إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    الدوري الاوروبي .. ليفركوزن يواصل تحقيق الفوز    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    لملس يفاجئ الجميع: الانتقالي سيعيدنا إلى أحضان صنعاء    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    تضامن حضرموت يحلق بجاره الشعب إلى نهائي البطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت بفوزه على سيئون    مجلس وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل يناقش عدداً من القضايا المدرجة في جدول أعماله    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    المنخفض الجوي في اليمن يلحق الضرر ب5 آلاف أسرة نازحة جراء المنخفض الجوي باليمن    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    توضيح من أمن عدن بشأن مطاردة ناشط موالٍ للانتقالي    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    سفاح يثير الرعب في عدن: جرائم مروعة ودعوات للقبض عليه    خطوة قوية للبنك المركزي في عدن.. بتعاون مع دولة عربية شقيقة    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية ديكارت: وموقف طه حسين من التراث اليمني
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 22 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
هذا ولم يطبق ديكارت منهجه في العلوم الإنسانية، وإنما في العلوم البحتة لم يحاول ديكارت تطبيق منهجه هذا على علم التاريخ، ولا على علم الآداب، وكل العلوم الحديثة، وإنما على العلوم البحتة والرياضيات فقط، حتى لا تنزلق في متاهات عقائدية،والدليل هذه الخطوات الأربع التي رسمها لأي باحث:
1- لا تقبل شيئاً، أي شيء على أنه صحيح إلا بعد أن تدرك في وضوح أنه صحيح.
2- جزئ كل شيء (مشكل) تواجهه إلى أكبر عدد من الأجزاء استطعت تقسيمه إليه، ودعت إليه الحاجة، حتى تصل إلى حل السر.
3- نظم تفكيرك بادئاً بأسهل الموضوعات وأبسطها، مرتقياً بالتدريج إلى الصعب ثم الأصعب.
4- كون دائماً لما تحصل عليه إحصاءات عديدة، وجداول بيانية شاملة لكي تتأكد أنه لم يفتك شيء.
إذن فقد كان ديكارت مريداً من مذهبه هذا الخير لبلده والتقدم العلمي والمادي، والنهوض من حالة التخلف ونفض غبار الماضي لا الهدم والتخريب وإفساد كل ما هو جميل أو لتشويه وتحقير، ومسخ تراث أمة كما فعل طه حسين!!
وبما أن ديكارت قد جاء في ظل ظروف غير متطورة ولا حضارة ناشئة عن تطور محلي أصلي، لذلك فقد كان عليه أن يقدم نظريته هذه مع مبرراتها وبراهينها المقنعة لأكبر عدد ممكن من العلماء والمثقفين الفرنسيين.
وقد ساعده العقل الأوروبي آنذاك على فلسفة طريقته هذه السلوكية وبلورتها، حتى يسهل تقبلها من قبل المجتمع الذي كان يعيش على الخرافات والأساطير التي تغذيها الكنيسة.
(وكان لهذا التنظيم الفضل الكبير جداً فيما جاء بعده مرتباً عليه، ناهجاً نهجه في ترتيب النتائج على المقدمات ورصدها في قوائم توضع بين أيدي الأجيال اللاحقة، لتكون أساس عملها في رفع البناء المادي الذي بناه هذا التقدم الأوروبي إلى اليوم.
أخذت أوروبا تزحف أول زحفها إلى السلوك العلمي الذي سلكه المشرق العربي من بدء تحضره.
والبهبيتي يعتبر أن الشك انتقل إلى أوروبا من العرب، ويستدل على ذلك بالجاحظ الذي يعتبر بياناً شافياً كافياً لأنواع الشك. وكذلك كاتب المأمون الذي صفع أحد المجادلين وقال له: ما وقع لك ليس إلا وهماً. فكأنني مسستك بالطيب. وكان يمثل طائفة من هؤلاء.
وكان التجريب باب السلوك العلمي في تخليص التقدم المادي. ونحن نقرأ خبراً عن الرجل الذي كلفه المعتمد العباسي بكشف السد الذي بناه (ذو القرنين) فأبى أن يعود إلا ومعه قشور من حديد ذلك السد حتى يراه الخليفة، ويتحقق على هدى من فحص العلماء له أن ترجمانه سلام قد وجد السد المصنوع من حديد يغاير ما هو معروف من أنواعه في زمان الخليفة!
وبما أن البهبيتي كان زميل طه حسين، ويعرفه جيداً، ويعرف مدى فشله، وأنه كان يسلك سلوكاً غير لائق، ويرتبط بعلاقات مشبوهة مع دوائر أجنبية... إلخ.
فإنا نقتبس بعضاً مما أورده عنه مثل: فإذا نما به الزمن فصار في أمس الحاجة إلى ما يقيم به لنفسه مكاناً في الجامعة، ويذهب به مذهب الشهرة التي كان دائماً لها طالباً في غير حق. مستزيداً بها من قوة فاعليته في الحياة العامة من غير كفاية. فإن الانتقال إلى مهاجمة مقدسات أمة لا يمثل عنده أكثر من انتقاله من خطوة مهاجمة الرجال في سبيل تحصيل الشهرة إلى مهاجمة المقدسات، والمؤسسات القومية في هذا السبيل.
وهذا ما كان يخشاه ديكارت على قومه، وحذرهم من الوقوع فيه، عندما وضع أمامهم منهجه للبناء والتطور. وقد جاءت بناء على فهم وبصيرة وحرص على مصلحة المجتمع لا كما فعل هذا المقلد الغبي!! الساعي وراء الشهرة حتى ولو هدم كل أسس حضارة قومه، وحطم قيم مجتمعه!!
