اتجهت الدول في مجال مكافحة الإرهاب مسارات أو اتجاهات متباينة : أمنية وقانونية وشمولية، فقد تبنت بعض الدول «المعالجة» أو المقاربة الأمنية كاطار وجد للحد من الآثار السلبية الناجمة عن أعمال الجماعات «الإرهابية» عبر تكليف العديد من الأجهزة البوليسية، والاستخباراتية لمتابعة ومكافحة خلايا الإرهاب وجماعاته على المستوى الداخلي، وتجييش الجيوش لمحاربته على المستوى الدولي. لكن، ونظراً لكل مايخلفه هذا النوع من المعالجات من كوارث وعواقب وخيمة على الأمن والسلم الدوليين فهو مرفوض أياً كانت الأسباب والمبررات التي تدلي بها الأطراف التي تلجأ إليه لأنه يمثل انتهاكاً صارخاً لكافة الحقوق الإنسانية، وخرقاً سافراً للقانون الدولي الإنساني، سواء تم تبنيه على المستوى الوطني، أم على المستويات الإقليمية والدولية، وأياً كانت الدوافع التي أدت إلى تبنيه، على أساس أنها لاتبرر ابداً انتهاك حقوق الإنسان وحرياته، كما أن النتائج الكارثية الناجمة عن تبني هذه المقاربة مقارنة بالنتائج المحدودة في مكافحة الإرهاب والحد من آثاره المدمرة دفعت العديد من المحللين إلى رفض هذه المقاربة والدعوة إلى تبني أساليب ومعالجات أخرى. وأمام هذه الانتقادات وغيرها.. فقد مالت غالبية المعالجات الدولية، والإقليمية، وحتى الوطنية إلى تبني المقاربة القانونية، باستثناءات قليلة جداً سواءً على المستوى النظري، أم العملي، لقد اكتسبت جهود مكافحة الارهاب بكافة أشكاله، ومستوياته، وأبعاده أهمية وتطوراً كبيرين : حيث سعى المجتمع الدولي وأمام تفاقم حدة الجرائم المرتكبة إلى تقنين الجريمة الإرهابية، وبصورة متزايدة. ويكفي على سبيل المثال لا الحصر الإشارة إلى صدور مايقرب من «200» قانون مؤقت أو ردعي بحجة مواجهة الأوضاع الاستثنائية في الدول العربية وحدها بعد مرور قرابة السنة على أحداث سبتمبر، كما تنبهت منظمة الأممالمتحدة والهيئات والأجهزة التابعة لها إلى خطورة الظاهرة الإرهابية، وقدمت لها العديد من المعالجات : حيث سعت المنظمة إلى الاهتمام بظاهرة الارهاب من منظور قانوني، وسياسي، وقد اعتمدت العديد من القرارات القانونية والاتفاقيات الدولية الخاصة لامجال لحصرها نظراً لكثرتها. لقد دفعت خطورة الجرائم المرتكبة على الصعيدين المحلي والدولي الكثير من الدول إلى تكثيف التعاون الدولي بهدف السيطرة على مختلف الجماعات الإرهابية، وجماعات الجريمة المنظمة، وإلى وضع العديد من الآليات للعمل على تفكيك «الجماعات الإرهابية» وملاحقة اعضائها، وقد كانت المعالجات المتبناة على المستويين الأمني والقانوني أمراً لامناص منه في سبيل التصدي لتلك الظواهر. والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل نجحت تلك المعالجات الأمنية والقانونية في القضاء على الإرهاب ؟ وهل استطاعت تخفيف منابعه، بالمؤازرة مع العديد من الخروقات التي ارتكبت ضد الإنسان وحقوقه وحرياته ؟ والإجابة عن التساؤل السابق هي أن تلك المعالجات وان كانت قد نجحت في دفع العمليات الإرهابية نحو الانحسار والتراجع في بعض أنحاء العالم ، إلا أنها لم تنجح في اقتلاع الإرهاب بقدر ماعملت على تشتيت جماعاته وتوزيعها في أنحاء متفرقة من العالم، وخلقت بؤراً جديدة للتوتر والأعمال الإرهابية فهي بطبيعتها غير كافية لأنها علاجية أكثر منها وقائية، كما أنها في العديد من الحالات، أفرزت خروقات وانتهاكات عميقة لحقوق الإنسان لذلك يصبح من الضروري في ظل هذه الوضعية، أن يتم تعزيز ذلك بمعالجة شمولية، تضمن مكافحة الإرهاب وتجفيف، منابعه وتكفل في الوقت نفسه.. الحفاظ على مختلف المكاسب الحقوقية التي تحققت للمواطن في بلده. ولعل التجربة اليمنية في مجال محاربة الإرهاب ومكافحة الجماعات التي تقوم بتلك الأعمال هي التجربة التي يمكن أن تعطي مؤشراً عن النجاحات التي يمكن أن تحققها اساليب مكافحة الارهاب بدون اللجوء إلى القوة كخيار رئيس، وان لم تستبعده كلياً. بداية تجدر الاشارة إلى أن مهمة مكافحة «الارهاب » في اليمن