الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشارات الصدق في القصيدة الوجدانية كما يستشفها القارئ
نشر في الجمهورية يوم 15 - 02 - 2010

والمتلقي يعني بالدرجة الأولى القارئ أو المشاهد أو السامع ، ولكني هنا سأتناول القارئ حصرًا لأن هناك حيادية 3 ، ما بينه وبين النص أكثر مما نجدها لدى السامع . فالسامع بتأثر بأسلوب الإلقاء 4، حيث تشترك الأذن مع العقل والمشاعر ، وحيث يستعين “ الخطيب “ ، بقيم وأدوات فنية نحو موسيقا الكلمة أو إيقاعها ؛ وقد يستعين بإشارات إيماءات ، أو تكون له حركية صوتية مؤثرة . ولا شك كذلك أن شخص الملقي والموضوع والظرف الذي يقال فيه النص وغيرها – وهي مؤثرات من شأنها أن تغير من طبيعة الحكم أو موضوعيته ..... وليس المشاهد ببعيد عن حكم المستمع من حيثُ التأثر بالأجواء والظروف التي تهيمن أحيانًا بسبب مقومات خارجية عن النص .
وأما اختيار القصيدة الوجدانية لمعالجة استشفاف الصدق في تلقيها فذلك يعود أولاً إلى ضرورة حصر الموضوع في لون أدبي واحد ، والشعر هو الغالب في الأدب العربي في تأثيره . إنه لغة مكثّفة إيجازية أو مركّزة ، وهو من أكثر الألوان الأدبية التي تكشف ما في نفوسنا من انفعال . ثم إن إمكانية استخلاص الصدق من الرواية التاريخية مثلاً أو المسرحية الكوميدية أو المقالة الاجتماعية أو القصة القصيرة يكون متعذرًا .... بل إنه يصعب كذلك في الشعر المسرحي أو الكوميدي أو الوصفي.
ولذا اخترت القصائد الوجدانية لأنها هي أصلاً – تعبير عن ذات الإنسان وعواطفه أو وجدانه .
إن قارئ القصيدة إذا أحس الصدق فيها أحس ب “ تهدجات العاطفة “5 وتلاعبها بالنفَس الصادر من الرئتين ، إنه يقنعنا أنها تنبعث من صميمه ، وتنبثق من معاناته الشخصية والفكرية والعاطفية ، لذا يستعمل العبارات والألفاظ ( اللغة) التي تؤلِف له خصوصية ما .
ولكن لنقف أولاً على معنى الصدق الذي يحسه المتلقي ، وكيف عرّفه النقاد العرب .
معنى الصدق في الأدب :
إذا كان الصدق في المواضيع العلمية يعني التدقيق والوضوح واستعمال المنطق والابتعاد عن لغة الخيال ، وملاءمة الواقع فإنّ الصدق في الأدب يتحقق إذا انطلق من عاطفة المبدع وانفعاله . وهو إذا كان يخرج من القلب فإنه يصل إلى قلب المتلقي ، فيشعر بما شعر به المبدع وينفعل معه ؛ والصدق هنا يتحقق ؛ ولا يتم هذا إلا بالخيال أو الصور الفنّية ، واستعمال الكلمات بأسلوب معيّن ، وكم من موضوع واحد يتناوله عشرات الشعراء ، ولكنّنا نحس الصدق لدى هذا ، ونرى التكلف لدى ذاك ، نرى الطبع – وهو من مقومات الصدق – عند هذا ، ونرى الصنعة أو التقليد – وهما نقيضان للصدق – لدى الآخر .
إن الخيال هو الثوب الذي يُلبسه المبدع لفكرته أو لمعناه ، فالخيال مرفود بالعقل يقدّم خصوصية للشاعر تنبثق من خلال انعكاسات الأشياء في حسه وفي نفسه .
يقول أنور المعداوي : “ أما الصدق الفني فميدانه التعبير ، التعبير عن دوافع هذا الإحساس ، بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير ، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير ، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور “.6
إن الصدق في الشعر يستلزم أيضًا النظر إلى مقومات الشعر من إيقاعات.. ولغة مميزة مكثّفة ، ومعان تحملها صور أو خيال . وثمةّ تأثيرات أخرى خارجية عن النص ألمحنا إلى بعض منها أعلاه .
لكن : هل من السهل أن نحدّد مقياس الصدق في هذه القصيدة أو تلك ؟
يستصعب أدونيس ذلك ، ويرى أننا “ لم نعد نستطيع أن نميّز بين صادق وزائف في الفن “ 7 .