ولم يكتف البهبيتي بنقده اللاذع هذا بل يذهب إلى أكثر منه فيقول: (لم يكن طه حسين يوم راح يترنم باسم منهج ديكارت يعرف شيئاً حقيقياً عن منهج ديكارت، ولم يكن يعرف شيئاً عن أنواع الشك الجاحظي. وهو الذي كان كثير التشدق والتشبه بالجاحظ في أسلوبه، ولو بعث الجاحظ فسمع هذا الهراء، ورأى الأسلوب [القشي] والمعنى الرخيص الضحل، والاضطراب المنطقي لكف عن سخريته الرائعة، ونظر لجيلنا نظرة لا أظن إنساناً يقدر على وصفها غير الجاحظ نفسه.
أما الدكتور حسين مروة فقد تناول الموضوع بعلمية وشمولية نادرة لا لأنه مفكر عربي تقدمي، ولكن لأنه فيلسوف عالم بالنظريات الحديثة أبعادها وأهدافها. فقال تحت عنوان طه حسين والشك الديكارتي.
كما يتناول موقف طه حسين من التراث اليمني وشعر العرب في عصر ما قبل الإسلام.
يصرح طه حسين أنه يريد في دراسته الأدب الجاهلي أن يصطنع المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء..) وهو أي (طه حسين) يقرر القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل بحثه خالي الذهن مما قبل فيه خلواً تاماً (......) فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي وتاريخه بالبحث والاستقصاء، ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه، وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي نأخذ أيدينا وأرجلنا ورؤوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة الفعلية الحرة أيضاً.
ولأن مروة فيلسوف وعالم يحترم نفسه فقد تناول هذا النص بنقد هادئ لكن وقعه على هذا الطفيلي شديد. قال مروة: من الملحوظ أن طه حسين يأخذ بالجانب الشكلي من مذهب الشك عند ديكارت.
ويبدو لي أنه يأخذ به مجرداً من مضمونه الفلسفي الديكارتي أو مفرغاً من هذا المضمون، ذلك أن مذهب الشك مبني عند ديكارت أولاً على مفهومه الخاص لموضوع الفلسفة، وثانياً على اتجاهه العقلاني في نظرية المعرفة.
فمن الوجهة الأولى كان ديكارت يرى أن موضوع الفلسفة هو الطبيعة والإنسان ليس غير. أي أن فكرة (الله) لم تكن في رأيه حين صاغ مذهبه الشكي داخلة في موضوع الفلسفة.
من هنا جاء قوله بضرورة تطهير وعي الإنسان من كل عقيدة سابقة. وهو القول الذي ب(الشك) متصاعداً به حتى القول بوجوب (الشك) في كل المعارف التي تكدست في وعي الإنسان خلال تاريخه الطويل. ومن الوجهة الثانية، أي من حيث الاتجاه العقلاني في نظرية المعرفة.
يرى ديكارت كذلك وجوب تطهير الوعي البشري من المعارف التي يصل إليه بطريق الحواس. ففي مذهبه هنا أن كل صفة للأشياء نعرفها بطريق الحواس ليست معرفة صحيحة. وهو يبني ذلك على نظريته المعرفية العقلانية التي ترفض اعتماد الحس في تحصيل المعرفة لأنه يرفض كون المعرفة تبدأ من الحواس.
أي كوننا نصل إلى الحقيقة بالتحرك ابتداءً من الحس. لننتهي إلى البدهيات وفقاً لمذهب بيكون.
ويضيف: أن ديكارت يعكس الأمر قائلاً إن التحرك إلى الحقيقة (المعرفة) تبدأ من العقل نفسه أو من الإشراق الطبيعي للعقل . فبداية المعرفة عنده إذن هي الحدس. أي ملاحظة العقل البدهيات القائمة في روح الإنسان. إذ كان ديكارت ينظر إلى الروح كماهية بذاتها مستقلة عن الجسم الذي هو أيضاً (ماهية) بذاته عنده.
بناء على هذا الأساس الفلسفي لمذهب (الشك) عند ديكارت ينبغي أن نتساءل: هل أخذ طه حسين بهذا المذهب بكل مقوماته الفلسفية تلك؟ أي هل أخذ به كمنهج فلسفي، أم نظر إليه نظرة تبسيطية فلم يستطع أن يرى منه غير جانبه الشكلي وغاب عنه الجانب الجوهري. أي أنه اكتفى من المذهب بالدلالة الذهنية الأولية لمقولة (الشك) بمعزل عن مستلزماتها الفلسفية الديكارتية في نظرية المعرفة؟.
وهنا يرى د/ مروة أنه لابد من النظر في موقف طه حسين من زاويتين ونحللها تحليلاً علمياً فيقول: أمام هذا التساؤل نرى أن ننظر من جانبين من المسألة: أولهما يتعلق بالموقف العلمي من مذهب الشك الديكارتي نفسه.
وثانيهما: يتعلق بالإجابة عن التساؤل هذا. أي باستخلاص نظرة طه لمي نظر كلمتي اً، أي أقعدته على وسادة، وربما قالوا: وثبه وسادة إذا أطرحها له حسين إلى المذهب من خلال ممارسته التطبيقية.
