مما لاشك فيه أن النوازع الروحية والدينية هي احد الدوافع التي تجعل الإنسان يبحث عن وسيلة للتعبير تعكس علاقته بالحياة والوجود ،وتبحث عن انضواء الأشياء ضمن أنساق تحدد لها شكل وجودها مثل : حالات التشابه وحالات التقابل وحالات التطابق وأول هذه الوسائل تلك الخامات البسيطة التي يحصل عليها في بيئته دون تكلف أو عناء ، ورغم بساطة تلك الخامات فإنه غالبا ما يحاول استنطاقها عبر الصنعة التي لا تخلو من مهارة ، قد لا يحققها الآخرون والتي لا تخلو من تقنية معينة بأبسط صورها . وهذه التلقائية من العمل تجعل من الأعمال الفطرية الفنية تقترن بالأعمال الفنية التي أنتجها الإنسان الأول في الحضارات القديمة . فإذا كانت الحكايات والأساطير والمعجزات والخرافات تشكل الأساس الفكري المتجذر في لا وعي الإنسان البدائي ، فإن فكرة الفن الفطري تقوم على نقل ذلك الوعي المتنامي في التراث الشعبي وفي البيئة المحلية أولا ، ومن ثم تأثير ذلك المحيط على علاقة الفنان الفطري بالحياة والوجود هكذا تنشأ الفكرة ملتصقة بالواقع والخيال دون أن يفصل بينهما حاجز موضوعي أو جمالي ، هذه الفكرة وإن كانت تمتد إلى المرحلة الجنينية في بواكير تكون الفكر الإنساني ، وكما يقول بول كليه : ( أريد أن أكون مثل مولود جديد لا اعرف شيئا عن أوربا إطلاقا أريد أن أكون شبه بدائي ) . فإنها لا تغفل في مقدرتها عن الإفصاح بحرية عجيبة عن واقع الحياة المؤلم المعاصر، فهي كأنما تسعى إلى الكشف عن حلول سحرية لهذا الزمان من خلال الاستعانة بأشكال متعددة من تعويذات تمتد إلى الأزمنة السحيقة . أي أن منهج الفن الفطري إنما يسعى إلى استعادة تلك المفردات النابعة من سجية الإنسان البدائي بنفس البساطة والتلقائية ، وقد تحمل ذات الرموز والمفردات لاكتشاف حلول جديدة بكثير من البساطة. المادة ولم تكن المواد المستخدمة لتنفيذ هذه الأعمال ببعيدة عن تلك التلقائية والبساطة فهي اقرب المواد وأكثرها التصاقا بالبيئة والطبيعة بل وأكثرها قدرة على التعبير عن محتوى الفكرة ومضمونها ، أي أن الخامة التي يتعامل معها الفنان الفطري ملائمة بصورة كبيرة لمعالجة البساطة والتلقائية التي تتصف بها الفكرة وما بين الطين والحجارة وأخشاب الأشجار والمنسوجات المحلية البسيطة والتي غالبا ما تشكل بقايا مواد مستعملة أو مستهلكة ، تبزغ تلك التعويذات لعالم مليء بالرموز والعلامات والدلالات لتفصح عن نفسها كأفكار سحرية ولتبرز بساطة الخامة وجمالها . التقنية أما التقنية التي يتصف بها الفن الفطري فهي لا تنفصل عن نسيج العمل الفني وبنيته الكلية وتعيد لنا فكرة الإغريق عن الحوار القائم بين المادة والعقل والأداة في أن طريقة التنفيذ ونوع الأداة وارتكازا على مهارة الصانع كفيلة بتحويل كتل الرخام الصماء إلى أعمال نابضة بالحياة والمعنى ، وعلى الرغم من كل تقنيات العصر يسعى الفنان الفطري إلى تنفيذ أعماله بذات الأدوات والوسائل البسيطة التي تساعده على حفر بصماته الإنسانية في كل جزء من أجزاء عمله الفني ، وعليه فإن معالجة الخامة بهذه الطريقة لا تفقدها خصائصها الأصلية وتبقى على علاقتها الوثيقة بالبيئة والمحيط وبما يضفي على العمل الفني الكثير من الصدق والبساطة والتلقائية . ولاشك أن خلف كل تقنية وأسلوب - ميتافيزيقيا - يجب حصر معالمها لفهم العمل الفني عموما . التعبير إن الفنان الفطري إنما هو ذلك الإنسان الذي يشعر بأنه لا يمكن أن يكون للواقع معنى، ما لم ينتظم في نطاق عالم ما ، وأن عليه هو إنما تقع مهمة اكتشاف ذلك العالم الذي لا يخرج عنه شيء ، إلا غبار الواقع الكثيف الداكن الأسود. فهو ذلك الخالق الذي ينظم العالم عن طريق مجموعة من الوسائط الاستاطيقية الخاصة، وفى مقدمتها جميعا واسطة (التعبير). وليست عبقريته في أن ينقل الواقع