وقد سبقه الناقد محمد النويهي الذي وضع كتابًا خاصًا يعالج موضوع “ الصدق في الأدب “ ، ويتبين لنا من خلاله صعوبة التحديد مطلقًا ، رغم أنه قدّم لنا فيه بعضًا من شروط الصدق :
1 - تكون عاطفة الأديب التي يدّعيها قد ألمت به حقًا ، وأن تكون عقيدته التي بينها هي عقيدته الحقيقية في الموضوع الذي يتناوله .
2 – أن تكون حدة تصويره ناشئة عن حدة شعوره وقوة حساسيته - لا عن رغبة المبالغة والتهويل .
3 – ألا يخالف تصويره النواميس البدائية للكون كما نعرفه ، ولا حقيقة السلوك – السلوك الإنساني فيما نخبره من البشر في تجاربهم ومواقفهم ( هذا فيما عدا الموضوعات الخرافية والأسطورية .....).
4 – أن يكون من شأن صنعته أن تزيد عاطفته جلاء وقربًا ، لا أن تقف أمامها حجابًا يشغلنا تأمله من النظر فيها “ 8
ورغم وضعه الشروط بلغة فيها الكثير من التعميم - ورغم اجتهاده في بيان الصدق في هذا البيت أو بيان التكلف في ذاك – وهي مسألة ذوقية محضة – إلا أنّه يوجز الموقف الصعب في التحديد – في وقت لاحق – فيقول :
“ الإجابة عن التمييز بين الصدق والزائف هي عسيرة جيدًا ، لأنه في حقيقته سؤال عن كيف نميزّ بين الصادق والزائف في الفن .” 9
ومع هذا فإننا سنحاول البحث عن إشارات مصاحبة للإحساس بصدق القصيدة ، نحاول أن نستشفها ونحن مدركون أن المعوّل الأساس في كل عملية قراءة - هو الممارسة الطويلة أو الدربة المتواصلة ، ولكن قبل ذلك علينا أن نستقرئ معنا “ الصدق “ في النقد العربي – قديمه وحديثه :
مصطلح “ الصدق “ في النقد العربي :
من الاستعمالات الأولى لمعنى الصدق ما ورد على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في زهير بن أبي سلمى : “ ولا يمدح الرجل إلا بما فيه “ 10 . ونحن نفهم من هذه العبارة معنى الموافقةٍ مع واقع الحال ، أو الصدق في الواقع .
كما ورد في بيت شعر لحسان بن ثابت ذكر للصدق ، ولكنه هنا جاء مطابقًا لنفسية الشاعر أو حاله :
وإن الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس إن كَيسًا وإن حُمُقًا
وإن أشعر بيت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا 11
وقد أورد صاحب الأغاني حوارًا بين عبد الله بن أبي عتيق وكثيّر عزة – يستعمل فيه عبد الله عبارة “ أقنع وأصدق منك “ ، وذلك في معرض الموازنة بين كثير وشاعرين آخرين . 12
- ويبدو لنا هنا أن معنى “ الصدق “ يقارب ما ننحو إلى معناه هذه الأيام ، بدليل استعماله تعبير “ أقنع “ قبل “ أصدق “ ، فهنا نرى أن “ أقنع “ تهتم بالمتلقي ومشاعره وتمثّله للحالة التي كان بها الشاعر .
وقد وقف إحسان عباس 13 على معنى “ الصدق “ في نقد ابن طباطبا في كتابه “ عيار الشعر “ ، فرأى أن لدى ابن طباطبا استعمالات مختلفة له :
1 - الصدق الفنّي أو إخلاص الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية .
يقول ابن طباطبا “ فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند المستمع لا سيّما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها ، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها استفزازًا لما كان يسمعها “.14
2 - صدق التجربة الإنسانية – وهذه تتمثل في قبول الفهم للحكمة – يعلل ابن طباطبا ذلك “ لصدق القول فيها ، وما أتت به التجارب منها “ .15
3 - الصدق التاريخي – وذلك “ يتمثل عند اقتصاص خبر أو حكاية أو كلام .....، فانظر إلى استواء هذا الكلام وسهولة مخرجه وتمام معانيه وصدق الحكاية فيه “ .16
4 - الصدق الأخلاقي – فالقدماء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مدحًا وهجاءً ... إلا ما قد احتمل الكذب فيه حكم الشعر من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه ....... فكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص الحق والمخاطبات بالصدق “ . 17
الصدق التصويري – ويسميه ابن طباطبا “ صدق التشبيه “ فعلى الشاعر “ أن يعتمّد الصدق الحق والوفق في تشبيهاته “ . 18
وقد حدّد ابن طباطبا أنحاء للتشبيه ، وكلّما زاد عدد هذه الأنحاء قوي التشبيه وتأكد الصدق فيه .
