ما أصدقها تلك الأحاديث والروايات النابعة من القلب والصادرة عن نفسٍ بشرية محبة خالية من كل عقد النقص ومظاهر التملق والتزلف، والتي تنظر للماضي بعين الرضا عما تحقق، وتستشرف المستقبل ببصيرة ثاقبة تنفذ إلى ما وراء الحقيقة والواقع اليومي المعيش. وأزعم أن هذه واحدة من أهم صفات أجيال الحركة الوطنية اليمنية، قديماً وحديثاً. ولعل من المثير للتأمل والتدبر أن تأتي أغلب الروايات والأحاديث عن الشيخ الراحل عبد الله بن حسين بن ناصر الأحمر، وبالرغم من الفارق التاريخي والزمني الكبير بينها، والاختلاف في السياق الزمني والتاريخي أو المناسبة التي قيلت فيها (الأولى تستشرف المستقبل السياسي والدور الهام الذي سيكون للشيخ الشاب في تاريخنا اليمني المعاصر، والأخرى حديث وداع ورثاء وتأبين للشيخ الراحل)، واختلاف الصلات التي ربطته بقائليها، متطابقة ومتوافقة حد التماثل الكلي. فقد جاء في أحد مقاطع الرسالة التي بعثها أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري إلى الفقيد الراحل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، العبارات التالية: « يا بني الكريم إنك الآن تحمل أثقال جبال اليمن وسهولها، ووديانها، وإن هيكلك النحيل امتحنه القدر فحمله الأمانة الكبرى نحو الشعب والبلاد، وأملي عظيم في أنك تحمل ما حملت، وتؤدي ما فرضه الله عليك، إنك الذي ترجح كفة النجاة لوطنك كله، ليس هذا مبالغة ولا ثناء، وإنما هي مسئولية نوجه نظرك إليها». وقد جاء في حديث الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح «في وداع الشيخ» تأكيد على عظمة الدور التاريخي الذي مثله الفقيد الراحل في مسيرة الثورة اليمنية، حيث جاء فيه: « في بلادنا مشايخ كبار وكثار، مشايخ محترمون ومناضلون وعلى درجة عالية من الشهرة، إلا أنه عندما يقال «الشيخ» فإن الأنظار تتجه إليه وحده، إلى الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الذي جمع المجد من أطرافه الوطنية والقبلية والسياسية..، واستطاع بذكائه وحنكته وحكمته أن يكون وسطاً ووسيطاً في كثير من المواقف الملتهبة، وأبى إلا أن يكون شوكة الميزان ليس في التوفيق بين القبيلة والدولة، كما يقول البعض فحسب، وإنما بين القبائل نفسها وبين المشايخ أنفسهم». تكشف العبارات السابقة، الصادرة عن مجايلي الشيخ الراحل ومعاصريه جانباً هاماً من حقيقة الدور العظيم الذي مثله الفقيد الذي رحل عنا، ومكانته الهامة وسماته في بقاء وترسيخ دعائم الثورة اليمنية، والذود عن حياضها، والحفاظ على الوحدة اليمنية ومكتسباتها، والمشاركة في إدارة دفة الحكم خلال العديد من المراحل التاريخية الهامة التي اجتازتها الثورة اليمنية، ويكفي أنه عاصر كل أنظمة الحكم ومن موقع المسئولية، وكان له دور لا ينكر خلال العديد من الأحداث التي وقعت في الساحة اليمنية. ربما قد يكون من النادر جداً أن تتفق أغلب الروايات والأحاديث وآراء عامة الناس وخاصتهم، المتقدم منهم والمتأخر، المؤيد منهم والمعارض، حول شخصية وطنية واحدة عاصرت كل المراحل والمتغيرات التي مر بها مجتمعنا اليمني منذ ستينيات القرن الماضي، وكان يفترض فيها - وبحكم موقعها من الأحداث، ومواقفها العديدة في مراحل الثورة اليمنية المجيدة - أن تكون مثيرة للجدل وللخلاف أكثر من أي شيء آخر، وخاصة عند من لم يتمكن من قراءة تاريخنا الوطني اليمني الحقيقي بتمعن وبموضوعية وإنصاف للأدوار والمواقف، ولم يعرف حقيقة الأدوار النضالية والبطولية التي قام بها كل واحد من رجال الحركة الوطنية اليمنية من عسكريين ومشايخ وقضاة وعلماء وتجار ومثقفين من أبناء اليمن الواحد، ومن عامتهم وخاصتهم. وهذا هو واقع الحال مع الروايات والأحاديث التي تناولت مسيرة الفقيد الراحل الشيخ المناضل الوطني الجسور عبد الله بن حسين بن ناصر الأحمر. فمن الثابت تاريخياً أن الفقيد الراحل قام بالعديد من الأدوار التاريخية الهامة في تاريخ أمتنا اليمنية بحكم موقعه المتميز والمتقدم على قمة أكبر تجمع قبلي يمني، ومشاركته المبكرة في ترسيخ دعائم الثورة اليمنية في بداياتها الأولى، وقربه من مركز القرار، بل ومشاركته الفعلية فيه من مواقع متعددة (توليه حقيبة وزارة الداخلية، ورئاسة أول مجلس وطني في تاريخ اليمن المعاصر، ورئاسته لمجلس الشورى المنتخب في مرحلة تالية، ثم رئاسته لمجلس النواب اليمني بعد إعادة الوحدة اليمنية المباركة إلى حين وفاته رحمه الله تعالى)، وبحكم المواقف والقرارات الصعبة والحاسمة التي اتخذها، والتي أثارت الخلاف بين الشيخ عبد الله وبين مجايليه ومعاصريه من رجال الحركة الوطنية وممثلي السلطة في مختلف المراحل التاريخية الحاسمة التي عرفها النظام السياسي اليمني، بل لا نكاد نجد في تاريخنا المعاصر حدثاً سياسياً هاماً أو محطة تاريخية حاسمة إلا وكان الشيخ الراحل أحد صانعيه، كما شكل عامل ثقل وعنصر توازن خلال العديد من المحطات التاريخية الحاسمة من التاريخ الوطني اليمني، أهله لذلك الخبرة التاريخية التي اكتسبها بمرور الزمن، وموقعه المتوسط بين القبيلة والدولة، وبين السلطة والمعارضة، ومواقفه المبدئية التي جعلته موضع احترام وتقدير الجميع في السلطة والمعارضة في الوقت نفسه. وفي هذا الصدد يضيف أستاذنا الدكتور المقالح: «.. أن الشيخ عبد الله كانت له مواقفه المبدئية على الرغم من خلافه في كثير من القضايا مع الكثيرين من محيطه القبلي والثقافي والسياسي، وكان قادراً على أن يرتفع فوق كل الخلافات وأن يتحكم في عواطفه ويتجاوز الحساسيات الشخصية، حرصاً على الوفاق وتفادياً لأخطاء أكبر». وهو النهج الذي أزعم أن على الجميع في بلادنا في السلطة والمعارضة أن يتوافقوا عليه حفاظاً على الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية والحرية والوفاق الوطني، وتكريماً للتاريخ الوطني والنضالي للفقيد. ورحم الله الشيخ المناضل عبد الله بن حسين الأحمر الذي آمن بتلك القضايا ودافع عنها طيلة مسيرة حياته الحافلة بالعطاء لهذا الوطن، وأسكنه فسيح جناته.