بأمانة، وإنما عبقريته في أن (يعبرَّ) عن الواقع بعمق. و التعبير الجمالي في الفن الفطري لا يكون إلا لأولئك الذين ملكوا خبرات عميقة، وعلى دراية واسعة بالمواد التي يتعاملون معها ، ولهم القدرة على تصوير الانفعالات والعواطف والتعبير عنها. وإن بدا ذلك في الفن تلقائيا ، وغير متكلف ، فذلك لأن “التلقائية ثمرة لفترات طويلة من النشاط الفطري ، وإلا فإنها ستكون من الخواء بحيث لا يمكن اعتبارها فعلا من أفعال التعبير. والفنان الفطري في سجيته إنما يتخذ من طريقة تعبيره شكلا خطابيا يشكل نسقا قيما مع البيئة والمحيط الذي يعيشه . الشكل تتخذ الأعمال الفنية الفطرية من البساطة والتلقائية منهجا في صياغة المفردات البصرية ، وهي بذلك إنما تختط ذات المنهج الذي اتبعه الإنسان القديم في توثيق رؤيته الخاصة عما يحيط به في البيئة ولذا نجده أحيانا يكتفي ببعدين مهملا البعد الثالث في لوحاته الجدارية لاغيا المنظور فيها ، أو يطرح علاقات أو نسب جديد للجسم الإنساني وفق رؤيته الخاصة ، أو يشذب كثيرا من الأجزاء التي يجد بأنها غير ضرورية أو ذات أهمية في الموضوع .. وهكذا فانه يسعى إلى الوصول إلى لغة بصرية تعالج الشكل وفق منظور يتلاءم مع بساطة المادة وسحرية الفكرة ، وهو بذلك إنما يتبع ذات المنهج الذي يتبعه الفنان في معظم الأساليب والتيارات الفنية منذ بداية القرن العشرين ، من خلال بناء الثوابت الشكلية الموزعة على محور الزمان وتأسيس سلم إحالات داخلية في النسق ألقيمي للشكل وهو في نفس الوقت. محاولا خرق كل القواعد الأكاديمية وصولا إلى ابتكار لغة الشكل الخاصة به . وسواء كان ذلك وفقا للمفهوم الكلاسيكي أو المفهوم الحديث فإن ابسط الإشكال كانت دوما تحمل اكبر الدلالات والمعاني والأكثر قدرة على التأثير والتعبير عن الفكرة ومحتواها . المحاكاة وإذا كانت المحاكاة Imitation في الفنون الفطرية قد سيطرت زمنا طويلا على الفن وفقا لآراء “أرسطو طاليس” التي ترى أن (المحاكاة غريزة في الإنسان منذ طفولته ، ويميزه عن الحيوانات الأخرى إنه من بينها ألأكثر تقليدا ، وأنه بهذه الغريزة يتلقى معارفه). وقد انتظم في هذا المبدأ - أي المحاكاة - جميع الفنون الممثلة ، وانسحب أيضا على جميع الصور الأخرى كالموسيقى. ولكن مع العصر الحديث وُجهت المحاكاة بوجود القوة الخالقه للفنان تعلن عن نفسها. وكان من الصعب التوفيق بين المحاكاة، وهذه القوة. فإذا كانت المحاكاة هي الغاية الحقة للفن - كما رأت العصور الكلاسيكية - فمن الواضح أن التلقائية ، أي القوة المنتجة لدى الفنان الفطري عامل مزعج لا عامل بناء لأنها (تزور) أوجه الأشياء بدلا من أن تصفها في طبيعتها الصحيحة. وقد أدى ذلك إلى ظهور نظرية التعبير التي تفسح لهذه القوة مكانا . إن الفنان الفطري غالبا ما يشذب الواقع ولا يأخذ من المحاكاة إلا بقدر ما يعكس ذلك من إمكانيته في التعبير عن أفكاره ، وليس لتقليد ما هو كائن أمامه وان بدا بأن ما يصنعه الفنان هو صورة ساذجة وبسيطة للواقع . إي الفنان الفطري يبدع موضوعه ، من خلال النسق الفكري الذين ينتمي إليه العمل لا ينقله ولا ينسخه ، كما أنه لا يتقيد بما تفرضه نظرية المحاكاة الأرسطية عليه ، أو حتى التطورات التي أضيفت عليها فيما بعد ، فإنه بالضرورة يقدم معادلاً حسّيا لما يجول في وجدانه ، أي أنه(يعبّر) عن أفكار، وأشياء تختلج في نفسه، عبر رؤيته، ولا يقوم بمحاكاة “مثل أعلى” أو محاكاة للجوهر. ولا شك أننا عند الحديث عن انفعال استاطيقي في العمل الفني الفطري ، فإننا نجد أنفسنا أمام عمل متخم بالرموز والدلالات الأسطورية حيث يكون التعبير في أوجه ، و الحديث عن الناتج التعبيري Expressive Product، بمعنى، ماهية المشاعر التي يثيرها في المتلقي،.. كموصل بينه وبين الفنان ، فإن