يمثل الغموض في النص الأدبي عاملاً مهماً للتأثير في المتلقي لما يحمله من مزايا تشحذ عقله وتدفعه للتفكير والمشاركة الإيجابية الفعالة.. وبداية نتوقف أمام ما تعنيه لفظة «الغموض» في اللغة، وذلك لكونها نقطة مهمة لازمة في توضيح هذا الأمر كما يجب التفرقة بين لفظتين تبدوان متشابهتين وهما (الغموض والإبهام).الفنان لا يستطيع أن يفكر بطريقة الفلاسفة تفكيراً يعتمد على التحليل والتفكير المجرد، وقد تحدث الباحث عن طبيعة الشعر في التمهيد واختلافه عن غيره في الطبيعة الخاصة التي يعتمدها منهجاً فليس من وظيفته أن يقدم حقائق مباشرة، فنحن لا «نستطيع الفصل بين الفكر والشعر فصلاً قاطعاً بتجريد الشعر من البعد الفكري، صحيح أن الفكر في الشعر ينبغي أن يكون أشبه بالومض من خلال الكلام الشعري، وليس أفكاراً أو نظريات تسرد وإلا لم يكن شعراً وإنما (هو) نظم، لكن هذا لا يعني مجافاة أي من الشعر والفكر للآخر»(36). ولعل هذا الأمر هو ما دفع الدكتور عبدالرحمن القاعود إلى القول بأنه «قبل العصر العباسي لم يشتك متلقو الشعر وأكثرهم سماعاً آنذاك من صعوبته أو غموضه»(37)، ويرى الباحث أن ذلك يرجع إلى أن الثقافة قبل هذا العصر كانت ذات نسق واحد هو الذي عرفته الثقافة العربية التي كانت تسير عليه حتى هذا العصر، أما في العصر العباسي فقد أخذت نسقاً مخالفاً لذلك بدخول أنساق ثقافية متعددة من الروافد التي وردت إلى الثقافة العربية من خلال شيوع الترجمة مثل ترجمة كتاب الشعر لأرسطو، والعلوم الفلسفية، وكذلك الصراع الثقافي الفكري الذي اشتعل بين الفرق الإسلامية في هذا العصر من المعتزلة والسنة، وغيرهما من الفرق و«هذا المناخ الثقافي الملون المعمق بتلك الثقافات الواردة، والثقافات العربية المتفاعلة في ذاتها ومع غيرها كانت له تأثيراته في الشعر العربي العباسي»(38). وتعد الإشارة إحدى آليات الغموض التي يلجأ إليها الشاعر في شعرة لإكسابه رونقاً وجمالاً، ويرى ريتشاردز أنها أهم وسيلة في الشعر لجعله غير مباشر فيقول: «إن الإشارة هي أبرز وسيلة يستخدم بها الشعر عناصر وأشكالاً من التجربة غير لازمة للحياة وإنما ينبغي اكتسابها على نحو خاص، والصعوبة التي تثيرها الإشارة ليست إلا مثلاً»(39)، ويتفق روز غريّب مع ريتشاردز في موقفه من ضرورة الإشارة وأهميتها فيقول: «والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر»(40). ويفرق ريتشاردز بين الإشارات التي تتحقق من خلالها جودة الشعر؛ فيحكم بأن «الإشارات التي يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة هي فقط التي يتحقق فيها نظام خاص وعلاقات بالغة التعقيد بحيث إنها تطابق كيفية تركيب الأشياء في الواقع، وإن معظم الإشارات في الشعر لا يتحقق فيها هذا النوع من النظام»(41)، كذلك تؤدي الإشارة دوراً كبيراً في ارتفاع درجة الغموض حال تفاعلها مع عناصر أخرى في داخل العمل الفني «فغموض المدلول والدور الذي تلعبه العناصر العاطفية يعقدان بنية أبسط صورة من صور الجوانب التي يتكون منها المعنى وأوضحها»(42). وإن كان للأستاذ أحمد أمين موقف آخر إذ يرى أن غموض المعنى ينشأ من غموض الفكر وعدم وضوح المعنى، أي أن ما يعده الدكتور عبدالرحمن القاعود وهو الغموض في الفكر لازماً في الشعر يعتبره الأستاذ أحمد أمين نقيصة في الشاعر لعدم وضوح الفكرة عنده إذ يقول: «وما يحدث من الغموض في نقل المعاني ناشئ غالباً من غموض الفكر وعدم وضوح المعاني في ذهن الكاتب أو عدم محاولته الإيضاح. أما الغموض في نقل العواطف فناشئ من صعوبة التعبير عن العواطف نفسها، لأن اللغة تحاول التعبير عن العواطف بترجمة العواطف أولاً إلى كلمات فكرية وعقلية»(43). ولعل ما يقصده الأستاذ أحمد أمين هنا هو الغموض التام الذي يستغلق معه التواصل بين المتلقي والعمل الفني، ومرجع ذلك إلى عدم وضوح الفكرة، أو أن الشاعر هنا لم يراعِ المستوى الثقافي للجمهور مراعاة جيدة فخاطبهم بلغة ثقافية بعيدة عن ذهنهم وهو ما حذر منه الدكتور عبدالرحمن القاعود في مقدمة كتابه، فنسبة من الغموض لازمة في الفن لتحقيق درجة من اللذة في العمل، وهو ما أثبتته الدراسة من خلال أقوال النقاد، ويرتفع الغموض في نصوص المتعة عنه في نصوص اللذة لكنه في هذا لا يصل إلى حد الإبهام التام الذي يستغلق معه الفهم. 