في الجانب الأول يقف التحليل العلمي موقف الرفض من المقولات الفلسفية التي يقوم عليها مذهب ديكارت في (الشك). ذلك بناءً على الملاحظات الآتية:
1- أن هذا المذهب يستند في الأساس إلى تلك المقولة الفلسفية المتمثلة بمعادلة ديكارت الشهيرة: (أنا أفكر إذن أنا موجود) إن هذه المقولة تضع ديكارت مباشرة في قلب المعسكر المثالي، الذي يثبت الوجود بالفكر. أي ينفي موضوعية الوجود، أي استقلاليته عن الوعي (الفكر) وأوليته بالقياس إلى الوعي.
2- والمفكر مروة يعتقد جازماً استحالة تطبيق هذه النظرية في الواقع، لأنها تقوم على دعامة إلغاء منظومة المعارف المكتسبة والمخزونة في ذاكرة الإنسان، فيقول: إن هذا المذهب يفرض على وعي الإنسان ما ليس يمكن فرضه عليه بحال إطلاقاً.. يفرض عليه إلغاء دور المعرفة الحسية في عملية تحصيل الحقيقة. إن هذا الدور أمر موضوعي لا يمكن إلغاؤه بإرادة ذاتية، وإن اتخذت هذه الإرادة شكل مقولة فلسفية أو استندت إلى مقولة فلسفية.
3- أن هذا المذهب يلغي كل ما اكتسبه الوعي البشري (الإنساني) على مدى تأريخه الطويل السحيق من معارف، إن هذا الإلغاء مستحيل؛ لأن تلك المعارف أصبحت من المكونات التاريخية للوعي. أي أنها أصبحت تتمتع بصفة الواقع التاريخي الموضوعي، الذي يستحيل إلغاؤه من الوعي حتى بإرادة الوعي نفسه.
4- أن هذا المذهب يقضي بإعادة الوعي الإنساني بعد (تنظيفه من مكتسباته المعرفية التاريخية إلى نقطة الصفر.. أي أن يرجع إلى طفولته التي تجاوزها منذ آلاف السنين. فعلى الوعي إذن من هذه الحالة إذا افترض إمكانها أن يقضي آلافاً من السنين جديدة لكي يبلغ المرحلة المتطورة التي كان قد بلغها في عصر ديكارت، وهذا الأمر (اللا تاريخي) مستحيل موضوعياً بوجه مطلق. والمفكر مروة لا يعتبر رفض مقولات طه حسين الهرطقية المبنية على فهمه الناقص لفحوى مذهب ديكارت التسليم بصحة ما نسب إلى مرحلة ما قبل الإسلام من أدب وشعر، وإنما هي بحاجة إلى غربلة وتمحيص كونها موجودة بالفعل. وهي نتاج معارف أجيال عديدة سابقة: (إن رفض هذه المقولات الديكارتية التي يقوم عليها مذهب الشك الديكارتي لا يعني بالضرورة أن مكتسبات الوعي المعرفية التاريخية صحيحة بصورة مطلقة. فإن صحة تلك المكتسبات أو خطأها كلياً أو جزئياً مسألة أخرى، يجري البحث فيها على صعيد آخر.
وهو هنا يرغب في عرض وجهة النظر العلمية حيال قضية البحث هذه فيقول:
(إن التحليل المادي التاريخي ينظر إلى مكتسبات الوعي المعرفية خلال حركة تطوره الطويلة الأمد أنها أشكال مرحلية للوعي في مراحل تطوره التاريخي كانعكاسات مباشرة وغير مباشرة لأشكال تطور الواقع الاجتماعي في مراحله المضيئة كذلك. وليس بالضرورة أن تكون هذه الانعكاسات مطابقة لذلك الواقع نفسه أولاً، ولا أن تكون مطابقة لحقائق الكون الموضوعية والمطلقة ثانياً. بل قد يكثر التخالف فيها بين الواقع المعرفي للوعي والواقع الموضوعي للطبيعة والمجتمع.
وعن سطحية طه حسين وسوء فهمه بشكل عام ولمذهب ديكارت (الشك). بالذات قال مروة: وفي الجانب الثاني، أي ما يتعلق بالموقف التطبيقي من مذهب الشك الديكارتي في دراسة طه حسين للأدب الجاهلي يبدو لنا بوضوح أن مقولة الشك في هذه الدراسة مأخوذة من جانبها الشكلي المحض. أي دون استيعاب أساسها الفلسفي المعرفي في مذهب ديكارت.
وعن عدم فهمه لمنهج البحث العلمي يقول: وإذا تجاوزنا هذا الجانب من سابقة طه حسين، برزت لنا جوانبها الأخرى بمثابة ثغرات في منهجيته. فهو من جهة قد استسلم لهاجس الشك في صحة الشعر الجاهلي إلى حد كاد يبدو عنده الشك سبباً للبحث، بدل أن يكون نتيجة من نتائج منطق البحث، وهو من جهة أخرى قد بالغ في منهجة الشك إلى حد أبعده غالباً عما تشترطه مناهج البحث العلمي الصحيح من ضرورة النظر التاريخي إلى الواقع الذي يتناوله البحث.
بمعنى أنه لفرط ما بالغ في التزام الشك بصحة نسب الشعر الجاهلي حرصاً منه على (المنهج) قد أفرغ هذا الشعر كله من كل دلالاته التاريخية المتصلة بعصر ما قبل الإسلام، حتى إن القليل جداً من الأدب الجاهلي الصحيح أصبح عنده لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي.
وبما أنه قد أساء استخدام مذهب الشك، ولم يفهم كيف ومتى وأين يستعمله؟ فإنه قبل ذلك قد أساء فهم تاريخ وتراث الأمة العظيمة التي يزعم الانتماء إليها !! ولم يفهم أو لم يرد أن يتقيد بالقواعد والأسس التي أجمع عليها علماؤها ومفكروها، وقام بتخريب تلك المقومات والتنكر لها.
