كانت تجلس منزوية في ركن قصي من رصيف يعبر فيه المشاة مسرعين عجلين، أو متسكعين خاملين وكانت تتطلع باهتمام وقلق إلى عيون المارة, تختار منهم من يليق أن تؤمي إليه بحزمة من تلك الحزم الصغيرة التي تحوي عشب الريحان وتشكيلة من الورود. كأنها تتوسل أن تجد من يشتري منها «الشُّقُر» مقابل عشرين ريالاً فقط للحزمة الواحدة.. كانت ساعة تنجح وساعة تخيب أن تجد من يلتفت إليها أو يمنحها أي قدر من الاهتمام.. فقد كان عودها نحيلاً كأنه اشتق من اسمها «خيزران» .. فهي ضئيلة الجسم،شاحبة الوجه،دقيقة الأنف،وجنتاها غائرتان فوق صفحة وجه رقيق،بينما كانت مَسْحة الحزن طاغية على ملامحها،فهي أقرب للتجهم منها للبشاشة.. قد جمع الله كل ماكان من جمال الطفولة وبراءتها ليضعه في عينيها الواسعتين، كنت أجلس قريباً منها أمام أحد المحال التجارية.. لفت انتباهي شدة امتعاضها وخيبة أملها وحزنها العميق،كلما وجدت من تتوسم فيهم الخير ليشتروا مشاقرها،يعرضون عنها أو ينهرونها،بل رأيت أحدهم يخبط يدها الممدودة بحزمة الشقر فتطير من يدها،فلا تملك إلا أن تهرع لالتقاطها صابرة،مستسلمة.. علمت أن اسمها خيزران سألتها: كم عمرك يا ابنتي؟ قالت: ما دراني!!.. طيب يا خيزران خُذي هذه المائة.. فالتقطتها من يدي على عجل،كأنها كانت تخشى أن أغير رأيي،وبالسرعة نفسها مدت يدها بخمس حزم من الشُّقُر فتباطأتُ في استلام الحزم.. فرأيتها كأنها تريد أن تبكي وهي تتوسل أن أخذ منها بضاعتها،قلت لها: خذي المائة ريال واحتفظي بالشقر لك.. انتفضت مذعورة وهي تردد بأسى وبنبرة حزينة:لا .. لا ..لا.. خذ الشُّقُر وإلا خذ فلوسك،فلم يكن بدٌّ من إنقاذ الموقف،فأخذت منها الشُّقُر،فعاد إليها هدوؤها وسكينتها.. تعلمت من خيزران عدة أمور أهمها أن الأرض أو«الدنيا» كما يقولون مازالت بخير رغم الفقر وضنك المعيشة،وأن الفقر والبؤس ومانعانيه من شدة،لم يستطع كل ذلك أن يجعل خيزران وأمثالها تتجاهل قيماً أصيلة مَغْروُسة في أعماق ضمير الأمة ووجدانها مثل التمسك بعزة النفس والتجلد أو الصبر على مشقة الحياة وأنه ليس من السهل أن ينهار البناء كله أمام قسوة الحياة وشدتها.. علمت من خيزران أنها تأتي من بلاد بعيدة من قرية «جبل ربي»!! تأتي مع أمها كل أسبوع.. وقد رأيت أمها تجلس ليس بعيداً عن ابنتها،فلم تكن أمها سوى تلك المرأة بائعة البيض «البلدي».. علمت من خيزران أنها لاتعرف القراءة ولا الكتابة،رغم كونها لم تعد صغيرة السن فعمرها قد جاوز الثاني عشر أو الثالث عشر ربيعاً،لكنها من شدة ماتعاني من سوء التغذية وفقر الدم ينتظرها مايقرب من عشر سنوات لكي تبلغ سن الحلم أو البلوغ. وجدت خيزران لاتعلم شيئاً عن أمور الصلاة أو قراءة القرآن وكذلك بقية إخوانها الذكور وأخواتها .. صرت زبوناً دائماً لخيزران أدفع لها مائة ريال مقابل خمسة مشاقر كل أسبوع وتمنيت في نفسي لو أن الناس يتحولون عن المتسولين فلا يشجعونهم على التسول ويتركز اهتمام الناس على أمثال هؤلاء المكافحين من أجل لقمة العيش. أخبرتها أنني سأمنحها جائزة كبيرة،لو عادت الأسبوع القادم وقد حفظت سورة الفاتحة وتعلمت كيف تصلى وعندما جاءت في الميعاد نفسه وجدتها قد حفظت سورة الفاتحة وسألتها عن الصلاة فقالت أربع في الصباح وأربع في الظهر وأربع في المغرب «فضحكت» وأنا أقول لها.. خليهم ثلاث فقط ياخيزران.. خذي هذه الجائزة «مائتي ريال» بحالها.. فتهلل وجهها فرحاً وكأنها لاتصدق أن تحصل على جائزة مقدارها «مائتا ريال» سألتها كيف حفظت سورة الفاتحة وكيف تعلمت الصلاة؟ قالت:كنت أذهب إلى خالتي وهي تعلمني.. وأين تسكن خالتك؟تسكن في قرية بعيدة مسافة ساعة مشي وساعة رجعة.. طيب ياخيزران:تقدري تحفظي قل هو الله أحد والسورتين قبلها وسوف أعطيك الجائزة نفسها.. فكادت تطير من الفرح ونفذت ما اتفقنا عليه. حكيت هذه القصة لمجموعة من الشباب الذين ألتقيهم وبعض الفتيات من الأقارب الكثير منهم يحفظون القرآن ويحملون مؤهلات متباينة من الثانوية العامة حتى درجة البكالوريوس.. وجدت حماساً منقطع النظير برغبتهم في المشاركة والانتقال للقرى النائية لتعليم الصبيان والفتيات القرآن الكريم وأمور الصلاة بشكل طوعي دون أي مقابل إذا وجدوا وسائل المواصلات توصلهم وتعود بهم وليس يهم عندهم أن يكون اللقاء تحت شجرة أو تحت صخرة أو تحت نخلة المهم اختيار موقع يكون على مسافة مناسبة من عدة قرى. تذكرت أننا في الرعاية الصحية الأولية كنا نجهز فرقاً من الأطباء والممرضات والقابلات والعلاجات واللقاح لتوصيل الخدمات الطبية والصحية للمناطق النائية فهل يستحيل علينا اليوم أن نجهز فرقاً مماثلة من أبنائنا المتطوعين والمتطوعات لخدمة دينهم وعقيدتهم ووطنهم وإنسانيتهم..؟ليس ذلك مستحيلاً هذه دعوة للإعلاميين وأصحاب الفكر وللمؤسسات الحكومية ذات العلاقة وكلها ذات علاقة بالموضوع ذاته وهي أيضاً دعوة لأهل الخير والقطاع الخاص للمشاركة في إنجاح هذا العمل الكبير.. أم أننا ننتظر منظمات أجنبية لترشدنا وتوجهنا؟ أنتم تعلمون أن المنظمات الأجنبية لايهمها القرآن ولاتهمها الصلاة. بقي سؤال هام جداً:هل نجد من بين الإخوة من أهل الخير من يستطيع توفير وسائل مواصلات للمناطق النائية،سوف نحتاج سيارتين،واحدة من أجل تعليم الصبيان وأخرى للفتيات؟؟؟