اللفظ و المعنى أو المضمون والشكل - من المواضيع التي بُحثت على مدى العصور الأدبية بعضهم فصل كلاً منهما ، وبعضهم رأى التلاصق بينهما كالروح والجسد [1]. والأدب - كما نعلم - يتبين بالأسلوب ، ففي الأسلوب يتم خلق الفكرة ، حيث تلبس لباسها الملائم ، وفيه جهد يبذله الأديب وهو يحاول أن يربط الأفكار والألفاظ .[2] لا شك أن اللغة هي وعاء الأفكار [3] ، وكلما كانت مطابقة للفكرة نجح الكاتب في إيصالها ، ولغتنا العربية لغة غنية المفردات ، فيها الكثير من المترادفات والمشتركات ( كلمة لها أكثر من مدلول ) وفيها الأضداد ( كلمة لها معنى ونقيضه ) ، وفيها قدرة عظيمة على الاشتقاق والنحت والقياس[4] .... ولغة الأدب الجاهلية متشابهة برغم كثرة المفردات [5]، وأفكارها محدودة ، لأنه ليست هناك فروق ظاهرة في كثير من المترادفات. [6] ويرى البعض أن الكلمة “ جاهلية “ كانت مطابقة لواقع البدوي ، فقد حاول مصطفى ناصف أن يربط الكلمات الجاهلية بالحياة ، وأظهر أن فاعلية اللغة أو تفاعل كلماتها هو الذي يخلق المعنى ويبرز معلمه ، وهو يتابع جمالية اللغة حتى يوصلها إلى أصول أسطورية ورمزية [7]، وعند تمازج العرب بالشعوب الأخرى رأينا قدرة العربية على استيعاب الكلمات العلمية والفنية [8] ، ورأينا الجملة العربية تخضع للمنطق ، فالنثر اتجه إلى الأدب الرمزي ككتاب ( كليلة ودمنة ) ، وفيه نقد للحكام ، وإلى الاتجاه الفلسفي الذي يجعل من الفلسفة العربية جسرًا موصلاً لعصر النهضة ، وإلى الأدب الشعبي كما في ألف ليلة وليلة ، ولا ننكر أسلوب المحسنات اللفظية في المقامات والرسائل الذي كان تدبيجيًا يماثل شغف الناس بالتوشية في مأكلهم ولباسهم ، وقد جرى ما يوازي ذلك في الشعر العباسي في التركيز على المضمون آنًا ، وعلى الشكل آنًا آخر. ويذهب أحمد أمين إلى أن الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر جنى على الأدب العربي ، فظلت الأفكار تدور حول القديم ، وظلت اللغة جامدة .....[9] ونظرة إلى نماذج من الشعر العباسي فإننا نجد كثيرًا من الوقوف على الأطلال ، أو استخدام الرموز القديمة ، فهذا مهيار الديلمي[10] - وهو شاعر فارسي - يقول : يا نداماي بسلع هل أرى ذلك المغبق والمصطبحا فهو يستعمل ( سلع ) - وهو مكان في الحجاز[11] ، كما يستعمل ( مغبق ) و ( مصطبح ) شراب المساء ومكان شراب الصباح ، وهما كلمتان مستمدتان من الأدب الجاهلي . إلا أن أمين غالى في إظهار جانب التقليد ، ذلك لأن هناك من أظهر التجديد اللغوي [12]، فأبو تمام قد استعمل المجاز ، وعلى سبيل المثال يذكر “ ماء الملام “ [13]، وعندما ينكرون عليه هذا الاستعمال يسألهم : “ إيتوني بجناح الذل “ ...[14] ومن الجدير أن نذكر أن أبا تمام من أبرز الشعراء العرب الذين ضمنوا شعر السابقين وتمثلوه في أشعارهم على طريقة إيليوت فيما بعد .[15] أما في عصور ما سماها المستشرقون - “ الانحطاط “ فقد برزت المحسنات البديعية على حساب المعنى ، فالشكل كان المقرِّر ، والمعنى غالبًا ما كان مجترًّا في بداية العصر الحديث [16]. ومع ظهور المطبعة وبتأثير الحملة الفرنسية عاد العرب إلى دراسة مصادر الأدب القديم ، وتأثروا بها ، فكانت المرحلة الكلاسية أو الكلاسية الجديدة . وبعد الاطلاع على روافد الشعر العربي وتياراته رأينا من اتجه الاتجاه البرناسي [17] - الذي له أساس - حسب رأيي - في ما ذهب إليه الجاحظ من أن المعاني مطروحة في الطريق ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتمييز اللفظ ، وإنما الشعر صناعة ، وجنس من التصوير[18] ، ومنهم من يمزج الكلمات المألوفة بغير المألوفة ويرون رأي أرسطو أن فن الشعر مزيج من الألفاظ المألوفة وغير المألوفة ، والتغير أو العدول عن الألفاظ الواضحة الأصلية إلى غيرها يعد تجديدًا في اللغة [19] ، ومنهم من يكون غامضًا ، ولعل سبب الغموض أن الألفاظ غريبة ، أو مشتركة المعنى ، وهذا يقتضي تبسيط اللغة ، وخاصة إذا كان المعنى مبنيًا على مقدمات غير معلومة للقارئ [20]. وأصحاب مدرسة ( شعر ) اللبنانية الذين قلدوا الشعر الأوروبي بكل (موداته ) قدموا لنا محاولات تركيبية جديدة لنظام الجملة وطبيعة اللفظة فيها [21]، فالشعر هنا صور ..... ويحدد أدونيس الكلمة فيها - أنها تزخر بأكثر مما تعد ،وتشير إلى أكثر مما تقول [22]. فالشعر عنده ثورة ، والكلمة معول هدم يجب أن تفرغ من الماضي ، وهو يعني بثورة اللغة