لم يتغيّر منذ أكثر من أربعين عامًا    مجموعة هائل سعيد تحذر من المعالجات العشواىية لأسعار الصرف وتنبه من أزمات تموينية حادة    الاتحاد الأوروبي يوسّع مهامه الدفاعية لتأمين السفن في البحر الأحمر    تظاهرات في مدن وعواصم عدة تنديداً بالعدوان الصهيوني على غزة    - اقرأ سبب تحذير مجموعة هائل سعيد أنعم من افلاس المصانع وتجار الجملة والتجزئة    غزة في المحرقة.. من (تفاهة الشر) إلى وعي الإبادة    السعودي بندر باصريح مديرًا فنيًا لتضامن حضرموت في دوري أبطال الخليج    العنيد يعود من جديد لواجهة الإنتصارات عقب تخطي الرشيد بهدف نظيف    صحيفة امريكية: البنتاغون في حالة اضطراب    الاستخبارات العسكرية الأوكرانية تحذر من اختفاء أوكرانيا كدولة    حملات ضبط الأسعار في العاصمة عدن.. جهود تُنعش آمال المواطن لتحسن معيشته    في السياسة القرار الصحيح لاينجح الا بالتوقيت الصحيح    قادةٌ خذلوا الجنوبَ (1)    مشكلات هامة ندعو للفت الانتباه اليها في القطاع الصحي بعدن!!    أحزاب حضرموت تطالب بهيكلة السلطة المحلية وتحذر من انزلاق المحافظة نحو الفوضى    الرئيس الزُبيدي يوجّه بسرعة فتح محاكم العاصمة عدن وحل مطالب نادي القضاة وفقا للقانون    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة نذير محمد مناع    إغلاق محال الجملة المخالفة لقرار خفض أسعار السلع بالمنصورة    لهذا السبب؟ .. شرطة المرور تستثني "الخوذ" من مخالفات الدراجات النارية    منع سيارات القات من دخول المكلا والخسائر بالمليارات    مناقشة قضايا حقوق الطفولة باليمن    تكريمًا لتضحياته.. الرئيس الزُبيدي يزيح الستار عن النصب التذكاري للشهيد القائد منير "أبو اليمامة" بالعاصمة عدن    لاعب المنتخب اليمني حمزة الريمي ينضم لنادي القوة الجوية العراقي    رئيس الوزراء من وزارة الصناعة بعدن: لن نترك المواطن وحيداً وسنواجه جشع التجار بكل حزم    هيئة مكافحة الفساد تتسلم اقرار نائب وزير التربية والتعليم والبحث العلمي    "القسام" تدك تحشيدات العدو الصهيوني جنوب خان يونس    المشايخ في مناطق الحوثيين.. انتهاكات بالجملة وتصفيات بدم بارد    عدن.. تحسن جديد لقيمة الريال اليمني مقابل العملات الاجنبية    تدشين فعاليات المولد النبوي بمديريات المربع الشمالي في الحديدة    اجتماع بالحديدة يناقش آليات دعم ورش النجارة وتشجيع المنتج المحلي    أمواج البحر تجرف سبعة شبان أثناء السباحة في عدن    سون يعلن الرحيل عن توتنهام    وفاة وإصابة 470 مواطنا جراء حوادث سير متفرقة خلال يوليو المنصرم    محمد العولقي... النبيل الأخير في زمن السقوط    طفل هندي في الثانية من عمره يعض كوبرا حتى الموت ... ويُبصر العالم بحالة نادرة    بتهمة الاغتصاب.. حكيمي أمام المحكمة الجنائية    لابورتا: برشلونة منفتح على «دورية أمريكا»    مع بداية نجم سهيل: أمطار على 17 محافظة    من تاريخ "الجنوب العربي" القديم: دلائل على أن "حمير" امتدادا وجزء من التاريخ القتباني    تقرير حكومي يكشف عن فساد وتجاوزات مدير التعليم الفني بتعز "الحوبان"    من يومياتي في أمريكا.. استغاثة بصديق    ذمار.. سيول جارفة تؤدي لانهيارات صخرية ووفاة امرأة وإصابة آخرين    مأرب.. مسؤول أمني رفيع يختطف تاجراً يمنياً ويخفيه في زنزانة لسنوات بعد نزاع على أموال مشبوهة    لاعب السيتي الشاب مصمّم على اختيار روما    أولمو: برشلونة عزز صفوفه بشكل أفضل من ريال مدريد    تعز .. الحصبة تفتك بالاطفال والاصابات تتجاوز 1400 حالة خلال سبعة أشهر    من أين لك هذا المال؟!    