لم تكن ابداً بالمهمة السهلة، بسبب عدة عوامل، يحددها الباحث اليمني «عادل أحمد علي » في : الافتقاد للخبرة الأمنية اللازمة لمواجهة «خطر» الارهاب المتربص.. الذي ظهر بشكل ملفت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، الحدود المترامية الأطراف «براً وبحراً» والمفتقدة للرقابة الأمنية الصارمة، وتعقيدات البنية الاجتماعية اليمنية المرتكزة على ثقافة القبيلة، وانتشار السلاح في أوساط اليمنيين. وبسبب تلك العوامل وغيرها فقد عرفت اليمن ظهور العديد من جماعات العنف والتطرف والارهاب، التي ارتكبت طائفة من الأعمال الإرهابية، سواء ضد المواطنين اليمنيين، أم ضد الأجانب المقيمين في اليمن، ومصالح الدول الاجنبية في اليمن، ومن هذه الحالات : - تعدد حالات الاختطاف لمواطنين يمنيين ، ولدبلوماسيين اجانب. - الهجوم الذي قامت به جماعة «جيش عدنابين الاسلامي» على قافلة من السياح الأجانب في 1998م. الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها مدينة عدن. - حالة تفجير المدمرة الأمريكية يو إس إس كول U. S. S Cole بميناء عدن 2000م . -تفجير الناقلة الفرنسية للنفط «ليمبرج» في المياه الإقليمية اليمنية بمدينة المكلا. - الإعلان عن اكتشاف بعض الخلايا النائمة «للقاعدة» في صنعاء، وقبلها إحباط محاولتي تفجير في محافظتي حضرموت ومأرب. - تمرد منظمة الشباب المؤمن بقيادة حسين بدر الدين الحوثي وأتباعه في محافظة صعدة ثم تجدد التمرد من أخيه عبدالملك خلال الأيام القليلة الماضية. وقد تعاملت السلطات اليمنية مع هذه النماذج المتعددة لوجوه الإرهاب بالعديد من الوسائل وللتحديد أكثر يمكن أن نقول بأسلوبين مختلفين : الأسلوب الأمني القانوني، وبالموازاة مع ذلك الأسلوب لجأت إلى أسلوب الحوار الفكري والديني. 1) الاجراءات الأمنية والقانونية: لقد واجهت اليمن صعوبات كثيرة في مواجهة الإرهاب والعمليات الإرهابية التي سبقت الإشارة إليها أعلاه، ولم تكن البنية التحتية للأجهزة الأمنية اليمنية مؤهلة للاضطلاع بمهام المكافحة، ولذا فقد تم إدخال العديد من التقنيات الأمنية الحديثة. كما تم استحداث اجهزة جديدة كمصلحة خفر السواحل، وكذا القوات الخاصة وإدارة مكافحة الإرهاب التي صدر بتشكيلها قرار جمهوري، وتعزيز قدرات هذه الأجهزة سواء في الجانب التقني أم التأهيلي للكادر البشري، واعتقد أن المهمة لم تكن سهلة أبداً. وكانت محفوفة بالمخاطر والتحديات الحقيقية وأيضا المخاوف. لكن ونظراً لصعوبة إحراز النجاح الأمني المنشود في مكافحة الإرهاب ورغبة من الحكومة في سد الذرائع أمام أي محاولة للتدخل الأجنبي في الشئون الداخلية للبلاد، فقد لجأت إلى تشديد العقوبات في العديد من القوانين إلى جانب سن قوانين جديدة، فكما جاء في التقرير الاستراتيجي لسنة 2000م يمكن الإشارة إلى ثلاثة قوانين استوعبت جرائم الارهاب، وهذه القوانين هي : 1) قانون الجرائم والعقوبات «القانون رقم «12» لسنة 1994م. 2) قانون الطيران المدني. 3) قانون مكافحة جرائم الاختطاف والتقطع «القانون رقم «24» لسنة 1998م»، والذي وافق عليه مجلس النواب اليمني سنة 2002م، وقد جاء اعتماد القانون الأخير بمثابة رد فعل لمواجهة الانتشار الملحوظ للعديد من الأعمال الإرهابية، وبعد وقوع سلسلة من الأعمال التي تدخل ضمن الجرائم التي تصنف على أنها جرائم عنف أو ارهاب والمتمثلة في : التقطع، والاختطاف، وتفجير انابيب النفط والقرصنة البحرية. واختطاف الطائرات والاعتداء على رجال الأمن والقضاء، وسرقة الممتلكات، وهي الجرائم التي استشعر المشرع من خلالها جسامة المخاطر، وعدم ملاءمة العقوبات المنصوص عليها في قانون الجرائم والعقوبات. أدت الاجراءات التي لجأت إليها الحكومة اليمنية التي سبقت الإشارة إليها أعلاه لعلاج بعض حالات التمرد ضد الدولة، مثلما هو الحال مع : جيش أبين الاسلامي بقيادة «أبو الحسن زين العابدين المحضار»، ومع منظمة الشباب المؤمن بقيادة حسين بدر الدين الحوثي، وأبيه حسين الحوثي . ثم أخيه