1 انظر لسان العرب: مادة غمض. الجزء:7، ص:991. 2 Oxford Word power: University press1999:pp23. 3 Oxford Word power: University press1999:pp281 4 انظر لسان العرب:مادة بهم، جزء21، ص:65. 5 سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة، 6691، ج1، ص:84. 6 انظر هذا الخبر: ابن هشام (ت312: السيرة النبوية، تحقيق مؤسسة الهدى، دار التقوى 9991، ص:991، والخبر أكبر من هذا المذكور واللفظ هنا للدكتور بكري شيخ أمين. وبكري شيخ أمين: البلاغة العربية في ثوبها الجديد (علم البديع)، دار العلم للملايين، بيروت 2991، ص:78. 7 سورة البقرة: الآيتان: 1 2. 8 كمال أبو ديب: في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 7891، ص:231. 9 سورة الروم: الآية: 55. 01 استن وارين ورينيه ويليك: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 2791، ص:92. 11 أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة د. كمال بشر، ط الثانية عشرة، دار غريب، د. ت، ص:801 901. 21 Empson, W: Seven types of Ambiguity, London 1930. P. 19 نقلاً عن حلمي خليل: العربية والغموض، دار المعرفة الجامعية، ط1، الإسكندرية 8891، ص: 62. 31 نقلاً عن د.إبراهيم سنجلاوي: موقف النقاد العرب من الغموض (دراسة مقارنة)، مجلة عالم الفكر، «أكتوبر نوفمبر، ديسمبر7891» ص: 502. 41 د. حلمي خليل: مرجع سابق، ص: 82. 51 انظر.Empson: Seven Types of Ambiguity, P. 41, 80, 104,127,160,173, 184, 207, 231. نقلاً عن حلمي خليل: العربية والغموض، ص:82 92. 61 ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، ترجمة الدكتور مصطفى بدوي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 3691، ص013. 71 روز غريب: النقد الجمالي وأثره في النقد العربي، دار الفكر اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية3891، ص56. موقف فاليري هنا يرى فيه أن الوضوح يفسد الفن إفساداً ويقربه من الابتذال، انظر هذا عند د. عبدالرحمن محمد القاعود: الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة 2002، العدد 972، ص:9. 81 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:9. 91 أروين أدمان: الفنون والإنسان، ترجمة الدكتور مصطفى حبيب، مكتبة الأسرة1002، ص82. 02 دريد يحيى الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، دار الذاكرة، ط1، حمص 1991، ص 701. 12 دريد يحيى الخواجة: المرجع السابق، ص: 56 66. 22 جورج سانتيانا: مرجع سابق، ص: 67. 32 أرسطو: كتاب أرسطو طاليس في الشعر (نقل أبي بشر متى بن يونس القنائي من السرياني إلى العربي)، حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية الدكتور شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب3991، ص76. 42 رولان بارت: لذة النص، ترجمة محمد خير البقاعي، المجلس الأعلى للثقافة 8991، ص92. 52 ريتشاردز:مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص632. 62 أحمد أمين: النقد الأدبي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة2591، ص:76. 72 روز غريّب: مرجع سابق، ص:89. 82 روز غريّب: مرجع سابق، ص98. 92 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:9. 03 روز غريّب: مرجع سابق، ص:89. 13 ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:441. 23 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:52. 33 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:72. 43 ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:901. 53 روز غريّب: مرجع سابق، ص:75. 63 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:72. 73 د.عبدالرحمن محمد القاعود: مرجع سابق، ص:91. 83 د.عبدالرحمن محمد القاعود:مرجع سابق، ص:91. 93 ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص482. 04 روز غريّب: مرجع سابق، ص031. 14 ريتشاردز: مبادئ النقد الأدبي، مرجع سابق، ص:543. 24 ستيفن أولمان: مرجع سابق، ص:511. 34 أحمد أمين: مرجع سابق، ص85.