فمقولة: (الشعر ديوان العرب) صارت كقانون يحتكم إليه الأدباء العرب والمفكرون والمفسرون والمحدثون. والخلفاء منهم والعاديون منذ عصر صدر الإسلام. وكان المفسرون يلجئون إلى ديوان العرب هذا ليفسروا بعض الآيات أو يعرفوا معاني بعض الكلمات، إلا أن طه حسين جاء وضرب بهذا الإجماع عرض الحائط، ونسف هذا الأساس المتين وغيره، ودعا إلى العمل بعكس المقولة!! أطلق حكمه القاطع بأن الاعتماد في معرفة العصر الجاهلي لا على هذا الشعر المنسوب إليه، بل على القرآن من ناحية والتاريخ،والأساطير من ناحية أخرى وأنه لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما ينبغي أن نستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله.
ويقرر مروة: أن أحكاماً إطلاقية كهذه مما ترفضه مناهج البحث العلمي الصحيح، لأنها ترفض مبدئياً كل حكم مطلق لا يقوم البرهان الواقعي اليقيني على صحة إطلاقه. في حين أن كتاب في الأدب الجاهلي لم يستطيع تقديم مثل هذا البرهان.
ويضيف: من هنا لا يصح للباحث العلمي أن يذهب مع طه حسين إلى تلك الأحكام القاطعة، كحكمه بأن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنها إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وأن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأن الأشعار التي تنسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين. لا تثبت شيئاً ولا تدل على شيء في الأدب الجاهلي
وأخيراً يقرر مروة وهو محق في هذا فيقول:إن المنهج التاريخي العلمي يقضي إذن أن ننظر إلى الشعر الجاهلي الصحيح منه والمتحول معاً كمادة تاريخية حية، لها ارتباطها الواقعي الموضوعي بالواقع الاجتماعي العربي في مرحلتيه المتداخلتين: مرحلة الجاهلية القريبة من الإسلام، ومرحلة الإسلام القريبة من سابقتها في الجاهلية. وهذا الموقف من الشعر الذي عرفناه حتى الآن باسم الشعر الجاهلي، يعني في منطق بحثنا هنا أن نستطلع كل الدلالات التاريخية التي تتضح بها نصوصه، وهي دلالات متنوعة قدر تنوع الواقع الاجتماعي نفسه الذي يشير إليه.
هكذا تتحطم ركيزة طه حسين الثالثة كما تحطمت الركيزتان الأولى والثانية ولا يسعنا إلا أن نقول: (اللهم لا شماتة)!!.
الفصل الثامن
ردود بعض المفكرين والأدباء اليمنيين على تخرصات طه حسين
أوردنا ردود بعض المفكرين العرب وفي مقدمتهم الدكتور محمد نجيب البهبيتي الذي تولى مسألة الدفاع عن اليمن إنسان وحضارات وتاريخ وثقافة وشعر... إلخ.
ذلك لأنه:
- كان عروبياً أولاً، وقد شعر بأن المساس بحضارات وتراث اليمن إنما هو مساس بتاريخ الأمة كلها وهو واحد من طلائعها!!
- كان زميلاً له في الأزهر يعرفه جيداً، ويعرف كثيراً من سقطاته وعثراته وغبائه، واشتباه تصرفاته، ومدى استعداده لأن يفرط في كل مقدسات وشرف أمته!!
- كان قادراً على الوقوف في وجهه وفضحه وإفحامه بالردود العلمية المخرسة له. وقد فعل. وبالذات حينما عرف أن ليس هنالك من يقوم بالرد عليه من اليمانيين. ومنها كونهم أعني العرب وقتها كانوا قد حملوه أوزاراً فوق أوزاره، وأسبغوا عليه ألقاباً هو غير قمين بها كعمادة الأدب العربي. فكان عموداً متخشباً!!
- إن الدور الذي قام به في سبيل تخريب تاريخ الحضارات اليمنية وتشويه التراث اليمني وتحقير دور اليمنيين الحضاري والثقافي وإبداعاتهم الكثيرة، وفي مقدمتها اختراع الكتابة كان، كبيراً بينما هو في حقيقته أجهل وأحقر من أن يتطاول على ذلك التاريخ وتلكم الحضارات وذلكم التراث العظيم. كل هذا وغيره مما لا يجوز السكوت عنه. كما أوردنا أجزاء من نصوص محاكمته في نيابة مصر، التي كان يرأسها القاضي المحترم محمد نور أحد رجالات مصر العروبة، والذي حاكمه باسم كل العرب، وقزمه وأفحمه،وتركه موضع نكتة وسخرية للساخرين.
وبعد هذه المرحلة المتقدمة جاء دور المفكرين والأدباء اليمنيين، الذين تصدوا لهذا المخبول، لدحض ترهاته وافتراءاته على تاريخهم وتراثهم وآدابهم وافتئاته على عروبيتهم، وإنكاره لغتهم وشعرهم وشعراءهم !! إلا أن بعضهم كان قد حاول الرد بنوع من الدونية والاستحياء كما لو كان تلميذاً صغيراً أمام معلم جبار، بل لقد وافق بعضهم على الكثير من آرائه، وتجاوز ذلك إلى الثناء عليه !! ومنهم من كان رده قوياً وشافياً. إلا أن أي رد لم يكن شاملاً لكل ما ورد في كتابه الآثم (في الأدب الجاهلي).