يرى ابن طباطبا “ أن الشعر إذا تضمنّ صفات صادقة وتشبيها موافقة وأمثالاً مطابقة يصاب حقائقها ارتاحت إليه النفس وقبله الفهم . ويرى أن الشاعر الذي يكرم عنصر الشعر صدقًا هو ذلك الذي “ يعلم أنه نتيجة عقله وثمرة لّبه وصورة علمه “ 19
بل إن ابن طباطبا يدخل المتلقي في مقاييسه ، فالشعر إذا حسنت عبارته ، وكان قائمًا في النفوس والعقول “ يبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرف طبعه وقبله فهمه ... فالنفوس تألف مثل هذه الأشعار ... وترتاح لصدق القول فيها ، وما أتت به التجارب فيها، أو تضمن صفات صادقة .. تصاب حقائقها “ . 20
ويقف عبد القاهر الجرجاني على مسألة الصدق والكذب ، فيتناول بيت حسان – أعلاه – ويقول :
“ فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل وأدب يجب به الفضل ... وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال كما قيل ( كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه ) ، فالالتجاء إلى الخيال والتمثيل واختراع الصور والمبالغة هو كذب ، ونحن هنا لا نقف عند حدود ما يقوم على إثباته البرهان واليقين ... فمن قال (خيره – أي الشعر – أصدقه ) كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصريح واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحب إليه وآثر عنده ، إذ كان ثمره أحلى وأثره أبقى .. ومن قال ( أكذبه ) ذهب إلى أن الصنعة إنما قد باعها وتنشر شعاعها ويتسع ميدانها وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ، ويدعي الحقيقة في أصله التقريب والتمثيل ، وحيث يقصد التلطف والتأويل ، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المديح والذم والوصف والنعت والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد ويبدئ في اختراع الصور ويعيد “ . 21
فالتخييل،أساس الشعر وهو يرفض أن يعتبر في عداد “ الكذب “ ، فمن ضرورة الشعر أن يكون فيه “ فطنة لطيفة وفهم ثابت وغوص شديد “ 22
أما في الأدب العربي الحديث فقد كان الديوانيون من أوائل من اهتموا بعنصر الصدق في الأدب ، وعالجوه في كثير من مقالتهم :
فالمازني يرفض أن تكون وظيفة الشعر مقرونة بالكذب ، وأن أعذبه أكذبه ، فالشعر منظار الحقائق ومفسر لها، وهو يصف أبياتًا قرأها ، فيقول:
“ فما أحلى هذا الكلام وأصدقه ، وما أبعد قائله عن العمل وأدناه إلى المتأخرين ...” 23
يرى المازني أن الصدق وحقيقتة أمران أساسيان لنجاح النص الأدبي ، فلا يكفي أن يصطنع الكاتب العاطفة ويتلبسها ويتخيلها ثم يعبّر عنها ، فكل هذا زيف فقد يخدع زمنًا ، وقد يلقى النجاح .. وقد يبهر المتلقي العابر الذي لا يتلقى بقلبه ووجدانه ، وإنما يتلقى بحواس مسطحه لم تتدرب ولا تريد أن تتدرب “ . 24
وهنا نرى أن المازني يربط بين الأثر الأدبي ولحظة الصدق فيه – وبين وصوله إلى المتلقي واستشرافه فيقول : “ وعلى قدر ما يتطلبه الكشف عن الصدق من حماس وما يوفره عند الناقد من اندفاع مليء بالانفعال فإنّ الكشف عن الزيف والكذب الفني يقود دائمًا إلى القسوة في الحكم “ . 25
ويتناول المازني قصيدة للبحتري فيرى أن الشاعر روحه مراقة على كل بيت ، وأنفاسه مرتفعة من كل لفظ ، وهل الشعر إلا مرآة للقلب ، وإلا مظهر من ظاهر النفس ، وإلا صورة مما ارتسم على لوح الصدر وانتقش في صحيفة الذهن ، وإلا مثال ما ظهر لعالم الحس وبرز لمشهد الشاعر . نعم إنّ الإحساس الجمّ والشعور الملح لا يكفيان ، بل لا بدّ من قوة التأدية وعلو اللسان للترجمة عنهما “. 26
أما العقاد فهو يعالج شعر” الطبع “ ويقول : “ إن خير الشعر المطبوع ما عالج العواطف على اختلافها ، وبثّ الحياة في أجزاء النفس بأجمعها “ 27 ، بل إن صدق الشاعر مع ذاته يجعل الشعر مؤثرًا في تلقيه . 28
ويعود عبد الرحمن شكري إلى هذا المعنى كذلك فيقول : “ وصف الأشياء ليس بشعر إذا لم يكن مقرونًا بعواطف الإنسان وخواطره وذكره وأمانيه وصلات نفسه .وعندما يعلق شكري على أبيات شعرية معينة – يقول فيها :
“ مثل هذا الشعر يصل إلى أعماق النفس ، ويهزّها هزًا . والشعر ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا “. 29
من هنا نرى أن عملية التواصل بين المبدع والمتلقي لها أهميتها البالغة ، بل هي الأساس في تحديد مدى الانفعال أو المشاركة الوجدانية.
