ورب صحيح مات من غير علّةٍ ورب سقيم عاش حيناً من الدهر هكذا قال الشاعر عن القدر وهكذا كان إيمانه بقدرة الخالق الذي بإمكانه أن يطيل ويمد بعمر الإنسان إلى أمدٍ طويل وهو على سرير المرض وربما ليس له من ميزة الحياة سوى نبض الأوردة فقط بينما حالته الكاملة عبارة عن موت سريري وهكذا حاله منذ عشرات السنين.. بينما نجد أن من كان بيننا قبل دقائق معدودات صاحب القامة العالية والجسم الكبير الضخم والقوة الشديدة قد باغته القدر وأخذه الموت من بيننا خلال ثوانٍ معدودة وهذه قدرة إلاهية لا مفر منها وليس فينا من أحد من يستطيع الاعتراض على رب العزة. وإذا عرّجنا للجانب الآخر الذي هو أساس موضوعنا والقريب من تشابه النقيض بما وضعناه آنفاً في بداية هذه السطور وما سوف ندخل عليه لاحقاً.. إلا أن النقيض بالسطور التالية قد تتدخل فيها إرادة ونية وطموح الإنسان الذي يبقى هو في هذا الموضوع من يمثل النقيض.. ومن هو هذا الإنسان؟ إنه المعاق وبالتحديد المعاق بصرياً الذي ربما يراه الغالبية أنه الأشد إعاقة من بين المعاقين الآخرين سمعياً وذهنياً وحركياً.. كونه لا يرى شيئاً من الكون ولم يشاهد حياته الدنيوية قط سوى من أحاسيسه وتلمسه لكل ماهو حوله من خلال حدسه وذكائه الفطري أو من جانب آخر وهي قوة الإرادة. إذاً ماهي الحكاية؟؟؟ نعم لقد تابعت كما تابع الكثير من المشاهدين لقناة اليمن وبالتحديد برنامج منتدى الشباب الذي كرس جهده الكامل لحلقة كاملة خصصه لمعالجة مشاكل الشباب المعاقين بصرياً حيث نزل إلى الجامعة التي يدرسون بها ودخل إلى المعامل التي فيها أجهزة التعليم والدراسة الجامعية الخاصة بالمعاقين وأخذ أرائهم المختلفة ومن الجنسين ومن ثم كان للبرنامج استضافة لمجموعة من مسئولي المعاهد أو الجامعة الخاصة بالمعاقين ومعهم أيضاً مجموعة من الشباب المعاقين ومن الجنسين.. وبالإضافة لمجموعة من الشباب غير المعاقين وهم من أتوا لغرض المناقشة والمداخلة لذلك الموضوع الخاص بقضية شريحة المعاقين أو من ذوي الاحتياجات الخاصة.. وللأمانة أقولها وبصراحة والكثير تابع وشاهد ذلك فعندما كان يتحدث الطالب المعاق بصرياً أو الطالبة المعاقة لم تجد على لسان أحدهم شيئاً قط من التعلثم بالكلام بل نجد أيضاً تفوقهم الكبير بالسرد وربط الكلام وعذوبة مخارج الكلمة واللغة وطريقة الإجابة عن أسئلة المذيع المحاور ومنهم من كان يتكلم لغرض تقديم مناشدة لرجال المال والأعمال ومن يستطيع مد يد العون لتلك الجمعية فكانت كلمته أشبه إلى حد قريب بمذيع مقتدر ينقل رسالة إنسانية صوتية عبر الأثير ومن وسط الحدث خاصة أنهم يمتلكون القدرة على اختيار المفردات اللغوية القوية والمؤثرة ومع خالص اعتذاري للشباب الأصحاء السليمين من الإعاقات الذين كانوا حاضري تلك المداخلات وحضروا لذلك الغرض لكنهم يفتقرون للكلمة الصحيحة والعبارة المركبة رغم أنهم لم يتحدثوا بما يريدون مباشرة أو تلقائياً ولكننا كنا شاهد أن الخمس أو العشر الكلمات التي يقولونها سبق لهم كتابتها في مذكراتهم وكان البعض منهم عندما يتحدث لم يرفع بصره قط عن الورقة التي أمامه والمكتوب بها الكلمات التي يقرأها مكسرة ويربط الاسم المذكر بالخبر المؤنث أو يقول مثلاً “الفتاة الذي تعتبر معاقة” رغم أن كلماته كما أوضحت قد كتبها ونقحها أكثر من مرة.. فهل نقول أن رب العزة سبحانه وتعالى هو من يعوّض مثل هؤلاء المعاقين بعد أن يأخذ عنهم نعمة البصر مثلاً ليعوضهم بقوة الذكاء الفطري والذاكرة القوية ويفتح لهم آفاق الفهم ويمدهم بقوة الحفظ لما يتعلمونه أو يسمعونه؟ خاصة أن معنى الحديث القدسي يقول:”لو ابتليت عبدي بفقد حبيبتيه يعني عينيه فصبر لم أجد له جزاءً دون الجنة” وهناك بعض العميان ممن نلاحظهم بالشوارع قد يأتي شخص ما ولأول مرة ليمسك بيد أحدهم ويرشده على الطريق ومن عادة المعاقين بصرياً عندما تساعده لقطع الشارع فيسألك عن اسمك ومن أين أنت؟ فتعرفه بذلك وإذا ما صادفته مرة أخرى ولو بعد فترة طويلة ومن خلال نبرة صوتك معه يقول لك مباشرة من “فلان؟” فتتعجب كيف لذاكرته أن تظل مختزلة فيها اسمك بين عشرات أو مئات الأسماء التي تتعامل مع ذلك الأعمى.. بينما نجد الكثير من الشباب الأصحاء الذين يمتلكون قوة الحواس الخمس التي تخدمهم دون تقصير.. فبرغم اكتمال خدمة الحواس لهذا الشاب مثلاً إلا أننا لا نستطيع أن نوصل البعض أو الكثير من الأصحاء إلى مستوى فهم وثقافة.. وذاكرة وذكاء.. الكثير من المعاقين بصرياً لهذا لم يكذب الشاعر الذي قال: يعايرني الأعداء والعيب فيهم وليس بعيب أن يقال ضرير إذا أكثر المرء المر والوفاء فأن عمى العينين ليس يضير لهذا نجد أن الكثير من المعاقين يكونون هم الأكثر عزيمة وإصرار للتغلب على إعاقتهم ويستطيعون أن يحققوا من النجاح مالم يستطيع الوصول إليه الإنسان السليم والمعافى وعندما نتابع حركة نشاطهم اليومي عندما يتجاوزون العثرات بطريقة سليمة وسلسة تجعلنا نقلب كفينا مستغربين على ما يقوم به هذا المعاق فنزداد إيماناً وثباتاً بالله الذي يعوض العبد أفضل مما أخذه منه بالإضافة إلى أن المولى سبحانه وتعالى يقوي فيه عزيمة الصبر على تحمل كل مشقة الإعاقة التي كتبها الله له وابتلاه فيها ليس كرهاً فيه أو عقاباً لأفعاله.. خاصة أن المعاق ربما يكون منذ طفولته أكثر الناس حباً وتقرباً لخالقه وأفضل من يؤدي حقوق مولاه.. إلا أن الخالق يضع في عبده المخلوق حبه الكريم عن طريق ما يراها العبد أنها مصيبة إلهية ويتمحصه في حياته اختباراً لصحوته الإيمانية وإذا ما فاز بها فإن الجائزة حينها تكون كبيرة وكبيرة جداً فهل هناك من جائزة أكبر من الجنة؟