اجتمع جحا يوماً بشخص لم تسبق معرفته فأخذ يحادثه جحا على نحو حميم وكأنهما صديقان منذ أمد بعيد، ولما همّ الرجل بالانصراف سأله جحا: عفواً يا سيدي إنني لم أعرف حضرتك فمن أنت؟ فتعجب الرجل وقال: وكيف حدثتني بدون كلفة طول هذه الفترة وكأن بيننا معرفة سابقة؟ قال جحا: اعذرني فقد رأيت عمامتك مثل عمامتي وقفطانك مثل قفطاني فخيلّ لي أنك أنا؟! هذه النكتة تقرب إلينا مصطلح أسلمة العلوم فنظن أن أسلمة العلم يعني العلم. وفي الحقيقة فليس أكثر سلباً للعقل من الشعارات، ولا أضر على العلم من معالجته بأدوات السحر، ولا أسوأ من توظيف الدين للأيديولوجيا، ولا حماقة أكبر من التورط بفكرة الإعجاز العلمي. ولم يكن القرآن يوماً كتاب فيزياء بل منبر هداية. ولم تذكر السنن في القرآن ويقصد بها المعادلات الكيميائية بل السنن النفسية الاجتماعية. وفكرة أسلمة العلوم مثل اختصار كل الألوان إلى اللون الرمادي وانكماش الأبعاد إلى نقطة رياضية. وهو يناقض روح القرآن وتركيب الكون وجدل العقل.. ومجال الدين غير مجال العلم وإن كان بينهما تقاطع، ولكن تقاطع خطين مستقيمين في نقطة لا يعني أنهما واحد. وبقدر ما يقدم الدين إجابات نهائية ومحددة على قضايا غير محدودة ولا نهائية. بقدر ما تفتح الفلسفة على كل سؤال بمزيد من الأسئلة. وليس هناك أشد إزعاجاً وقلقاً من ركوب سفينة الفلسفة كما يقول (نيتشه) فمن أراد أن يرتاح فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواري الحقيقة فليسأل؟ وإدعاء (أسلمة) العلوم يمكن أن تقابل ب (تهويد) أو (نصرنة) و(بوذذة) العلوم.. وهو إدعاء لم يدعُ له أتباع بقية الديانات لحسن الحظ. ويبدو أن هذا الاتجاه له أرضية (نفسية) من الهزيمة العلمية الساحقة التي ينوء تحت ثقلها العالم الإسلامي، فهو يستورد المعرفة مع السيارات والأفكار مع مساحيق التجميل. وأما الأحزاب والبرلمانات والديموقراطية فتخرج في نسخ مزيفة تماماً. مثل بناء البيوت على يد مهندس عربي وشركة فرنسية. ففي الأول تتحول البيوت في الصيف إلى جهنم تتلظى لا تسكنها العقارب والأفاعي. وفي الشتاء إلى بيوت من الإسكيمو يهرب منها الدب القطبي والفقمة. وفي كندا يعيش الناس في درجة حرارة أربعين تحت الصفر فلا يشعرون بالبرد الذي يعضّ مفاصل العربان في شتاء الشرق الدافيء. ولو بقينا نبني بيوتنا بالطين كما فعل أجدادنا من قبل لكان أقوم للصحة وأوفر في النفقة وأبعد عن استيراد المكيفات. ولكن سر الحداثة ما زال في يد ملك الجن الأزرق فنحن ندفع ثمن التقليد مالاً يهدر وعرقاً يتصبب. ونحن في تعبير (أسلمة) العلوم ننزع إلى خلع (الأيديولوجيا) على الوجود. وكلمة (الأسلمة) في النهاية خدّاعة ولا تزيد عن خيالاتنا. وفكرة (النسخ الإسلامية) يجب أن تكون نصب أعيننا فهناك إسلام بن لادن وبيجوفيتش البوسني وشحرور الشامي. وهو طيف يصل إلى حواف التناقض والتضارب والفوضى. وهذا المصطلح (أسلمة العلوم) لم يعتمده علماؤنا قديماً لسبب وجيه هو أن الكون كله أسلم لله. وكل كشف لحقيقة علمية هو قراءة مختلفة لآية غير قرآنية. وهناك من حاول توظيف القرآن لصالح الأيديولوجيا فزعم أن سرعة الضوء موجودة في القرآن, ولكن اللافت للنظر أن هذه الحقيقة لم يكتشفها كل علماء العالم الإسلامي بمن فيهم دعاة الإعجاز العلمي وهم يقرأون القرآن منذ ألف سنة، ومن وصل إلى تحديد سرعة الضوء لم يرجع إلى آية واحدة في النصوص المقدسة (الكتاب التدويني) بل قرأ الآية في كتاب الكون الأصلي (التكويني) . إن (أسلمة العلوم) و(الإعجاز العلمي) في القرآن كلها محاولات طفولية لإضفاء عظمة على مسلمين لم يبقوا عظاما بل تحولوا إلى عظام. ويحاول أطباء الصحوة الإسلامية معالجة قصر القامة بلبس بدلة طويلة. وصف لجحا يوماً امرأة ذات عيون تسحر الألباب فطار قلبه ووقع في غرامها ولم يصبر حتى تزوج بها فاكتشف أنها حولاء. وفي يوم العرس قدم لها طبقاً من قشطة وعسل فقالت على استحياء: لماذا أحضرت طبقين؟. وفي الليلة التالية أطرقت بخجل وقالت: يا جحا لم تخبرني عن الزائر الشيخ بجانبك؟ قال جحا: إما أن يكون الصحن اثنين فهو علامة كرم ولكن وجود شيخين بجانب امرأة واحدة خطير ولا علاج له إلا الطلاق. ونحن في أسلمة العلوم نتأمل العالم بعين حولاء فنتخيل العلم بدون وجود علم.