من هو القارئ ؟
لا شك أن مفهوم “القارئ “ يتسع ويضيف حسب التكوين الاجتماعي والنفسي والتاريخي للمتلقي ... إن بنيته أو مكوناته تحدد له – إلى حد بعيد – أنساق المعاني التي يتقبلها ... فالقراء مختلفون باختلاف ظروفهم وقدراتهم على الفهم والاستيعاب .
إن منهم الطفل والرجل ، ومنهم الذكر والأنثى ، ومنهم الفقير والغني ، الذكي والغبي ، السليم والمريض . فالمتلقي وهويته و “ ثقافته “ والمضامين والأنماط السائدة في واقعه المعيش تحاور معًا النصّ .. وما يحمله من شحنات ثقافية ونفسية ومضامين وأنماط مشتركة بينها وبينه .
وعلى ذلك فإنّ المهيّأ للتلقي الشعري هو ذلك الأقرب إلى الثقافة العامة – والشعرية منها خاصة ، لأنه يكون واعيًا بالظروف المهيِئة ، ولديه أصلاً استعداد للفهم والتلقي .
وإذا كان المازني قد حذّر من المتلقي العابر 30 الذي لا يتلقى بقلبه ووجدانه ، وإنما يتلقى بحواس مسطحة لم ولا تريد أن تتدرب ، فإنّ ذلك لا يحول دون معالجة الموضوع – معتبرين المتلقي ذلك الذي تعنيه الأفكار السياسية مثلاً ، أو ذاك الذي يتفاعل مع صدام حضاري ، أو يتخذ موقفًا اجتماعيًا ما ، ومن نافلة القول أن هنالك قراء – حتى ولو قلوا - ، فما قيمة القصيدة من غير قارئ إذًا ؟ إنها ستكون كلامًا عابرًا ، فإذا لم يكن هناك جسر تواصل بين المبدع والقارئ فإنّ الانقطاع لا يحقق وصول المرسَلة إلى المستقبِل ، فالمطلوب من قارئ النص أن يحلله – ولو تحليلاً أوليًا – لغويًا ونفسيًا واجتماعيًا . وقد يتصل التحليل إلى مهارات أخرى تتعلق بمجملات ثقافية .
يتوارد التحليل من غير أن يقصده القارئ مباشرة أو ينظمه ، يرد إليه من مكّوناته ، وقد يتنامى له منه موقف – فيه متعة الاكشاف . وسواء أكان المتلقي راضيًا أو غير راضٍ فإنه يمر مرحلة تذوق أولاً وآخرًا . الذوق أولاً لأنه يلتقط النص ومؤشراته ، وآخرًا لأنه مر عبر التحليل ( المجاز ، الصور ، النحو والتركيب ... إلخ) ، ومر عبر الظواهر النفسية أو الاجتماعية في النص .
إذا وصل القارئ إلى هذه المراحل في النص فإنه سيجد نفسه معايشًا شعور المبدع ومتمثلاً عواطفه ، وبالتالي سيجد أن تأثيرًا ما طرأ عليه ، وإذا ارتقت قراءة القارئ وجديته تصبح قراءته ناقدة تحتمل تقييمًا مسؤولاً.