وكان ممن تصدوا بالردود عليه زيد علي الوزير، في كتابه/ دراسات في الشعر اليمني القديم - الحديث. نستنبط منه بعض النصوص: في البدء يرجع خطأ طه حسين إلى عدم رجوعه إلى المكتبة اليمنية ومرد الخطأ الذي وقع فيه يرجع إلى سببين أولهما أنه قد اعتمد على المكتبة العربية فيما رجحه من آراء، ولم يعتمد على المكتبة اليمنية صاحبة الرأي الأول والأخير. وثانيهما: يرجع إلى ثقته المطلقة بآرائه وأفكاره وهي ميزة يتحلى بها الدكتور في كل أبحاثه.
ويحاول مسك العصا من الوسط، ويجاريه فيما ذهب إليه حول لغة النقوش ونفي الشعر اليمني القديم، فيقول: كما أن أحاديث النقوش لم تثبت شعراً لليمنيين لا باللغة الحميرية ولا باللغة العربية لا حظوا (العربية) فهل معنى هذا أن ليس لليمن شعر؟ إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن أحاديث النقوش ليست بالدليل الكافي على النفي ولا على الإثبات أيضاً وقد صارت دليل إثبات بعد أن كشفت قصيدة السوادية المعروفة ب(ترنيمة الشمس) يا زيد!.
ويسترسل زيد قائلاً: ونسارع فنقرر مع الدكتور: أن اللغة الجنوبية القديمة هي غير اللغة العربية ما في ذلك شك. ولكن الذي نختلف فيه هو متى تكلمت اليمن هذه اللغة العربية قبل الإسلام أم بعده (ملكي أكثر من الملك!).
وزيد يعتقد مع طه حسين أن اليمنيين لم يتكلموا العربية إلا مع إشراقه الإسلام ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الإسلام لم يشرق إلا والجنوب يتكلم العربية وبالأخص الطبقة المترفة والموسرة ويستعمله في أدبه وحياته.
ثم يناقض كلامه هذا بالقول: ولا بأس هنا أن نملي بعض ملاحظات تساعدنا على تفهم انتشار اللغة العربية في الجنوب قبل الإسلام. ويشير إلى أن المكتبة اليمنية زاخرة بالأدلة على وجود شعراء يمنيين قبل الإسلام. وما ترويه المراجع العربية عن عمرو بن معد يكرب. وتفهم اليمنيين لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ودخولهم الإسلام بعد فهم الرسالة دونما مترجم، كما أن المبعوثين إلى اليمن لم يحتاجوا إلى مترجمين للتفاهم مع اليمنيين، ولم يضطر أبو بكر كذلك إلى مترجم؛ لأن الجماهير كانت تفهم اللغة العربية، ويستدل على مدى تقارب (اللغتين) بالحديث النبوي هل من امبر امصيام في امسفر): ويعود ليقول: فاللغة الشمالية كانت قد اكتسحت الجنوبية قبل الإسلام بوقت أتاحت فيه للمشاعر اليمنية أن تتكيف بالطابع اللغوي الجديد.
ويلاطف طه حسين بقوله: فالخطأ الذي وقع فيه أستاذنا الجليل هو خطأ أساس وعن هجرة اليمنيين إلى مناطق نائية عن موطنهم اليمن يقول زيد بلطفه المعهود:
فالدكتور يقول: ... ولكننا لا نعرف شيئاً يثبت لنا هذه الهجرة اليمنية وقد جاءت هذه اليمنية مع علامة الاستفهام!.
ويردف قائلاً: ونقول نحن أيضاً: ولكننا لا نعرف شيئاً ينفي لنا هذه اليمنية؟ (هكذا) وهكذا على الأقل يقف النفي والإثبات على صعيد واحد. مع العلم أن موقفنا هنا أقوى لأننا نقف مع الإثبات الذي يحتاج إلى أدلة علمية لنفيه.
ويستدل زيد بقول المستشرق (ولنغستون) على هجرات اليمنيين وإنشائهم مستوطنات في مناطق متعددة خارج حدود اليمن.
ويختتم الأخ/ زيد حديثه بقوله: وأخيراً فالدكتور طه لم يستطع أن يستمر في الرفض طويلاً فعاد إلى (نتيجة إلا تكن تاريخية صحيحة فهي فرض يحسن أن يقف عنده الباحثون، ويجتهدوا في تحقيقه. وهي أن أقدم الشعراء فيما كانت تزعم العرب ، وفيما كان يزعم الرواة إنما هم يمنيون أو ربيعيون.
ولأن زيداً مقتنع بما يأتي من طه حسين، فقد قال: وحسبنا الآن من الدكتور هذا (الترجيح) المهم الخطير. وهو وإن كان في حد ذاته قليلاً ولكنه وقد خرج من غربال طه العنيف - شيء كثير الحمد لله على السلامة!!.
وجاء بعد زيد الوزير الأستاذ/ أحمد محمد الشامي صاحب كتاب/ قصة الأدب في (اليمن) وتولى الرد على طه حسين ولكن بأسلوب يقارب أسلوب زيد وبنفسه تقريباً.
وجاء بعدهما الأستاذ أحمد شرف الدين، وكان أكثر دقة وحصافة منهما، حيث أخذ المسألة مأخذ الجاد، وناقشها بعلمية وموضوعية، معلناً جانب الحق، رغم محاولته تبرير أخطاء طه حسين بقوله: وغاية ما نستطيع أن نقوله هنا أن وسائل البحث العلمي، ومصادر دراسة النقوش اليمنية القديمة، كانت في الوقت الذي أصدر فيه الدكتور طه كتابه المشار إليه ضئيلة جداً، بل لم يصدر حين ذاك منها غير كتاب (المختصر في لغة حمير) للدكتور أغناطيوس غويدي (1934) الذي كان كل ما لدى الدكتور طه حسين من مصادر هذا البحث، كما يظهر ذلك من فحوى الكتاب.