كنز صانته النيران ووقف على حراسته كلب وفي!    دراسة تكشف الأصل الحقيقي للسعال المزمن    ما أقبحَ هذا الصمت…    لمن لايعرف ملابسات اغتيال الفنان علي السمه    تساؤلات............ هل مانعيشه من علامات الساعه؟ وماذا اعددناء لها؟    وداعاً زياد الرحباني    اكتشاف فصيلة دم جديدة وغير معروفة عالميا لدى امرأة هندية    7 علامات تدل على نقص معدن مهم في الجسم.. تعرف عليها    تسجيل صهاريج عدن في قائمة التراث العربي    العلامة مفتاح يؤكد أهمية أن يكون الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام أكبر من الأعوام السابقة    رسالة نجباء مدرسة حليف القرآن: لن نترك غزة تموت جوعًا وتُباد قتلًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشارات الصدق في القصيدة الوجدانية كما يستشفها القارئ 2-2
نشر في الجمهورية يوم 16 - 02 - 2010

في مناهج التلقي يأخذ النص أهميته من تفاعل المتلقي فيه، ويحمل النص عادة حوارًا داخليًا متبادلاً بينه وبين ذاتية المتلقي أو المتقبّل ، وكم بالحري إذا التقت تجربة المبدع بتجربة هذا المتلقي من خلال الهموم أو القضايا المشتركة أو اللغة وما تحمله من إحساس وشحنات مشتركة .. وقد كان الشاعر القديم منذ البدء واعيًا لأهمية التلقي ، فالنسيب الذي يعمد إليه في استهلال القصيدة2 ، بل حرصه على المطلع والختام مما يؤكد هذا الوعي ، بل إن إجراء الشعراء عبر عصورهم التغيرات على نصوصهم ، مما يُشير كَذلك إلى أن المبدع يضع نصب عينيه وفي طوايا تفكيره شخصية المتلقي ، وهو – أي المبدع – يأخذه بنظر الاعتبار في تعميمه للنص .
لغة النص هي المفتاح الأول للتلقي
ثمة سر في النص هو الذي يجعلنا نحكم على النص وجودته ، فلغة الشعر التصويرية تصل إلى مخيلة المتلقي ، وللتخييل سيطرة على مشاعره ، وليس بالضرورة أن تكون اللغة الشعرية لغة واقع صرف . إن القصيدة ذات تجربة معينة ،وفيها لغتها الذاتية الخاصة ، فإذا أقبل القارئ عليها بكل مكوّناته التي أشرنا إليها ، فإنه يتوصل إلى إيحاءات أولى عن طريق هذه الحوارات الداخلية بين النصوص السابقة وهذا النص. 32
يقول جابر عصفور في هذا السياق “ إن التوصيل الشعري ليس توصيلاً حرفيًا لقيمته ، وإنما هو صياغة مجازية لها ، وفي هذه الصياغة يتجلى تأثير الشعر ، فإذا ربط المتلقي بين المعاني الأصلية بأخرى فرعية على نحو يفرض الأصلية على انتباه المتلقي ، ليجبره على التأني إزاءها ، والتأثر بما تتبدى فيه المعاني الفرعية من معطيات حسية تشير إلى المعاني الأصلية ضمنية تنطوي على تعدد في الدلالة أو تنطوي على معان كثيرة “.33
