قبل عقود قليلة كانت اليمن تئن من العزلة الخانقة، إلا أن ما شهدته مؤخراً من انفتاح واسع جعلها تقف اليوم أمام ثورة التقنيات المعلوماتية بارتياب كما لو أن لا قبيل لها بمجاراة الزخم المعرفي، وأدوات كبح جماح التهور ! بعد أكثر من ستة أعوام من ولوج عالم الصحافة الالكترونية لم تزل اليمن عاجزة عن تجاوز الإشكالية القانونية في التعاطي معها، وآثرت النظر إليها على أنها «ابن غير شرعي» للصحافة اليمنية، رغم تناسلها المذهل إلى نحو «110» مواقع إخبارية تبث من داخل اليمن و«12» موقعاً من خارجها، واكثر من «30» منتدى، ومحرك بحث عالمي واحد يبث من الخارج، وما يقارب «250» موقعاً لمؤسسات وهيئات حكومية وأهلية .. فيما تشهد ساحة «المدونات» تكاثراً يصعب إحصاء أعداده. وفي ظل هذا الزخم من التنامي في المجتمع الالكتروني، فإن مواصلة النظر إليه كوجود «غير شرعي» يعد مغامرة كبيرة غير مأمونة كونه تجاهلاً لحقيقة قائمة، باتت تطبع آثارها سلباً وإيجاباً سواء على صعيد الوعي الثقافي العام، أم المعرفة الخبرية، أم الحراك السياسي، أم النواحي الأمنية، والهموم الوطنية، وصناعة الرأي العام الخارجي تجاه مختلف تفاعلات الحياة اليمنية ! لقد تحولت الصحافة الالكترونية في الآونة الأخيرة إلى بوابة دخول المجتمع الدولي إلى اليمن، إلا أنها للأسف لم تكن بوابة مشرفة بالقدر المأمول، إذ غلب العمل الحزبي على الجانب المهني، ولم يتعد التوسع الحاصل مساحته الأفقية وليست العمودية «النوعية»..! وفي الوقت الذي ترجمت المساحة الشاسعة جداً لقوى المعارضة على الانترنت حجم رهانها على الخارج، فإن ضآلة مساحة السلطة أوالحزب الحاكم ترجمت أيضاً قصر النظرة والوعي في إدراك أهمية تلك المساحات، ومدى تأثيرها على البرامج الوطنية، في الوقت الذي تمتلك الجهات الرسمية امكانيات كبيرة تؤهلها لتقديم نماذج مثالية من الإعلام الالكتروني قادر على سرقة أضواء المجتمع الدولي. إن في مقدمة إشكالاتنا الحالية هي أننا متهاونون كثيراً في احتواء الصحافة الالكترونية داخل أطر قانونية، أو مواثيق شرف مهني بما يسهم في كبح جماح التهور والعمل اللامسئول.. أما الأمر الآخر هو ان الجهات الرسمية في حالة إن رغبت بحجب أحد المواقع الالكترونية تحت مسوغات مشروعة، فإنها مازالت تفتقر للخبرات الفنية للقيام بذلك، وقد أثبتت التجارب تفوق الطرف المستهدف بالحجب، بحيث بات متصفحو الانترنت يتداولون برامج خاصة بكسر الحجب.. وهذه الحقيقة بحد ذاتها في غاية الخطورة، لكونها تمثل اعترافاً صارخاً بأننا فشلنا في تأمين «الحدود الالكترونية أو الثقافية» لليمن من أي «اعتداء» يستهدفها من الخارج أو الداخل. ربما علينا تطوير تفكيرنا بنفس أفق تطورات الحريات الإعلامية وفلسفة العصر الذي نعيشه، وبالتالي فإننا أمام خيارين هما : إما أن نمتلك قوة الخبرة الفنية التي نستطيع بها إحكام قبضتنا على عالم الانترنت، وذلك أمر قد يصطدم أحياناً مع الحياة الديمقراطية والحريات.. وإما ان نطور تجاربنا الإعلامية ونوجد مواقع إخبارية تعمل بمهنية عالية، فنكون قد سحبنا البساط من تحت أقدام أولئك الذين يشوهون الحقائق ويروجون للفتن وثقافة الكراهية. وبتقديري أن الخيار الثاني هو الحل الأمثل، لإشكالاتنا، لأن الخبرة التقنية متجددة ومتطورة وتفوق قدراتنا على مجاراتها، في الوقت الذي يعتمد الخيار الثاني على الإرادة البشرية، وحجم الاجتهاد في الأداء.. وهنا سنكون قد ترجمنا سلوكاً حضارياً يتفق وقيم الحياة الديمقراطية.. وفي كل الأحوال تبقى حاجتنا للتأطير القانوني قائمة بقوة لأن القانون هو ضمانة المجتمعات في حماية قيمها وعقائدها وتراثها الإنساني.