ويشرع بعد هذا بنقد مرجعية طه حسين، وتبيين أخطائه فيقول: وبالعودة إلى تلك النصوص التي جاءت في كتاب الدكتور غويدي نجد أنها لا تكفي أن تكون مستنداً لمعرفة لغة حمير، بل إن بعضها بل أكثرها نصوص سبئية موغلة في القدم، وليست من لغة حمير في شيء، إلا أنها تحتوي على الكثير من المفردات العربية الأصيلة لو أعارها عميدنا الكبير قسطاً من التأمل والتمعن، فمعظمها ألفاظ عربية ذات أوزان وصيغ لا تختلف عن اللغة العربية الحديثة إلا بمقدار ما قد يكون من الاختلاف من الأصل وفرعه، أو ما قد يحدث من الفارق التطوري بين الحديث والقديم.
فكلمة (بعل) مثلاً - كما يعرف الدكتور - كلمة عربية، وكذا (أخ) و(أخت) و(ذو) و(وهب) و(عبد) و(شعب) و(روأ) و(إله) وغيرها مما جاء في بحثه كلمات عربية فصحى. إلا أنها جاءت في النقوش في إطار صيغ وأوزان مختلفة عن الصيغ والأوزان المعروفة الآن. كما أنها جاءت في بعض النقوش المتأخرة في أسلوب قريب منها تماماً. وفي هذا الدليل القاطع على أن اللغة العربية قد مرت بمراحل طويلة قبل أن تحظى بما حظيت به أخيراً من التهذيب على أيدي القرشيين. وإن يكشف لنا تلك المراحل غير النقوش.
وبعد هذا يطلق على أحكام طه حسين بأنها متسرعة ومتعسفة، وأنه قد تجنى على البحث العلمي، الذي أثبت (كما يقول شرف الدين) أن لغة قريش واليمن من أصل واحد. ولغة قريش في نظره ليست كل شيء عن اللغة العربية (التي تداولها العرب منذ بداية العصر الجاهلي وما قبله، بل وليس هنالك أية مراجع للتعرف على تاريخها غير نصوص (المسند) إذ لم يعثر حتى الآن على أية نصوص جاهلية أخرى كتبت بغيره في تاريخ اللغة العربية.
وبعد ذلك يطلق الأستاذ شرف الدين حكمه الصائب فيقول: ومن هنا نستطيع أن نجزم بأن اللغة العربية قد نشأت في اليمن منذ أقدم العصور. وهذا لا يعني نفي ما للعدنانيين من الفضل في تطويرها ونشرها.
وهو بعد هذا يدعو إلى ضرورة الاعتماد عند تحديد اللفظ العام للغة العربية إلى الوطن الجغرافي الذي نشأت فيه لا إلى الموطن الذي به تطورت ومنه انتشرت.
وهو بعد هذا يدعو إلى ضرورة الاعتماد عند تحديد اللفظ العام للغة العربية إلى الوطن الجغرافي الذي نشأت فيه لا إلى الموطن الذي به تطورت ومنه انتشرت.
ويختم بحثه بالحديث عن اختلاف اللهجات اليمنية قديماً وحديثاً كما هو الحال. في الأقطار العربية الأخرى.
ويأتي دور المرحوم محمد سعيد جرادة، الذي كان أكثر حدة ودقة في نفس الوقت، كما كان أكثر استدلالاً بالشواهد. ولنقتبس منه ما يلي:
(والذي نود أن نقوله في هذا الصدد أن لغة اليمن قبل الإسلام لم تشكل معضلة من معضلات علم (اللسان) وما كان لمثل هذه القضية أن تثير هذا الخلاف الطويل العريض بسبب جملة قالها أو رواها عبد الله بن سلام الجمحي عن أبي عمرو بن العلاء وما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.
وهي جملة عابرة لعله قُصد بها بعض لهجات حمير التي حدت الجملة أنهم من أقاصي اليمن. ولا تزال أمثال هذه اللهجات المختلفة عن الفصحى متداولة إلى اليوم في بعض مناطق اليمن، كسقطرى وحضرموت وبعض المناطق الأخرى من اليمن.
ويسترسل مؤكداً القول: (أجل لم تشكل اللغة معضلة لدى القدماء، فكل ما أورده المؤرخون من خطب ومناظرات في مجالس الخلفاء والقادة في فجر الإسلام لا تلفت النظر إلى وجود خلاف بين لساني عدنان وقحطان، وإذا وجد شيء من ذلك فهو خلاف طفيف، كالذي قيل في شنشنة اليمن، التي ينطق بعض أبنائها الكاف شيناً (كلبيش) أي لبيك. ويقلب بعض أبنائها التاء كافاً إلى يومنا هذا (عصيك) أي (عصيت). ولكن مثل هذه العيوب - إن صح أنها عيوب- موجودة في لهجات كثير من القبائل غير اليمنية كتميم التي تكسر أول الفعل المضارع وهو مرفوع، وكهذيل التي تنطق العين نوناً فتقول (أنطى) أي: أعطى، ومثل ذلك تنطق أنطى في بعض أنحاء اليمن وفي العراق إلى يومنا هذا.