ولكن النص – عادة – ينطلق من ذاتية ، فإذا وصل إلى القارئ فإنه هو كذلك يتقبله بذاتية أخرى ، والذاتية لا ضوابط لها محددة.. أما كيف يتم التواصل الأول ، فالإجابة تطرق إليها كل من ياوس وآيزر في أكثر من دراسة عن التلقي ، وقد ارتأينا أن لربط الفجوات ( Gaps ) في النص ما يقدّم حرية للتفسير تتيح للقارئ الفرصة ليبني جسوره الخاصة ، ففجوات النص لا يمكن أن تعد عيبًا..... إنها في نظر آيزر عنصر أساس للاستجابة الجمالية .34
ويرى آيزر أن النصوص الأدبية يكون فيها حيوية بسبب الاعتماد على القارئ الفردي في إدراك المعنى أو الحقيقة المحتملين ، فالمعنى يحدده النص نفسه ، ولكن ذلك لا يتم إلا بصورة تسمح للقارئ نفسه أن يوضحه . أما “ أفق التوقعات “ - الذي أشار إليه ياوس 35 فهو افتراض بأن العمل الأدبي يعدّ جمهوره لضرب خاص جدًا من التلقي من خلال علامات ظاهرة وخفية أو مميزات خفية أو إيماءات خفية ..... “ وببدايته يثير توقعات حول “ الوسط “ والنهاية.. ويمكن بعدئذٍ أن يحافظ عليهما كما هي ، أو تغير ، أو يعاد توجيهها ... ويستحضر النص الجديد عند القارئ أفق توقعات وقوانين مألوفة من نصوص سابقة يمكن عندئذٍ أن يغيّر أو يصحح أو يبدّل أو حتى ينتج من جديد “ . 36
فالفن يقوم على الإيماءة التي لا تكشف كل أبعاد النص ، إنما تترك فسحة من التخيل ، ولا يتأتى هذا إلا عن طريق اللغة المجازية . إن القارئ في تلقيه النص بالوسط اللغوي – أي بالصيغة اللغوية المألوفة لديه نحوًا وبلاغة إنما يغني تجربته هو بما يقع تحت نطاق حسه وفهمه فتتصل “ أنا “ القارئ بالنص.. اللغة في النص هي التي يستقبلها القارئ ، فيعيد تنظيمها في أنساق ودلالات تبعًا لطاقته وقدرته على فهم العلاقات النص- تصوير مصاحب لتجربته ورؤيته للوجود .إنها تؤلف أسلوبه ، أي ذلك النظام اللغوي المنطلق من نفسية المبدع أو دخيلته ، فالشخص المبدع كائن في اللغة – لغته – أو محلقًا فيها . فإذا سيطر الأديب على عناصر لغته واستثمر علاقاته وقرائنها فإنه سيصل الى الطرف الآخر ؛ وكثيرًا ما يحس هذا بوقعها في نفسه وأثرها في وجدانه .
ودراسة اللغة في النص لها إيجابيتها ، ذلك أننا نستطيع أن ندرس التطور اللغوي لدى الشاعر الواحد ، أن نوازن لغته بلغة أخرى ، أو ندرس لغة نوع أدبي معيّن ، أو نوازن عوالم شعرية متباينة.. إن المبدع عندما يقدم لنا معاني دلالية إنما يقدم معها ظلالاً وطاقات مصاحبة ، وهي متفاوتة فإذا وصلت بعض هذه الظلال إلى القارئ فإنه لا شك وجد تماثلاً نفسيًا ، وسأشير إلى هذا التناول لاحقًا.. هناك من رأى أن استعمال العامية والحديث عن الواقع المباشر هما مما يقرّب النص لغة وتماثلاً نفسيًا ، لكن محمد النويهي يحذرنا من الإغراق في الواقع ، وكذلك من استعمال العامية ، ورأى أن هذا القرب من لغة الكلام يجب أن تستلزمه طبيعة موضوعه والظلال الدقيقة الفكرية “ وأن يجيء استجابة طبيعية لاهتزازات هذه الروح – كما تتجلى في نبرات حديثه اليومي “ .37
ومهما يكن فإن المعنى هو الذي يؤلف الرابطة الروحية ، أو يكمن فيه سر النص الذي ألمحت إليه آنفًا . ومن الضروري أن تّتحد خيوط النسيج اللغوي والأداء بشبكة من العلاقات ، لتعطي استقلالية وإيحائية .
