ترتقي إنسانية الإنسان عبر منظومة من القيم النبيلة يلتزم بها فتسمو الروح وتصفو النفس وتقوده إلى مواقع الخير والنقاء وتنشر السعادة والسلام ليصنع الحياة بوحي من تلك القيم الإنسانية ومع غيابها -القيم الإنسانية - لا يصبح هذا الكائن إنساناً بل يقترب إلى درجة الشيطانية والبهيمية . كذلك تبدو جليّة إنسانية الإنسان إذا تحرك قلبه ليعيش مأساة الآخرين ومدى إحساسه بالأسى إذا لحق بهم أي ضرر أو أذى ، وتتضح أكثر في حالة الشعور بالحزن والألم على فراق عزيز أو وقوع إنسان ما في مأزق ومشاركة الجميع أحزانهم وهمومهم ، تلك دلالات إنسانية الإنسان إذا تحلى بها وعرف ماله وما عليه واستثمر الخير وكبت وقمع الشر داخله عاش الحياة باتزان وانضباط ومنح لنفسه هدفاً أو فكرة لتبدو حياته عميقة ممتدة حتى بعد مفارقته وجه الأرض ، أما إذا تجرد منها أصبحت كالثوب الواسع لا تليق به ويتحول فاقدها إلى كائن عديم الإحساس بالآخرين ويفقد المجتمع تعاونه في سبيل الوطنية والإنسانية ويموت إحساسه بقيمته كإنسان ويستوطن الشر فيه فتهون نفسه وأنفس الآخرين ويسعى إلى إفساد الأرض . على وجه التأكيد الإنسان ليس خيِراً أو شريراً بطبعه ولكن التلقين والتعبئة الخاطئة هي التي تصنع الاختلال النفسي وتؤدي في نهاية المطاف إلى ظهور أفراد غير أسوياء تؤهلهم ليمارسوا مهنة إزهاق أرواح الآخرين باحتراف وأعصاب باردة ، لعل يغيب عن أذهانهم أن القتل وسفك الدماء لا يرتبط بتعاليم دينية بقدر ما يوفر الدين غطاء يستر النوايا الإجرامية للبعض وانعدام إنسانيتهم وكراهيتهم للحياة ، حتى باتت مصائر الناس وضمان بقائهم على قيد الحياة مرهونة بعدد من أصحاب العمائم وما يتفوهون به جهاراً من إهدار الأنفس وسفك الدماء بحجة تمثيلهم للدين ويتناسون ما أمر الله عباده أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن الكلمات أجملها عند حديث بعضهم البعض حتى تشيع الألفة والمودة وتندفع أسباب الكراهية والعداوة ، وتطلق تلك الفئة على نفسها لقب المجاهدين يهتفون ب ( يحيا الموت ) ويجترون سلسلة من النصوص الدينية تدعي بها الوصاية ومعرفة الحق دون سواها وصحة موقفها ومفهومها ، وتشيع لغة الحقد والقتل وتنمي نزعة الشر والكراهية وتنكص أمر الله ، والعجيب أننا لم نسمع عن هؤلاء الانتحاريين في العصور الأولى للإسلام ؟!. إن العمل الإرهابي المروع وتفجير السفارة الأمريكية واستهداف إيقاع أكبر عدد من الأبرياء من لا ذنب لهم غير أن بعضهم كان يؤدي واجبه والبعض الآخر حظه التعيس جعله يتواجد في تلك اللحظة في موقع الحادث ذهبوا جميعهم ضحايا ثقافة الموت المبنية على مفاهيم الهدم والتدمير وتنفيذ الأعمال الإرهابية البربرية بمصطلحات دينية تضفي عليها صفة القداسة ، حتماً منفذو تلك البطولات الانتحارية هم فئة من الكائنات حاولت الهروب من فشلها وعجزها والخيبة بالحياة، بالطمع ،بأمر غائب، استسهلت لأجله قتل النفس في سبيل موت الآخرين مع وجود تبرير نفسي عادل وتفسير نبيل لتحسين الصورة وجعلها مثالية بعيدة عن تهمة الشر واقتراف جرم وقتل أبرياء وإلصاق محسن جمالي في صورة الشهيد البطل والطمع في دخول الجنة ، بينما الغاية الحقيقية ليست الجنة بل الموت بحد ذاته نتيجة كراهيتهم للحياة فلا يتآلفون مع كل ما يبعث على حب الحياة والبقاء فيها ويميلون إلى كل ما هو قبيح ويعادون كل شيء جميل . إن ثقافة التطرف وصناعة الموت ومعاداة الحياة والإنسانية لن تنتهي إلا بإيجاد بديل ثقافي مغاير يغرس مبادئ الإنسانية من خير وألفة وتسامح وقبول بالآخر .