هل زار أحدكم أو اطلع على تجربة يمكن القول: إنها حفرٌ في صمت الحجر وسكونه، ونبش في ذاكرة الزمن. وحفظ من اندثار أو طمس لأجزاء وأوصال من الهوية الثقافية اليمنية؟!. إنها لنفر من النساء حين أدرك عدد محدود الأصابع منهن ليجمعن ويرمّمن ويحفظن وليقضين وقتاً من حياتهن اللائي كان بالإمكان أن يقضينه قراءة في أحسن الأحوال وفرجة وتجاذب أطراف الحديث مع الأخريات؛ ولكنهن آلين على أنفسهن مهمة ثقافية نبيلة.. هل تعرف ثقافتنا المعاصرة ومثقفونا ما يقمن به من حفاظ على الموروث الثقافي من الاندثار والنسيان، وربما أيضاً الانتحال؟!. وهؤلاء نساء يحفرن في صخر الموروث الحضاري الثقافي اليمني، واتخذن أشكالاً مختلفة من الحفظ والتوثيق والبحث يعاضد الجهد الحكومي. كلهن يحملن موروث اليمن تاجاً وعلماً على رؤوسهن حفاظاً وتنظيماً وتوثيقاً ليسلمنه للأجيال، ومن هؤلاء: نجلاء شمسان: شخصية نسائية عدنية؛ تتسم بالجرأة والصراحة وخبرة الحياة.. آلت على نفسها إلا أن تجمع موروثاً من الملابس والأدوات المنزلية والحياتية المختلفة، هذا شيء يسلّمه شخص لها وذاك تشتريه وذاك تفاوض عليه، إنه مشروع بعثة بحث وتنقيب آثارية لا تقل عن البعثات الأوروبية؛ ولكنها شخص بشكل بعثة تطوعية؛ وهي الممثلة والتربوية والوطنية والسياسية. أروى عبده عثمان: شخصية نسائية تعزيّة تشبعت كثيراً بالموروث الثقافي المادي والشفوي، وحكت بكتاباتها النثرية كثيراً؛ ولكنها أيضاً أضافته إلى عملية تجميع رائد، تقتات من مالها الخاص المتواضع لتعيّش ذلك الموروث المجمع في ترتيب وتنسيق. وعندما تدخل البيت الكائن في قلب مدينة صنعاء تشعر كأنك في عقود الزمن المعاصرة والماضية.. لذا حرصت أروى على أن تؤسس بيت الموروث الشعبي، وكما قالت في مقدمة الفعالية التي نظمتها في يوليو 8002م «الأنوثة المنتهكة في التراث الشعبي المشاقر»: «حتى لا نتحول إلى دودحيات أخريات».. شعرت أن أروى ابنة سوق الصميل في تعز قدر ما تألمت لانحسار المشاقر قدر ما تبتعد بمقتنيات بيت الموروث الشعبي - ليس من الحسد كما تداولنا على ذلك - بل من الطمع الذي يقود البعض إلى طمس الثقافة؛ ولكن من غير الممكن ذلك. أمة الرزاق جحاف: شخصية نسائية صنعانية مثقفة؛ بقدر اهتمامها بالأزياء القديمة وبقدر ما تتمتع به من حس بحثي ثقافي قادها إلى شراكة أوروبية مع رفيقة أوروبية للبحث عن أصل أحد غرز الخياطة في زي يمني تهامي تفاصيل دقيقة لتثبت لنا كيف تتواجد هذه الغرزة في زي يمني وزي إيطالي لتصلا إلى أن حركة التجارة الساحلية من اليمن إلى سواحل إيطاليا هي التي حققت انتقال هذه المهارة.. أمة الرزاق رحّالة يمنية تحب وتبحث في ثنايا الثياب اليمنية وحُلّيها. أمل الشيبة: شخصية نسائية صنعانية مثقفة هادئة ذكية وصبورة ذات خبرة تاريخية نادرة؛ تلقت خبرات عديدة، أسست دعائم حفظ التراث النسائي في خياطة وتطريز الزي والاحتياجات المنزلية الصنعانية التي تعتمد الأشغال اليدوية؛ كان لها الفضل في إقامة مركز لحفظ هذا الموروث مع عدد من زميلاتها بدعم من الهيئة العامة للحفاظ على المدن القديمة، خرّج هذا المركز مئات الحرفيات في التطريز وأشغال الإبرة، حيث تقضي الواحدة شهراً لتنتج قطعة مطرزة بالخيوط الفضية أو الذهبية، إنه عمل لم تدخله التكنولوجيا لتفسده، واليوم هي تدرب وتوسّع من دائرة حفظ الموروث الثقافي عبر مؤسستها الثقافية وهي تواجه عنفاً وظيفياً، لعل هناك نماذج لتلك الاستحقاقات الثقافية التي يقدمها نفر من مثقفينا؛ وبالذات مثقفاتنا اللائي استشعرن وطنية وحضوراً ريادياً.. ولكن المنظور الحالي قد لا تحضرني الذاكرة والمعلومة عن أخريات ولكنهن يحفرن بصمت ومعاناة وريادية، قلما نفكر في تنفيذه لضخامة مثل هذا العمل وما يكتنف هذا العمل الطوعي من مغامرة وكلفة بدءاً بتجميع المادة وتصنيفها وتوثيقها وصولاً إلى عرضها الموسمي والدائم وما يتطلب من مبالغ للإيجار والنقل وخلافه. إنهن مجاهدات في ساحة الموروث الثقافي حتى لا يضيع موروثنا في ظل ثقافة العولمة وحتى لا يغيب ويطمس. لهن التحية والتقدير، وليمدّ الله بعملهن المبدع وبأعمارهن وعطاءاتهن ليكثر منهن أمينات على الثقافة. وأستعير مقطعاً من أغنية "حارس البن في وادي سبأ غير غافل يحسبوه الأعادي قاصر السن جاهل أينهم من ذكاه أين. إنهن حارسات البن اليماني وحارسات ثقافتنا وموروثنا الثقافي الغزير.