ليس عدد القارئين الجديين ذا أهمية بالغة هنا ، لأن الذوق السائد هو سبيلي في هذه الدراسة ... الذوق السائد الذي يجعل نزار قباني مثلاً “ شاعر الإجماع وشاعر الجميع : لقد جعل الشعر أبسط وأسهل ، وأدرجه في متناول الجميع “ 31 . لكل قارئ نصيبه من النص تبعًا لمزاجه وثقافته ، ولكن ثمةّ عناصر مشتركة لدى الكثير من القراء ، ولا بد أن تكون هناك عناصر مشتركة لدى الكثيرين ما دامت الصلات الاجتماعية والفهم اللغوي تربط بين معظم الناس في المجتمع الواحد ، ولا بد – بناءً على ذلك – أن يكون التشابه في العاطفة والذوق الأدبي ممكنًا .
من الإشارات الأولى التي تبين الصدق في القصيدة ما يتبدى في لغة النص ، وما ينعكس على القارئ من تماثل شخصي ، وما يكتشفه القارئ من صوت خاص للشاعر في قصيدته ؛ وبسبب تأثيرها في نفسه داخليًا أولاً ، أو بطريقة أخرى يعبّر فيها عن المشاركة . وبالطبع فإن الاندهاش أمام النص يعبّر – كذلك – عن الإحساس بصدق القصيدة .
هوامش
سأورد – فيما يلي – هذه الإشارات المصاحبة للنص – التي تعكس صدق الشاعر في قصيدته مواكبًا لإحساس القارئ وانفعاله إزاء هذا الصدق .
الإشارات
* هذا البحث هو محاضرة في مؤتمر النقد الأدبي السابع الذي عقدته جامعة اليرموك في إربد ما بين 20 –22 تموز 1998 ، وكان موضوع المؤتمر : استراتيجيات التلّقي .
1 - خضر ناظم : الأصول المعرفية لنظرية التلقي ، ص 145 .
2 - يقول ابن قتيبة مدللاً على أهمية النسيب لدى الشاعر : “..... فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق لتميل نحوه القلوب ، ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب ... “ (ابن قتيبة : الشعر والشعراء ، ج 1 ، ص 75 ).
3 - أقول “ حيادية ما “ لأن النص قد لا يكون حياديًا ، وذلك إذا وجدت فيه علامات مصاحبة ، كالطباعة المميزة ، اللون ، أو الإهداء ...... ( انظر : الصكر حاتم : كتابة الذات ، ص 26 ) .
4 - عن علاقة الشعر بالاستماع – انظر : العلاق جعفر : الشعر والتلقي ، ص 67 .
5 - النويهي محمد : قضية الشعر الحديث ، ص 104 .
6 - - المعداوي : كلمات في الأدب ، ص 24 ، أنظر كذلك : الشايب أحمد : أصول النقد الأدبي ، ص 19 ، 22 ، 25
7 - فاضل جهاد : أسئلة الشعر ، ص 59
8 - النويهي : محاضرات في عنصر الصدق في الأدب ، ص 70
(9) النويهي : قضية الشعر الجديد ، ص 135 .
(10)ابن رشيق : العمدة ، ج 1 ، ص 80 .
(11) حسان بن ثابت : ديوان حسان ، ص 169 .
(12) الأصفهاني : الأغاني ، ج 5 ، ص 85 – 86 ، ومن الأبيات التى يقصدها بالصدق قول ابن أبي ربيعة :
ليت حظي كلحظة العين منها وكثير منها القليل المهنا
(13) عباس إحسان : تاريخ النقد الأدبي عند العرب ، ص 142-144 .
(14) ابن طباطبا : عيار الشعر ، ص 21 –22
(15) ن.م، ص 125 .
(16) ن. م، ص49.
(17) ن. م، ص 15 .
(18) ن. م، ص 22 –23 .
(19) ن.م، ص129.
( 20) ن. م، ص125 .
(21)الجرجاني عبد القاهر : أسرار البلاغة ، ص 250.
(22)ن . م، ص 253.
(23) العقاد والمازني : الديوان ، ص 62 .
(24)نقلاً عن خورشيد فاروق : مع المازني ، ص 83 .
(25) ن. م، ص 48 .
(26)المازني : الشعر غاياته ووسائطه ، ص 5 .
(27) العقاد عباس : مطالعات ، ص 422 .
(28) أنظر : كفافي عطاء : النزعة النفسية في منهج العقاد ، ص 156.
(29)شكري عبد الرحمن : المجموعة الكاملة لأعمال شكري النثرية ، ص 586.
(30 أنظر الملاحظة 24
(31) درويش محمود : صحيفة فصل المقال ، عدد 7/5/ 1998


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.