ويشير جرادة إلى المستجدات في دراسة (الحضارة اليمنية) والتي قام بها علماء النقوش والآثار في اليمن بعد صدور كتاب طه حسين، فيقول: (ففي الندوة العالمية للحضارة اليمنية، التي انعقدت في عدن في الفصل الأول من عام 1975م. تحدث الدكتور (بترفسكي) من الاتحاد السوفياتي، فقال: (لتاريخ اليمن الأهمية الخاصة . لأن الحضارة اليمنية كانت أكثر تطوراً من حضارات الجزيرة العربية القديمة. وقد أثرت تأثيراً كبيراً على المناطق العربية الأخرى.
إن اليمن القديمة قد لعبت دوراً بارزاً في حياة الجزيرة العربية قبل الإسلام، وخاصة في القرون الأخيرة عندما قام ملوك حمير بالسياسة النشيطة في جميع نواحي الجزيرة، وساعدت التجارة اليمنية قيدمة الأصل على توحيد الجزيرة العربية اقتصادياً. وكانت الإنجازات الثقافية والفنية تنتشر مع التجار. واستخدمت القبائل الشمالية الخط الحميري لإنشاء الكتابة اللحيانية والثمودية والصفوية وقد ساهمت هجرات القبائل اليمنية وتدخل القبائل الشمالية إلى اليمن في توحيد لغة العرب وثقافتهم. وكانت الملاحم والأساطير اليمنية مشهورة في الجزيرة العربية، وكان الشعراء يعرفونها وذكرها القرآن الكريم.
ويذكر بعد هذا بعض الكتب التي أشارت إلى لغات القبائل اليمنية الواردة في القرآن والألفاظ التي عزاها علماء القراءات إلى قبائل يمنية، وفي مقدمتها الإتقان في علوم القرآن للسيوطي وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة.
ويشير إلى بحث الدكتور القول الذي ألقي في الندوة بعنوان مكان نقوش اليمن القديمة في تراث اللغة العربية الفصحى وهو البحث الذي أورد فيه عدداً من الكلمات التي خلدتها النقوش، واستوعبها القرآن الكريم. مثل: الأمانات. والخليقة ومشتقاتها، ومصر، وهجرة ومشتقاتها.
على أن أهم ما أشار إليه هو ذلك البحث الذي قدمه للندوة المرحوم المؤرخ سلطان ناجي، والذي أشار فيه إلى أنه قد استنتج من قراءة الوثائق السريانية التي كتبت حول مذبحة نجران، أو ما يسميها القرآن بقصة أصحاب الأخدود. قال المؤرخ اليمني سلطان ناجي: إن تلك الوثائق تشير إلى قضايا هامة، تاريخية ولغوية، خاصة فيما يتعلق بقضية اللغة العربية ودور اليمن فيها. فمن تلك النتائج الهامة التي توصل إليها المؤلف، أنه استطاع أن يبرهن على أن هذه الرسائل التي قام بنشرها وتحليلها مؤخراً الأستاذ عرفان شهيد، قد كتبت أصلاً باللغة العربية عام 520 للميلاد. وذلك لأن كاتبها (سيمون) يشير في آخرها بأنه قد تلقى تقارير هذه الحوادث - مذبحة نجران - وهو في المعسكر الغساني في الجابية مكتوبة باللغة العربية، وقد برهن المؤلف على أن هذه اللغة النجرانية ما هي إلا اللغة العربية. وفي هذا الصدد يقول عرفان شهيد ص 40 من كتابه، شهداء نجران:
(إن هذا يثبت أن اللغة العربية التي سبق أن برزت كلغة شعرية أدبية منذ القرن الخامس الميلادي، قد برزت منذ مائة عام قبل الهجرة كلغة مكتوبة بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى المحدود للغة يستخدم لكتابة النقوش.
أما تعليق المرحوم جرادة على النص السابق فكان هذا:
إن هذه الحقيقة ذات أهمية قصوى لحل القضايا الكبرى، كقضية وجود نسخة عربية بخط الجزم للإنجيل قبل الإسلام، ومسألة تدوين الشعر العربي في الجاهلية. ومن أبعاد هذا الاكتشاف هو أنه يقضي نهائياً على الجدل الذي أثير من العشرينات من هذا القرن حول لغة اليمن قبل الإسلام. وعن قضية اختلاف الحميرية عن العربية. إن هذا الاكتشاف يؤكد أن اليمن هي مصدر الإثنتين الحميرية والنجرانية. أي العربية على السواء.
تلك آراء أكثر من عالم من علماء النقوش حول لغة النقوش اليمنية، وتأثيرها على مفردات اللغة الفصحى، والجديد في هذه الآراء أنها تزيل كثيراً من آثار ذلك الوهم الذي كان سائداً في العشرينات من هذا القرن، والذي انحجبت من جرائه كثير من حقائق التقارب بين لهجات اليمن القديم واللغة العربية الفصيحة.
ويأتي دور الدكتور/ عبد العزيز المقالح في كتابه (شعر العامية في اليمن) ليأتي في رده المهم بنصوص أشد قوة وأكثر وضوحاً، فيقول تحت عنوان (العامية اليمنية .. والفصحى: ما من شك في أن أبا عمرو بن العلاء كان شديد الإسراف والمبالغة في المقولة المنسوبة إليه ما لسان حمير بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا على الرغم من أنه - على رأي بعض الباحثين- قد أثبت عروبة حمير في قوله: (عربيتهم بعربيتنا) وأنه على رأي آخرين قد قصد بقولته تلك حميراً وحدها. وحمير قبيلة من اليمن وليست كل اليمنيين. وإلا فما معنى اتفاق الرواة على أن قبيلة طي اليمنية قد كانت من بين القبائل العربية التي اعتمد اللغويون الفصحى أو اللغة الأدبية من بين لهجاتها. يضاف إلى ذلك إغفال القدماء لذكر الدخيل في القرآن من العربية الجنوبية لأن هؤلاء كانوا يرونها لهجة يمنية لا لغة مستقلة، سواء فيها الحميرية أو السبئية أو الحضرمية، وهي فروع من العربية الجنوبية.