التماثل الشخصي
ومن إشارات الصدق في القصيدة أن يقدّم النص دلالات جديدة في ذهن القارئ- دلالات لم تكن من المنظورات المبنية مسبقًا ، وإنما هي تبنى بعد مراجعة النص واسترجاعه داخل نفس المتلقي – القارئ ، فالنص أشبه بخلية حية تداخلت بخلية حية أخرى في القارئ ، فيحدث التفاعل أو يحدث التلاقح بين البذرتين ، وينشأ هذا الموقف المتمازج بين النص وبين ذاتية القارئ .
إن القارئ يستدعي صورًا حسية أو معنوية كانت – أصلاً – في ذهن المبدع بصورة مقاربة ، والصدق هنا يقاس بمدى مايعبّر عن القارئ ، أو ما يود أن يعبّر عنه ، إذا كانت البلاغة موافقة مقتضى الحال ، فإن الحال يعني – كذلك – حال المتلقي ، لأنّ النص ينطق بلسانه أو معه .
يقول عز الدين إسماعيل : “ الفن ونحن أساسيان ومتلازمان في كل عمل شعري يحظى بتقديرنا “ . وهو يرى أننا حين نحكم على قصيدة ما بالصدق “ فإننا نعبرّ بذلك الحكم في الحقيقة على نجاح الشاعر في التعبير كذلك عن مشاعرنا وأفكارنا – عن الموقف الذي نتخذه من الحياة أو يجب أن نتخذه “ . 38
أما تماثلنا مع قصائد قديمة تحمل منطقًا غير منطق عصرنا ، أو تحمل عقيدة مخالفة أو أفكارًا مناقضة فإنه يتأتّى بتقديرنا المسبق على أن روح العصر أو ذوقه هو الذي يوجهّ القارئ عند تقبّل القصيدة . 39
إننا في قراءتنا نستحضر في أذهاننا هذه المقاييس المغايرة لنا ، من غير أنّ نبحث عن صورة لواقعنا نحن : فالتخيّل الشعري يوصل إلى استيعاب الصورة الفنية ، وهو الذي ينقلنا إلى إطار تاريخي آخر وظروف أخرى ، ويضع لنا مقاييس لغوية وأدبية مختلفة ، فتكون التجربة التي يتلقاها القارئ ( وَعْيوَية ) إذا صح التعبير . إنها نوع من الإزاحة تتم بربط هذه الأشياء أو المقاييس بالاتجاه العام الذي كان سائدًا في الشعر.. ولكن ثمّة فرق بين القصيدة التقليدية التي يكتبها شاعر اليوم ، كأن يهجو مثلاً بأساليب الشعر القديم ، وبين تلك القصيدة التي طالعنا بها الفرزدق مثلاً . فالأحوال المادية والثقافية والنفسية والاجتماعية مختلفة ، لذا يصعب على القارئ في أيامنا أن يحيل هذا النص الأول إلى التاريخ ، أو إلى مقاييس العصور السالفة ، إنه يحيله إلى واقعه اليوم ، فسرعان ما يجد الهوة بين لغة الطرح الشعري ومضمونه .