أن تصبح الكلمة - وبالتالي الكتابة قوة إبداع وتغير تضع العربي في مناخ البحث والتساؤل والتطلع والعمل. [23] والنثر – وخاصة القصة والمسرحية – يتلاقى في اتجاهاته العديدة هو والشعر من حيث الغموض ، فالكاتب يعمد إلى أن يقفز بدفعة واحدة إلى حيث يريد ، وعندما يتشبث به القارئ متوسلاً أن يصاحبه يخلّفه في الطريق ، حيث يبحث عنه ، أو يعزف عنه ، وغالبًا ما يعزف عنه . وهنالك قضية أخرى ذات أهمية أخرى في لغتنا ، وهي الفصحى والعامية ، فكثيرًا ما اتهم دعاة العامية بالضعف أو بالدعوة إلى الشعوبية[24] ، ونحن اليوم في سبيل لغة وسطى ، بسبب انتشار التعليم ووسائل الإعلام ، بالإضافة إلى أن الفصحى ذاتها قد طرأ فيها تغيير كبير - في هندسة الجملة ، وذلك بتأثير لغات أخرى ، فالفصحى والعامية في صراع خفي ، وربما يكون أن يصب هذا في مصلحة العرب ، واللغة يجب أن تتطور حتى لا تصبح مجدبة عقيمة . ولكن الأولية تبقى للفصحى . و اهتماما بدورها نرى الكثيرين ينقحون أعمالهم الأدبية ، فإذا ما استعمل كاتب كلمة عامية فإنه يحاول أن يغيرها إلى كلمة أقرب إلى اللغة التي يكتب بها أعلام الأدب القدماء ، وهو يحاول أن يبتعد عن لهجة يقبل عليها الأقلاء ، وثمة الكثير من شعراء الحداثة يمازجون بين الفصحى والعامية ، وربما بتأثير إيليوت القائل إن العلاقة الصحيحة بين الألفاظ هي التي تخلق التناسق والحيوية [25]، ويمكننا اعتبار هذا تجديدًا لغويًا ضروريًا في كل عصر وفي كل لغة . [1] - انظر مثلا مدكور : في اللغة والأدب ص 16 ، عباس : فن الشعر ص 191 ، طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 201 ، ونجد :في النقد القديم من أنصار تقديم اللفظ على المعنى : ابن خلدون ، المقدمة ص 856 ؛ ومن أنصار تقديم المعنى على اللفظ ابن رشيق : العمدة ج 1ص 28 ، العسكري : كتاب سر الصناعتين ص 55 .....ويرى الجرجاني أن هناك ما هو أكثر من اللفظ والمعنى كبناء الجملة والذوق : دلائل الإعجاز ص 40 ، 70 ، 307 ، 320 . [2] - انظر - الشايب : الأسلوب ص 67 ، وما بعدها ، وكذلك الزيات : دفاع عن البلاغة ص 62 وما بعدها . [3] - في اليونانية تعني logos العقل واللغة. [4] - انظر- أنيس : من أسرار اللغة ص 7 . [5] - انظر- عبود : الرؤوس ص 28 [6] - نظرة في كتاب الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف فستجد أن ليس هناك فروق كثيرة وجوهرية مثلا في أسماء الخمر . [7] - ناصف - نظرية المعنى ، ص 18 ص 122. [8] - انظر كامل - دلالة الألفاظ العربية وتطورها ، ص 14 وما بعدها انظر- زيدان : اللغة العربية كائن حي ، ص 48 وما بعدها . [9] - انظر - أمين : فيض الخاطر (ج 2) ص238 . [10] - انظر - ضيف : الفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 371 [11] - انظر مادة ( سلع ) في معجم البلدان لياقوت. [12] - على سبيل المثال - هدارة : اتجاهات الشعر العربي ص 535 – 565 . [13] - أورد هذه القصة عز الدين إسماعيل في كتابه : الأسس الجمالية في النقد الأدبي ص 186 ، ولكني لم أجد لهذه القصة مصدرًا قديمًا ، ففي أخبار أبي تمام للصولي ص 37 نجد القصة في معرض دفاع المؤلف عن الشاعر، وليس الشاعر عن نفسه ...أما البيت فهو : لا تستقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي ( ديوان أبي تمام ص 10 ) [14] - جزء من آية رقم 24 في سورة الإسراء ، والمقصود بهذا الرد أن القرآن كان قد استعمل الاستعارة ، مما يجيز الشاعر أن يفعل. [15] - انظر مثلا رمز أبي كرب ورمز مية وغيلان في ديوان أبي تمام ص 15) ص 6 . [16] - انظر - الموجز في الأدب العربي ( أدب الانحطاط والنهضة ) . [17] - انظر عن البرناسية في - عباس : فن الشعر ، ص 58 ، الزيات : دفاع عن البلاغة ص 131 . [18] - انظر عن شرح عبارة الجاحظ في كتاب الحاوي : نماذج في النقد الأدبي ص 719 . [19] - طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 158 . [20] - ن . م ، ص 157 . [21] - انظر مثلا : مجلة شعر عدد 23 – 24 ص 17 ص 31 . [22] - انظر - أدونيس : زمن الشعر ص 19 . [23] - ن . م ص 45 ، ص 199 . [24] - انظر - بنت الشاطئ : لغتنا والحياة ص 94 ، المبارك : عبقرية اللغة العربية ص 7 . [25]- انظر- درو : الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ، ص 12 ، وانظر كذلك اختلاف تقييم كلمة (أخدع) في كتاب- طبانة : قضايا النقد الأدبي ص 23 .