الثقافة العربية ثنائية سواء من منظور تاريخي أو من منظور تبلور لاحقاً عطفاً على الإسلام وتعليمه الواسع، فمن الناحية التاريخية جاءت لغة العرب وثقافتهم البيانية من أصلها الأول الجاهلي السابق على ظهور الإسلام، وكان هذا الأصل مُفارقاً للإسلام من الناحيتين الوجودية والماورائية، فقد كان العربي الجاهلي كائناً «أبيقورياً» بالمعنى الفلسفي، يعيش اللحظة ويتداعى معها .. متمرداً ولكن كان أيضاً «رواقياً» ناظراً للغيب نظرة قائم بأمر الغيب من خلال أصنام يصنعها وأوثان يتعبّد بها ويتقرّب بها إلى الله زُلفى، ثم يتخلّص منها إن شاء، وكان الجاهلي يقرن النبل بالفروسية، والموت بالشجاعة لا التنافي في العدم، ولهذا يمدح خصمه العنيد ويقول عنه: حاسيته الموت حتى استفّ آخره فما استكان لما لاقى ولا جزعا ويرى أن الضعف مثلبة وأن القوة معيار الحق ويقول: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكانت الصفة الوجودية المُتفلّتة من عقال التكاليف والضوابط قيمة عليا في صناعة الشعر والتقلّب في جمرات الحرية والمتع الجسدية الصافية مما يمكن استقراء أبعاده في منظومة الشعر العربي الجاهلي، لكن هذه الحالة لم تكن وحيدة ذاتها وإن سادت، فقد عرف العرب الديانات السماوية «اليهودية والنصرانية» وكان منهم أحناف ومُتحنّفون، وكانت لديهم صلة راكزة بالديانات الإبراهيمية والموسوية والعيسوية. غير أن هؤلاء كانوا استثناءً في القاعدة العامة لثقافة الفروسية والنزعة الدهرية، ولهذا نعتبر هذا المنحى وجهاً من وجهي العملة العربية الثقافية التاريخية. أما الوجه الآخر فقد جاء به الإسلام، وكان من الطبيعي أن يتصدّى عرب الجاهلية للوافد الجديد الذي سيقض مضجعهم ويخرجهم من دائرة «الحرية الوجودية» ، وأن تستمر المُغالبة التاريخية الحياتية التي أفضت إلى انتصار الإسلام وانتشاره أولاً في جزيرة العرب ثم في مختلف أرجاء المعمورة. ثنائية الجاهلية والإسلام اقترنت بثقافة العرب إلى يومنا هذا، وفي كل مراحل التطور التاريخي المُظفّر للإسلام كانت العصبية الجاهلية تطل برأسها وتخرج من تضاعيف المسحة الدينية التطهرية كما لو أنها ترفض الاستسلام، وهذا ما كان، فالعصبية التي تحدث عنها «ابن خلدون» في تاريخه مازالت حاضرة بسخاء دونها ما نراه في غير مكان وشاهد من عوالم العرب القبائلية والطائفية.