الفنان الفطري ابتداء لا شأن له هنا بتلك الأحاسيس والانفعالات التي تثيرها أعماله إلا بقدر ما كانت تلك الأعمال تشكل متنفسا للتعبير عن خلجاته ورغباته المكبوتة ، بل العمل الفني هو صاحب الشأن . إن الموسيقى البصرية المنبعثة من تلك الأعمال هي التي تعبر. حتى لو كان الفنان بلا انفعالات عندما أنجز عمله ، وحتى لو كان المتلقي متبلدّ الإحساس، أو غبيا لا يشعر بشيء حين يبصر تلك الأعمال . فالتعبير لا يعتمد في تعريفه الدقيق إلى ما يعول عليه من إحساس الفنان. الفطري أو ماذا يعني عمله بل على كيفية رؤية هذا العمل ..فطريقة الرؤية تعبر بموضوعية كما لو كانت تحتوي عديدا من المعايير.. أما إذا كان المتلقي مما لا يمكن استثارته على نحو ملائم ، فيا لسوئه من متذوق . و كما يرى “جون هوسبرس”. فان العمل الفني هو الذي يوصل الانفعال عندما يكتمل ، وهو الذي يثير المشاعر، والعلاقة تكون بين العمل الفني كأداة للتعبير بصورة جمالية عن الانفعال الاستاطيقى، وبين المشاعر التي تستثار بفعل هذا العمل . وفي ضوء ذلك ماذا يمكن إن يمثل الفن الفطري في تاريخ الأمم والشعوب وذاكرتها الحالية ؟ .. لاشك أن الثقافة المحلية التي تسعى تلك المجتمعات إلى إحيائها وتجذيرها في نسيج متجانس مع حياتها العصرية تحتاج إلى تقاليد بصرية ترسخ المفردات الجمالية لتلك المجتمعات وتعكس فطرتها السليمة في واقع مليء بالنظريات والمناهج الفكرية الحديثة دون أن تمحى تلك الملامح ، تارة تحت مسميات الحداثة وما بعدها وتارة أخرى في عصر العولمة وما بعد الصناعة . ورغم حركة الوعي المتنامي بفعل تطور التكنولوجيا المتسرعة فإن الحنين إلى الماضي والكشف عن جوهره الإنساني المتجرد يبقى الأساس الحقيقي الذي يربط فن الكهوف بفنون ما بعد الحداثة . المصادر 1 - Ackerknecht,Erwin H.1992. “On the Comparative in Anthropology,pp.125-127 in Spenser, R.F.(ed),Method and perspective in Anthropology , Minneapolis: The University of Minnesota Press. 211pp. 2 - Beals, Ralph L 1985a Acculturation.pp216-219 in Kroeber, A.L. (ed), Anthropology Today Chicago: University of Chicago press 391pp. 3 - Evans-Pritchard, EE,1989, Social Anthropology, London: Cohen and West, Ltd. 174 pp. 4 - إدوارد إيفانز: الانثربولوجيا الاجتماعية ، ( ت احمد بريتشارد : أبو زيد ) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الخامسة ، 1975 . 5 - ادوارد سعيد . الاستشراق : المعرفة ، السلطة ، الإنشاء ، ( ترجمة كمال أبو ديب ) ،مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت ، 1981. ص 215 6 - Ackerknecht,Erwin. Ibid, P. 144 . 7 -رالف بيلز: مقدمة في الانثربولوجيا العامة ( ت محمد وهاري هويجر الجوهري وآخرون ) دار نهضة مصر للطبع والنشر ، القاهرة ، 1977 ص 274. 8 - Ackerknecht,Erwin. Ibid, P. 249 . 9 - روجيه غار ودي: نظرات حول الإنسان ، (ت سمير كرم ) دار الطليعة للطباعة والنشر ، الطبعة الرابعة ، بيروت، 1984، ص 144. -10 روجيه غار ودي : المصدر نفسه، ص 176. 11 - Dawes, Robyn. 1980. “Social Dilemmas.” Annual Review of Psychology 31:169-193 12 -جيروم ستولنتز ، النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ترجمة فؤاد زكريا المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1981م .ص 22 13 - Harrison, C & Wood (Eds.) (1993). Art in Theory 1900-1990, Oxford: Blackwell,pp.247 14 - Munre, T. The psychology of Art: Past, Present, Future, in: psychology and Visual art, ed. by. J. Hogg. London: Penguin Book, 1969, p. 12. 15 - Dawes, Robyn. Ibid, P. 211. 16 - جيروم ستولنتز ، المصدر نفسه ، ص 187.