهيد". علق أحد الذين تقدموا بالطلب بقوله: "اسمعوا يا خبرة إذا كان ابن حميد الدين مصدق بيوم القيامة اقطعوا رقبتي بحذاء". حصدت المجاعة والحروب ملايين اليمنيين، في جريمة لم يسجلها التاريخ، وسجلتها ذاكرة من نجوا منها بأعجوبة وأصبحوا مسنيين يرون قصص حتى وقت قريب كان من الصعب تصديقها. تبدو المصادر التاريخية شحيحة، كما أن الحديث عن تلك المأساة لم يأخذ حقه بعد، فاليمن حتى ذلك الوقت، خصوصا اليمن الشمالي، ظلت بمثابة موطن غير مكتشف يقطنه هنود حمر لا أحد يعرف عنهم شيئا. نقلت مذكرات الرحالة الأجانب كثير من القصص، ليس فقط تلك التي شاهدوها في هذا البلد، ولكن يكفي تلك التي دونوها عن أنفسهم وكيف نجا البعض منهم من الموت وسقط آخرين، لتعرف حجم المأساة اليمنية. وكما قلنا فلم تكن المأساة وليدة تلك اللحظة، بل هي كما هو حالنا اليوم، امتداد لأوضاع قاسية ظلت مستمرة منذ حكم الأتراك وتضاعفت بعد خروجهم، فعندما وصل الرحالة التونسي عبدالعزيز الثعالبي إلى محافظة إب، حوالي العام 1924م التقى ببعض النسوة في أحد المجالس، واعتقدن أنه قد يكون مبعوث من الأتراك ولذا اشتكين من حكم الإمام ومن عساكره الذين يقومون بجباية الأموال من المزارعين، ثم يتركونهم لمقاساة الجوع والمرض. يقول الثعالبي في كتابه "الرحلة اليمنية" أن تلك النسوة امتدحن الأتراك واظهرن أمامه أمنيات بعودتهم. لقد اعتقدن أن الأتراك أكثر عدلا من نظام الإمامة. مصادر تاريخية أخرى، تحدثت عن أن الأتراك خرجوا من اليمن، وكان عدد سكان هذا البلد حينها قرابة 6 مليون نسمة، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان مصر 5 مليون نسمة. بعد قرابة خمسة عقود من حكم الأمام يحيى ونجله أحمد لليمن، أصبح عدد السكان 5 مليون نسمة، وفقا لإحصائيات سجلت بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962. خلال هذه الفترة نقص من سكان اليمن مليون نسمة، بينما بلغ عدد سكان مصر نحو 20 مليون نسمة. يتذكر مسنون سنوات المجاعة، بقولهم أنه لم تكن تمر يوم لا يسقط فيها الناس أموات "خمس جنازات على الأقل كانت تزور نفس المقبرة خلال ساعات النهار في القرية الواحدة". لا يمكن تخيل حجم الإبادة التي تعرض لها اليمنيين على يد آخر دولة للأمة، لكن جماعة الحوثي، نجحت حتى الآن، في تقديم نموذج حي لتلك المأساة المروعة التي أبيد فيها شعب كامل، ويبدو أنها في الطريق لتجاوزه. هدف الحوثي ومعه صالح لا يختلف عن هدف الأمام يحيى، وهو الحصول على السلطة مهما كان الثمن، وجعل الحرب هي المهام الأساسي والوحيد الذي يمكنهم القيام بها في سبيل ذلك الهدف. لدى تحالف الحوثي وصالح، الاستعداد الكافي للتضحية بمليون يمني من المقاتلين الذين يجري تحشيدهم تحت عناوين كثيرة، في عملية يجري فيها استثمار الجهل والفقر المتفشي بين أبناء القبائل في شمال الشمال اليمني، كشاهد آخر حي على كيفية صناعة جرائم إبادة الشعوب. هذا التحالف لا يعنيه عدد الضحايا الذين سيقتلون بنيران أسلحته، أو الذين ستلقي بهم حروبه المشتركة مع الحوثيين، إلى أحضان المرض والجوع وفي النهاية الموت، فهؤلاء هم في الأساس خارج حساباته. تروي تهامة اليوم أحد فصول المأساة المتجددة، كما أن توقف رواتب نحو مليون ومائتين موظف حكومي، يعني أن المأساة في طريقها لتستفحل وتشمل جميع اليمنيين. وأمام وضع كهذا، سوف نجد عبدالملك الحوثي، وكل الرموز الحوثية، مستمرون في تأجيج الحرب على أساس طائفي، وإصدار الفتاوي التي تحرم على المقاتلين العودة إلى منازلهم. تاريخ المأساة أصبح يتكرر اليوم على شكل مهزلة حية، غير أن نتائج هذه المهزلة قد تفوق نتائج المأساة الأصلية، فهي لا تزال مستمرة في تأدية عروضها الوحشية على مسرح حياة اليمنيين وعلى حساب وجودهم مرة أخرى في تاريخ البشرية.
قناة الاشتراكي نت_ قناة اخبارية للاشتراك اضغط على الرابط التالي ومن ثم اضغط على اشتراك بعد أن تفتتح لك صفحة القناة @aleshterakiNet