إن التماثل يحتاج منا أن نبذل جهدًا، لنتعرف على النص عقليًا ووجدانيًا ، فنستكشف ما فيه من مواقف وأحاسيس ، ولا يتم ذلك إلا بالمعايشة والألفة 40، والاستعداد المحايد المسبق للنص بعيدًا عن التعقيد والإبهام.. للشاعر في قصيدته رؤية خاصة في الكون ، وأن له لغة تختلف عن لغة سواه – لغة فيها أنساق وسياقات منسوجة بصورة متميزة ، أو غير مألوفة – تُبين أو تشفّ عن التجربة فإنه يكتشف له خصوصية – خصوصية فيها أصداء نفس مطلقها ، فيها همساته الوجدانية ، ولا أعني بها الخصوصية العامة التي عناها نزار قباني في قوله :
« ولكن ليس هناك سوى نزار قباني واحد ، له خصوصية في اللغة ، وله ورشة للقص والتفصيل والخياطة».. وإنما أعني بها الخصوصية الخاصة للقصيدة الواحدة . 41
وتبقى مسألة الخصوصية العامة مشرعًا للنقاش حول كونها صورة إيجابية أو سلبية .
الإلقاء الداخلي أو الشخصي للقصيدة
إن من دلائل تذوق القصيدة أن يعمد القارئ إلى ترديدها أو إلقائها ، سواء كان ذلك بصوت مسموع أو بصوت داخلي . إن في قراءتها الهمس والخطاب والموسيقية التي يحسها في نفسه. يقرأها بصورة تدل على مشاركة – كأن تكون بصورة طربية أو إيقاعية.. فهذا الإقبال على قراءتها عاليًا أو إلقائها يجعله يتماشى مع وتيرة النص ، فيكون هناك وقوف أو تدبّر أو مضيّ على إيقاع ما ، وخلال هذا تتمّ عملية التقييم المستمرة ، ويكون عنصر الاكتشاف موصلاً إلى هذا الصدق الذي يستشفه القارئ.. يقرأ القارئ القصيدة دون تصور لجمهور مسبق ، ينطق الشعر ، ثم يسمعه ، وقد يعود إلى القصيدة أكثر من مرة مستمعًا إلى أصواتها أو ألفاظها ، وقد يحاول أن يرددها على مسامع من حوله ليتذوقوها كما تذوقها ، بل قد يسوقه ذلك إلى حفظ مقاطع منها عن ظهر قلب.. وقد أشار النويهي إلى ظاهرة مصاحبة لهذه القراءة – وهي أن تشير القصيدة صورًا وأنغامًا في الشعر الدارج من الألفاظ العامية ، “ وأن الصادق الأصيل في تراثنا الشعري كان ينطبق عليه رأي إيليوت ، فقد كان قريبًا من لغة الكلام ، صادقا في حكايته لطريقة الناس في الحديث اليومي . وبالطبع فإنّ استدعاء هذه التعابير هو جزء من التناصّ . 43
الاندهاش
إذا أقبل القارئ على النص ، ونتجت لديه دلالة جديدة ، فخرج من حياديته إزاء المقروء ، فإنه يقع في لحظات دهشية أولية ، وذلك بسبب ما شحنته الكلمات من أبعاد فنية أو لغوية أو نفسية . إنه هنا يقف أمام تجربة بها خصوصية الشاعر ، هنا يقع “ الصدام “ الأول الذي قد يؤدي به إلى المتعة ، فيثيره أو يلهيه . وكم من قراءة كانت تستدعي قراءات سابقة فتخرج عن مألوفيتها لتجديد بكارة الموضوع . 44
إن القدرة الفردية على الوصول إلى هذه الدهشة الأولى ، والوقوف أمام جمال أدبي فني يتعلق أولاً بظروف المتلقي وثقافته ،فإذا انفعل القارئ ، أو أصابته تلك الومضة التى تضيء ركنًا ما في نفسه ، أو تهز جزءًامن مخيلّته ، فإنه يحقق بذلك هذا التواصل وبصورة حميمة أكثر.. يقف القارئ على باب النص ، فيستقيل إيماءات وإشارات ، وما يلبث أن يقود نفسه إلى الدخول في حرم هذا النص ، وبشكل تلقائي ، حيث أمامه مجال التخيل والبناء الشعوري.. إنه لا يسير إلا بخيط الصدق الذي تركته له الدهشة ، فالدهشة المتأنية من استيعاء عصارة إحساس المبدع – تترك متعة لذيذة ، فيحس القارئ أنه أمام صدق فني ، عبّر فيه المبدع عن عاطفته الفردية وتجربته الانفعالية .
