للمصطلح سيادة في دنيا الحضارة والتمدن، وحصافة المجتمعات الغربية في صناعة المصطلحات المتداولة أظهرت أهمية أن تقف الطبقة العربية المثقفة في وجه الألفاظ والأشكال التعبيرية التي تظهر فجأة لتعتبط الدلالات وتقولب تصورات مشبوهة ليس لها من قاعدة في ذهنية المجتمع. في صحافتنا اليمنية المعاصرة نحن بحاجة إلى ميثاق شرف «خاص» لتداول المصطلحات بحيث يتم تحاشي كل مايثير غبار الفوضى والفتنة وتثوير الإنسان للانقلاب على قيمه الحضارية وخلفياته التاريخية. هناك مصطلحات جغرافية كساها خطابنا الصحفي ثوباً سياسياً، وهذا العمل في حقيقته ماأريد به الانضواء في سياق الجهود التي تتواصل لإثبات جدارة اللغة في التعبير عن كل مايجدّ، ولكن أريد به استغلال منبر الديمقراطية ودعم الحريات للترويج لمشاريع تآمرية هدفها إخراج ثوابت وطنية ومعتقدات سليمة وحقائق تاريخية إلى دائرة الجدل ومن ثم تصبح هذه الثلاث شبابة في شفاه الأطروحات والرؤى والمقاييس الأيديولوجية والتدخلات الخارجية. تتجدد اليوم في نفوسنا شحنات القلق ونحن نعيش تحت سقفٍ واحد أوجد مساحة كافية لصحافة مثيرة في الوقت الذي تستمر بعض معامل التحرير الصحفي في طباخة هذا الوطن وإخراجه على شكل مقاطعات..! مايجري هو بالفعل تجزيء تنظيري ليس سوى مرآة لطيش من نوع خاص، وهو خاص لأنه طيش ينضوي تحت ديمقراطية طائشة مثله تسود العالم، وهي مجبولة على أن تطيش يدها في صحفة الهدم والفوضى ومن هنا فإن مساحة حرية الرأي والتعبير في بلادنا لانقول هي المسؤول عن ذلك بحيث نشرع في إدانتها ولكن نقول: إن استيعابها لمشاريع صحفية طامحة كان نتيجته أن تنقلب هذه المشاريع على الديمقراطية..حدث ذلك يوم أن دخلت بعض الأقلام العمل الصحفي من باب التغيير في المصطلح السياسي وتحميل هذا العبث مايشبع رغبات ايديولوجية وأنانية فردية إلى جانب البحث عن الإثارة وتكوين قاعدة جماهيرية. لايزال البعض إلى ساعتنا هذه يستجيد الخروج إلى الناس بتراكيب من أمثال:« أبناء الجنوب، القضية الجنوبية، الحراك الجنوبي» وإذا كان هذا هو دور «الأطرش في الزفّة» فإن الحقيقة تقول إن هذا «الرقص» المتأخر بدأ مجاراة لإعلام خارجي شأنه توصيف مكان الحدث بطريقة موجزة أعلق بذهن المتلقي فيقال «في شمال اليمن» أو «في جنوبه» لكن ليس لهذا التركيب مايسوغ استعماله في صحافة وطنية والسبب أن هذا المصطلح بخلفياته الكيدية خطير على مستقبل اليمن وتركيبتها الشعبية. إن فكرنا الوحدوي لا ولن يعترف بتقسيم جغرافي ذي صبغة مناطقية والذي نعرفه هو تقسيم إداري لمختلف مناطق اليمن أوجده هدف مؤسسي يتمثل في حاجة السلطات الثلاث لممارسة أعمالها وأكثر من ذلك معرفة حاجات هذه المحافظات من المشاريع التنموية والخدمية وتقسيمها بينها بالتساوي.الإنسان اليمني ماعرف مثل هذه الدلالات الغوغائية ولايمكن له أن يقرها اليوم أو أن يستسيغ سماعها أو قراءتها وأقرب دليل على ذلك أن الآباء الذين بدأوا حياتهم عمالاً أو تجاراً في مدينة عدن في زمن الاحتلال أو بعده لايرد على ألسنتهم عند تذكّرهم اليوم مايشير إلى ذكر الجنوب كأن يقولوا :«كنا في الجنوب..» بل لقد ألفوا على ترديد اسم المدينة أو المنطقة بدعم من الهاجس الوحدوي المستقر في النفوس. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنني على قراءتي المتواضعة في تاريخ اليمن الإسلامي لا أتذكر أنني قد وجدت أحداً من المؤرخين يتحدث عن جنوب أو شمال أو وضع كتاباً في تاريخ شمال اليمن أو جنوبه، فقد استمر يجري على ألسنتهم ذلك التقسيم الإداري الذي وُجد في عصر النبوّة أو قبله وهو تقسيم اليمن إلى مخاليف «الجند، صنعاء، حضرموت ، زبيد» أما أسماء كتبهم التي تؤرخ لدول مختلفة فهي مابين تسمية عامة موحدة مثل كتاب «بهجة الزمن في تاريخ اليمن» لابن عبدالمجيد أو كتاب« تحفة الزمن في تاريخ اليمن»للزبيدي أو كتاب «قرة العيون في أخبار اليمن الميمون» لابن الديبع وغير ذلك، ومابين تسمية بحسب المخاليف ومن ذلك: كتاب «تاريخ مدينة صنعاء» للرازي و«المفيد في أخبار صنعاءوزبيد» لعمارة اليمني و« بغية المستفيد في تاريخ صنعاءوزبيد» لابن الديبع وغير ذلك ..وليرجع إلى هذه الكتب من يشاء فهي منشورة وعامرة بها المكتبات.. و الخلاصة أن تكريس هذا التعبير في الإنشاء الصحفي سابقة ليس لها مايؤيدها سوى قاعدة «فرّق تسد» وأصحابها الذين جلبوا ذلك التعبير للإغارة على المفاهيم الوحدوية ونشر الاختيارات اللغوية التي تؤسس لعهد جديد من الطبقية والمذهبية والمناطقية تحت ذريعة الانتصار لمبدأ العدالة والمساواة في توزيع خيرات الوطن.. ونسي هؤلاء أن هموم اليمن واحدة ومايحصل من معاناة يعمّ أرجاء اليمن وتتداعى له سائر محافظاتها.. بل وتناسوا أيضاً أن وجود مثل تلك المصطلحات التجزيئية كان ولايزال مصيره المحتوم الإهمال والانتهاء.. إذن فجدير بالمثقفين - الآن وليس غداً - ولاسيما الكتاب منهم - التيقظ لمثل هذه النزعات والوقوف لها بخطاب إعلامي يمارس الحريات ولايمزق الوطن، فاللغة وعاء الفكر ومنها ينطلق النهوض الحضاري، وفساد المصطلح يستلزم فساد الجهود وإعاقة النهضة، وليعلم المثقفون أنه إذا استمرت بعض الصحف في انتهاج طريق الفساد المصطلحي بعد هدوء الفتن وشحب المحرضين لها واستمر المثقفون في الترديد مع الفيلسوف كانط «الخير ينتصر في العالم الآخر» فإن «الزّفة» ستنتهي وستمضي «الصنجاء» راقصة وحدها إلى حين يردعها رادع :«اهجعي أنتي والدربجة..قد كمّلوا الناس».