عبدالملك من بعده، إلى إرتكاب العديد من الانتهاكات لحقوق الانسان كماهو متعارف عليها دولياً من الجانبين المتصارعين. وفي الواقع إن الرغبة التي أبدتها تلك الجماعات وخاصة من «أتباع الحوثية» في تغيير النظام السياسي واستبداله بنظام إمامي بائد، وتبني العنف سبيلاً أو حداً للوصول إلى تلك الغاية، تحت غطاء دعوة مذهبية تعصبية تؤججها رغبات مريضة داخلية وإقليمية للانتقام من النظام السياسي اليمني بسبب مواقفه القومية والإسلامية، وضعت السلطة اليمنية في مأزق حرج بين الحرص على النهج السلمي لفخامة الأخ الرئىس علي عبدالله صالح، والقائم على الدعوة إلى التسامح والحوار الهادىء والسلمي والحضاري بين أبناء المجتمع اليمني الواحد، والاشتغال ضمن المبادىء الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية، واحترام التعدد والاختلاف، وبين واجباتها الدستورية وضرورات الحفاظ على الأمن والسلم الوطنيين، وحماية أرواح الأبرياء من جنود ومواطني الجمهورية، وخاصة في ظل تبرم البعض من سياسة ضبط النفس التي اتبعتها القيادة السياسية في معالجة هذه الأزمة وهو الأمر الذي دفع فخامة الأخ الرئىس إلى دعوة قيادة تلك الجماعة للاختيار بين تسليم السلاح والامتثال لقوانين الدولة ،والاندفاع من صدور قرار العفو والتعويض من جهة أو مواجهة التدخل العسكري لاخماد تلك الفتنة القائمة ووأدها في مهدها وهو التدخل الذي تجيزه - ولو بشكل استثنائى - كل القوانين والأعراف المحلية والدولية ،وتبيحه القواعد الأخلاقية. 2 اسلوب الحوار الفكري والديني: من جهة أخرى قدمت الحكومة اليمنية انموذجاً جديداً في أساليب التعامل مع جماعات التطرف والارهاب حيث قامت بفتح قنوات الحوار الفكري مع العديد ممن لم يثبت تورطهم في ممارسة العنف والقتل من هذه الجماعات ،وقد أثمر الحوار الذي قاده القاضي اليمني «حمود الهتار» ومعه أربعة من علماء اليمن على هيئة مناظرات شرعية مستعيناً بنصوص القرآن مع العديد من تلك الجماعات إذ عادوا إلى«جادة الصواب» متخلين عن الغلو والتطرف والانحراف الديني ،واقتران كل ذلك كما يشير وزير الخارجية اليمني«د.أبو بكر القربي» بتبني سلسلة من: الإصلاحات الاقتصادية الرامية إلى التخفيف من حالات الفقر والبطالة التي تجدها عناصر التطرف مدخلاً سهلاً لتجنيد عناصر جديدة خاصة من فئة «الشباب» أي تبني معالجة شمولية لمحاربة الارهاب ومعالجة أسبابه وهو الأمر الذي يستوجب الاستمرار في تنفيذ البرنامج الانتخابي لفخامة الأخ الرئىس/علي عبدالله صالح ،والاسراع في تحويله إلى واقع ملموس يسد باب الذرائع ويطبق الأفواه المشرعة ،ويسكت كل الانتقادات الموجهة إلى الحكومة اليمنية.. وليس المهم من أين نبدأ بل أن يستمر مسلسل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بما يعزز ثقة المواطن بدولته ،ويعيد البسمة إلى أفواه كل فرد يمني. ولعل التجربة اليمنية في مواجهة ظاهرة الإرهاب وعلى الرغم من النتائج الجيدة التي تمخضت عنها تبقى محدودة النتائج ومحصورة في الوضعية التي يعرفها المجتمع اليمني ومحكومة بطبيعة القوى السياسية التي تتواجه على الساحة اليمنية والتي لم تكن تفصل بينها مساحات كبيرة من التباين على مستوى العقيدة ،أو العرق ،أواللون أوغيرها من أشكال التمايزات التي تعرفها مجتمعات عربية ،وغربية أخرى ،وربما تمثل الحركة الحوثية استثناء من هذا التعميم ،إذ تحمل بذور فتنة طائفية ومذهبية ،وخروجاً عن المألوف في مجتمعنا اليمني نسأل الله أن يجنب مجتمعنا تبعاتها ونتائجها وأن يديم علينا نعمة الأمن والاستقرار والوئام الاجتماعي«إنه سميع مجيب» صدق الله العظيم. ولذا فليس من المعروف إن كانت ستحقق نفس النتائج في حال جرى تطبيقها في مجتمع آخر ،وفي ظل ظروف مغايرة للظروف التي يعيشها المجتمع اليمني ،بيد أن هذا كله لايمنع من دراسة إمكانية الاستفادة من التجربة اليمنية في معالجة الظواهر المماثلة في العديد من المجتمعات العربية وغيرها. - استاذ العلوم السياسية - جامعة إ