خاتمة وإجمال
تناولت الدراسة أهمية التلقي في النقد الأدبي عامة، واهتمام الأدب العربي به بدءًا، وتوقفت على المتلقي-القارئ لكون المستمع واقعًا تحت تأثيرات خارجية عن النص. وكانت القصيدة الوجدانية محور الاهتمام، لان الشعر فيه كثافة المعنى، ولأن العاطفة هي أكثر ما يتواصل مع القارئ.. تناولنا معنى “ الصدق” في الأدب، وبينت أن ميدانه الأول هو التعبير، وأنه في الشعر يستلزم أسسًا يقوم عليها هذا الفن – ومنها التخييل، والموسيقا والإيقاع...، وتوقفت – وبصورة خاصة – على رؤية محمد النويهي، وهي هامة في هذا المجال. وكان لابد من العودة الى مفهوم “ الصدق” عبر العصور المختلفة في أدبنا، وخاصة لدى ابن طباطبا، فعبد القاهر الجرجاني، ثم مساهمات الديوانيين- العقاد والمازني وشكري-في ذلك.. أما “ القارئ”فقد لاحظنا أن مفهومه يتسع ويضيق تبعًا للمكونات والظروف التي يعايشها. وعليه، فإن “ القارئ” في الدراسة هو الذي يتذوق النص ويحاوره من خلال عناصر اللغة، ومن انعكاس الظواهر الاجتماعية والنفسية فيه، وهو ليس ذلك “ القارئ العابر” الذي ألمع إليه المازني.
اعتبرت الدراسة أن هناك إشارات قد تسوق القارئ إلى تذوق القصيدة، فالإحساس بصدقها، وهي تبدأ باللغة، وفيها يتم ملء فراغات- يكون القارئ فعالاً فيها، وباللغة يتبين ارتباط المبدع بأسلوبه، فيحس القارئ أن للشاعر صوتًا خاصًا ينطلق منه، فإذا تماثل شخصيًا مع النص، ورأى أنه يعبر عنه فهذا دليل على أن القصيدة صادقة في معاييره ، وكثيرًا ما يجد القارئ نفسه وهو يردد أو يلقي القصيدة إلقاء داخليًا، أو يقف في حالة اندهاش أمام النص، وهذه كلها أو بعضها أمور تشكل العلاقة بين المبدع والمتلقي- القارئ.
الهوامش
(32) p.106 -209 Iser:Interaction between Text and Rader
(33) عصفور جابر : مفهوم الشعر ، ص 162
(34) نيوتن .ك . :نظرية الأدب ... ، ص 184 .
(35) ن.م،ص242 .
(36) ن.م ، 235.
(37) النويهي : قضية الشعر الجديد ، ص 135 .
(38) إسماعيل عز الدين : الشعر في إطار العصر الثوري ، ص 23-24 . (39) نحو انّ الألفاظ الجنسية – مثلاً – كان التصريح بها أمرًا طبيعيًا وعاديًا في النصوص العباسية ، بينما نحن اليوم نفضّل الإشارة والإيماءة ؛ وكذلك ألفاظ الفخر لا تجد لها محبذين في عصرنا إلا ما ندر .
