وصف ابن أبي أصيبعة (شهاب الدين السهروردي) بأنه (أوحد في العلوم الحكمية بارعاً في الأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة) ولكن خصومه شنعوا عليه ورموه بالتفلسف والإلحاد، فكان لهم ما أرادوا فقتل سنة 587 ه عن 36 عاماً وأخذ لقب (الشاب المقتول) في التاريخ. وأنهى الإمام ابن تيمية أيامه الأخيرة في سجن القلعة في دمشق وهو يكتب بالفحم على الجدران مثل المجانين بعد أن حُرم من القلم والقرطاس. مغزى هذه القصص التي ترتجف منها المفاصل أن المجتمع لا يتقدم إلا بالفكر على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وأن الجديد يُعارض دوماً، وأن النافع يثبت، وأن التاريخ تقدمي. وفي الإنجيل لن تخرج النبتة إلا بعد دفن البذرة في الأرض وكذلك موت المفكرين العظام.. وقراءة التاريخ مفيدة لمعرفة منحى حركته.. وما وقع في القرن العشرين حافل بالتناقضات وما سوف يحصل في الألفية الحالية أشد وأعظم؛ ففي القرن العشرين وقعت عشرة مفارقات عجيبة من ( بزوغ دعوة اللاعنف في قرن دشنت فيه حروب عالمية) كما في حركة (OTPOR) الصربية و(KMARA) الجيورجية و(PORA)الأوكرانية، و(وفرة الغذاء مع تكاثر السكان)و(ولادة السلام من رحم آلة الحرب)و(معرفة الكود الوراثي للانسان وازدياد الجهل بالانسان )و(اختراق تابو الجنس للارتداد عنه)و(الغوص الى الحافات الحدية للعالمين السفلي والعلوي لمواجهة اللانهاية)و(نظرية الانفجار العظيم وتشكل عالم المجرات من نقطة رياضية متفردة)و(تطور مباحث الأعصاب المادية لاكتشاف حقيقة الروح)و(دخول مباحث الفيزياء النووية باليقين للخروج بالارتياب)و(دخول الكوسمولوجيا بالالحاد للخروج بالايمان) . وهذا التطور يعود إلى ربيع عام 1945 بعد أن سقطت النازية، وانتهت الحرب في الساحة الأوربية، وكان بحث الحلفاء المحموم يدور حول غنائم من الحرب مختلفة: أدمغة العلماء ؟! كان من غنائم الحرب الرأس الفيزيائي الأول (اوتو هان) الذي انشطرت على طاولته المتواضعة الذرة لأول مرة منذ أن تحدث عنها (ديموقريطس) اليوناني، وأسس علماء المسلمين فلسفة كاملة حولها، عن منظومة الجزء الذي لايتجزأ. وكان الفيزيائي ( فيرنر هايزنبرغ ) الذي طوَّر نظرية الارتياب أو ( اللايقين UNCERTAINITY PRINCIPLE ) في ميكانيكا الكم ، يهز رأسه متألما، من أخبار هيروشيما؛ فلولا التطويرات الأولى لمفاهيم الفيزياء الذرية، ما تمكن (روبرت اوبنهايمر) في قاعدة الأبحاث النووية في (لوس آلاموس)، من تفجير أول قنبلة ( بلوتونيوم ) صباح 16 يوليو 1945م . كانت المفاجأة من جهنم (هيروشيما) مضاعفة للعلماء والعسكريين معاً، فمن نار مشعلها ولد السلام العالمي على غير موعد. ويروي لنا العلم هذا التناقض المحير دوماً، على صورة قانون دوري يتكرر، أن كل تطوير لسلاح عسكري، يتحول في النهاية لخدمة الإنسانية والسلام العالمي. كان الانترنيت، ونظام الدفاع الكوني (SDI) والقنبلة النووية، ثلاثة أنظمة لخدمة آلة العنف العسكري. والذي حصل أن الأنظمة الثلاثة صبت في خدمة الإنسانية، تؤكد أن الزبد يذهب جفاءً، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال. الانترنيت أصبح أوقيانوس من المعلومات، يغرق العالم في ثقافة كونية، يولد فيها إنسان عالمي الثقافة، يتنافس مع الآخرين بالفكر وليس القوة. لقد تحول رصيد (فكر القوة) الى (قوة الفكرة) فهل يعقل هذه الحقيقة رجل رشيد؟ أما نظام الصواريخ الكوني وأقمار التجسس، فملآ سطوح المنازل بالدشوش، تقلب وجهها في السماء، تفتح أفواهها بلا شبع، تلتقط خبر الملأ العلوي، بلمح البصر أو هو أقرب، وينتهي عهد الكذب السياسي، ويثبت العلم نفسه كمحطم رائع للجغرافيا. من حريق هيروشيما ولد السلام العالمي، في صدمة صاعقة غير متوقعة للسياسيين، الذين لا يرون في العادة أبعد من أرنبة أنوفهم. وتبدأ رحلة تفكيك الرؤوس النووية. هذه الأفكار حول الانسان الجديد، والسلام العالمي، تشبه ظاهرة السوبرنوفا لسياسي العالم العربي، فكما تأخر وصول ضوء الانفجار النجمي مليون سنة الى الأرض، فقد نبقى ألف سنة أخرى على باب العلم دون أن ندخله، لأننا لا نملك المفتاح وكلمة السر. مشكلة العالم العربي اليوم أنه يغرق في طوفان الحداثة ، بدون سفينة نوح، ومازال يعيش مرحلة سيوف المماليك، ومصادرة الحياة الراشدية، وتأميم العقل، وإلغاء الفن، بعد إقفال باب الاجتهاد، في الوقت الذي تدفق فيه الصليبيون الفقراء إلى العالم الجديد، فملكوا أربع قارات، وكل البحار، والثروة، والنفوذ العالمي، مدججين بإدارة عالمية، ومراكز البحث العلمي، ومصارف المال، بدو ن إقطاع وكنيسة وطاغية. أما العقل العربي اليوم فهو يمشي منكوساً على رأسه، بدون أن يحس بالدوار، لم يتكيف بعد مع العالم الجديد، لأنه لا يعرفه، فهو لم يشترك في صناعته منذ خمسة قرون، فيما يشبه قصص السندباد مع ملك الجان. رسالة العلم والسلم (2-2)