الحال الذي تبدو عليه مدننا صباح كل يوم رمضاني ليس كمثله شيء غير مدن الأشباح، فالسكون يرجع صدى حتى الإبرة الساقطة، ويقترب من الموت، فالإحساس بالحياة لا يكون إلا بالعمل ودبيب الناس. الصيام عبادة، لكن العمل عبادة أيضاً، ومن العلماء، من يدرجه تحت عنوان «الجهاد» غير أن استغراقنا في السكون حتى قبيل أذان الظهر بقليل لا يوحي ان كثيراً منا قد استوقفه ذلك المشهد الرائع الذي انحنى فيه نبي الأمة «صلى الله عليه وسلم» لأحد المزارعين الكادحين ليمسك بكفه المتشققة ويقبلها ثلاثاً، وفي كل مرة يقول «هذه يد يحبها الله ورسوله». لقد كان ذلك المشهد هو الدرس الأول الذي علمه الحبيب المصطفى للمهاجرين معه قبل ان يعلمهم الكثير من أصول العبادات، لأنه كان يريد ان يجعلهم يتملكون ذاتهم أولاً، ويعزون كرامتهم بكسب لقمة العيش من عرق جباههم، فليس هناك ما يذل المرء اكثر من العوز لقوت يومه.. ومن هنا وجب شكر النعمة «لئن شكرتم لأزيدنكم» ! في حياتنا العصرية لم تتبدل القيم بتبدل صفة أو مكان أو طريقة العمل ليتصور أحدنا أن يده لم تعد تحظى بنفس كرامة يد ذلك المزارع لأنه يعمل أمام جهاز كمبيوتر، ويستحيل ان تتشقق كفه بل إن هذا الوضع الجديد يفرض عليه مزيداً من الشكر لله، لأنه ألهمه المعرفة، وحرره من وسائل الحياة البدائية المضنية التي كابد مشاقها أجداده الأولون. إن شكر النعمة قد يكون لفظياً، إلا أنه أيضاً قد يأتي بمستوى الأمانة والإخلاص اللذين يؤدي بهما الموظف عمله، وبحجم الخدمات التي يقدمها للمستفيدين من عمله، وبالتزامه بساعات الدوام، وإلا فما جدوى الشكر باللسان إن قابله تقصير في الواجب، وتسيب، وانعدام نزاهة وأمانة !! لكن من الظواهر الشائعة في رمضان تأخر كثير من الموظفين عن وظائفهم، والتكاسل في أداء المسئوليات ومقابلة المراجع بضيق خلق، وسلوك انفعالي، والتسرب من الدوام، واتخاذ الصلاة ذريعة للتغيب خارج المكتب لفترة طويلة، وهي كلها ممارسات تفسد فضل الصوم، وتذهب بالأجر المبتغى من تحمل الجوع والظمأ وحرمان النفس من شهواتها الشرعية. للأسف بعض الموظفين لا يحسبون الأمور بدقة، فيستهينون بالزمن، ويهونون مسألة تأجيل أحد المراجعين ليوم أو يومين، أو تأخيره ساعة أو ساعتين.. فهم يتجاهلون أنه صائم مثلهم، ومتحمل للمشاق، أو أنه ربما قادم من منطقة نائية، أو محافظة أخرى وحينئذ قد يترتب عن التأجيل أو التأخير ضرر مادي جراء اضطراره للمبيت بفندق وتكبد نفقات غير مبررة.. وأحياناً يكون من المعسرين، وبالتالي هناك آثام مترتبة عن التقصير المتعمد، مثلما هناك أجر وثواب لمن سهل أمور الناس، وخفف مشاقهم. ومن جهة أخرى فإن الأجر «المرتب» الذي يتقاضاه الموظف مدفوع من قبل الدولة لقاء خدمات وأعمال وساعات دوام محددة، وبذلك يصبح التسرب عن الدوام والتأخر بمثابة خيانة للأمانة، لأنه سيتقاضى أموالاً «مرتباً» دون أن يفي بماهو مطلوب منه.. فكيف للمرء يرتضي ان يطعم أبناءه من مال ملوث !؟ وما جدوى صيامه إن إلحق ضرراً بغيره !! فالصيام لا يعني الكسل، والنوم، وضيق الأخلاق، ثم وجبة فاخرة وقت الإفطار، فهناك التزامات دينية، وعمل مطلوب من الإنسان، وبغير العمل لا أجر لأحد على جوع وظمأ فقط !!