(40) يبدو أن “ الألفة “ يصعب ضبطها ، وقد ذكر الجاحظ “ أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب ، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان “ .( الجاحظ : البيان والتبيين ، ج1، ص 83- 84( وقد رأى عبد القاهر الجرجاني أن مسائل الذوق – “ أمور خفية ، ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث له علمًا بها حتى يكون مهيئًا ( مهيّأ ) لإدراكها ، وتكون فيه طبيعة قابلة لها ، ويكون له ذوق وقريحة “ ( الجرجاني عبد القاهر : دلائل الإعجاز ، ص 420 ).
(41) قباني نزار : مجلة الكرمل ( قبرص ) ، عدد 28 ، ص 19 .
(42) النويهي : قضية الشعر الجديد ، ص 14 .
(43) ن . م ، ص 134 .
(44) الواد حسين : مناهج الدراسات الأدبية ، ص 72 .
مصادر الدراسة ومراجعها:
ابن رشيق: العمدة- في محاسن الشعر وآدابه، ( ج1) مطبعة حجازي، القاهرة -1934.
ابن طباطبا: عيار الشعر، دار الكتب العلمية، بيروت-1982.
ابن قتيبة:الشعر والشعراء، (ج1)، دار المعارف بمصر- 1966.
إسماعيل، عز الدين: الشعر في إطار العصر الثوري، القاهرة-1966.
الأصفهاني، أبو الفرج: الأغاني، (ج5)، مطبعة أجيون، حيفا-د.ت.
الجاحظ: البيان والتبيين،(ج1)، الطبعة الخامسة- مكتبة الخانجي، القاهرة، 1966.
الجرجاني، عبد القاهر: أسرار البلاغة( تحقيق ه. ريتر)، مطبعة وزارة المعارف، استنبول-1954.
----، دلائل الإعجاز، دار المعرفة، بيروت-1981.
حسان بن ثابت: ديوان حسان، (ط3)، دار الهلال، القاهرة-د.ت.
درويش، محمود: “ عن نزار قباني” صحيفة فصل المقال عد7/5/1998.
سلدن، رامان: النظرية الأدبية المعاصرة.( ترجمة وتقديم جابر عصفور).دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة -1991.
الشايب، أحمد: أصول النقد الأدبي. ( ط8)، مكتبة النهضة، القاهرة -1973.
شكري، عبد الرحمن: المجموعة الكاملة لأعمال شكري النثرية. ( تحقيق زكي كتانة)، مكتبة النجاح –نابلس-1981.
الصكر، حاتم: كتابة الذات، دار الشروق، عمان -1994.
عباس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت-1981.
عصفور، جابر: مفهوم الشعر، (ط3)، دار الثقافة، القاهرة-1978.
العقاد، عباس: مطالعات في الكتب والحياة، دار الكتاب العربي، بيروت، 1966.
العقاد، عباس والمازني، إبراهيم: الديوان في الأدب والنقد، ط3، مطبعة الشعب، القاهرة-د.ت.
العلاق، جعفر: الشعر والتلقي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان-1997.
فاضل، جهاد: أسئلة الشعر، الدار العربية للكتاب،( لا تفاصيل أخرى).
كفافي، عطاء: النزعة النفسية في منهج العقاد النقدي، مطبعة هجر، القاهرة-1987.
المازني، إبراهيم: الشعر- غاياته ووسائطه، (ط2) دار الفكر اللبناني، بيروت-1990.
المعداوي، أنور: كلمات في الأدب، المكتبة العصرية، بيروت، 1996.
النويهي، محمد: قضية الشعر الجديد ، دار الفكر ومكتبة الخانجي، 1971.
محاضرات في عنصر الصدق في الأدب، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1959.
نيوتن،ك: نظرية الأدب في القرن العشرين، (ترجمة عيسى العاكوب)، عين للدراسات والبحوث، القاهرة-1996.
الواد، حسي: مناهج الدراسات الأدبية، منشورات عيون، الدار البيضاء-1988.
Eiser.w.:” interaction between text reader” in s.suleiman I crasman
(eds) the reader in the text…..، Princeton university
press- 1980 ( pp.106-119)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.