والمقالح يلفت الاهتمام إلى قضية مهمة يغفلها نقاد الشعر القديم حينما يتحدثون عن قلة الشعر المنسوب إلى اليمن. فيقول: تجدر الإشارة إلى حقيقة ربما تكون قد غابت عن أذهان كثير من نقاد الشعر الجاهلي، وهم يتحدثون عن قلة الشعر المنظوم في جنوب الجزيرة، بالقياس إلى ما نظم منه في شمالها، وتتجلى هذه الحقيقة في إغفال هؤلاء النقاد لاختلاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي بين الشمال والجنوب في خلال الفترة التي ظهر فيها الشعر الجاهلي وانتشر. ففي الشمال حيث الفراغ المحض والترحال الدائم بحثاً عن منابع الماء والكلأ، وحيث الوقت كله للتأمل، ازدهر الشعر وكثر قائلوه، وفي الجنوب كان النشاط الزراعي والصناعي يلتهم الوقت ولا يبقى منه للتأمل سوى القليل، كما يمكن أن نضيف إلى هذه العوامل والأسباب عاملاً آخر، وهو غلبة الشعور الجماعي في الجنوب، حيث تقوم المنشآت الجماعية كالسدود والمعابد والمزارع والمدن، في حين تسود الروح الفردية في الشمال حيث الصوت المغرد القصيدة، والبيت الواحدي الخيمة، والإله الحجري الخاص يتوسط كل دار. يضاف إلى ذلك أهم الأسباب وهو بعد اليمن عن مراكز التدوين في عصر تدوين الشعر واللغة ونختتم هذه الفقرة بالقول:
إذن فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وإلى بعد اليمن عن مراكز التدوين، ترجع قلة ما عرف من الشعر في الجنوب. وليس إلى اختلاف اللغة كما حاول البعض تفسير ذلك).
ويقتنص الدكتور المقالح نصاً يعتبره في غاية الأهمية في الموضوع للدكتور حسين نصار نورده أيضاً لأهميته، يقول: فقد تبين لنا أن أهل الجزيرة العربية كانوا مختلفين متنابذين، وقد يجيب مجيب بأن اليمن فيها شعب متكامل الصورة، يمكن أن يصدر أدباً شعبياً يعبر عنه ويتغنى به وذلك حق. وهو حق قد وقع فعلاً. فقد وهب اليمنيون الفنون الشعبية أدباً رائعاً خالداً، كانوا يتغنون به في كل موطن حلوا به قبل الإسلام وبعده.
وبقي عندنا من هذا الأدب الشعبي اليمني ثمرتان:
الأولى منها: ما رواه عبيد بن شرية الجرهمي لمعاوية بن أبي سفيان في مجالسه الليلية، واستولى منه على اللب، فأمر كتبته بتدوينه. ووصل إلينا حاملاً أخبار عبيد بن شرية.
والثمرة الثانية:
ما رواه وهب بن منبه ودونه ابن هشام -صاحب السيرة النبوية- والكتابان ملحمتان رائعتان ترويان مفاخر ملوك اليمن وأبطاله وأشرافه ومآثره في صورة قصصية شعبية خلابة.
وتمثل الملحمتان الذوق العربي خير تمثيل. فيتعاقب فيهما النثر والشعر، ويكمل كل منهما الآخر. بحيث يعطيان في النهاية قصة متكاملة الجوانب، حية الأشخاص، جميلة الأداء للأحداث القصصية التي يراد تصويرها.
فإذا تركنا اليمن لم نجد شعباً بل قبائل لا يعرف أفرادها غيرها، ولا تتجاوب مشاعرهم مع سواها، بل ينظرون إلى من في خارجها نظرتهم إلى المخلوقات الأخرى التي وجدت لينتفعوا بها، يغيرون عليها فيستولون على أموالها. إبلها، ويسترقون صبيانها، ويسبون نساءها، ويقتلون رجالها، وهم محاربوها. فليس هناك إذن شعب يعبر عن نفسه وإنما هناك قبائل. وقد عبرت عن نفسها في انتصارها وانهزامها. وإذن فالشعر الشعبي كان في الجاهلية عند عرب الشمال شعراً قبلياً؛ لأن الشعر القبلي هو الشعر الوحيد الذي عبر عن الجماعات عندهم، ولأنهم لم يعرفوا من الجماعات غير القبائل.
ويشير بعد هذا إلى تلك الصلات الأدبية والشعرية التي كانت قائمة بين اليمن ومكة، فيشير إلى مدائح الأعشى الكبير وغيره في ملوك اليمن، وإلى خطاب عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم في تهنئة سيف بن ذي يزن عند انتصاره على الأحباش، وإلى قصيدة/ أمية بن أبي الصلت، أو هو أبو الصلت نفسه بنفس المناسبة، وأنها كانت بالعربية الفصحى، ومفهومة من الكل.
وقد كانت كل هذه المدائح كما نقرأ باللغة العربية الفصحى، أو اللغة الأدبية، كما اصطلح الدارسون على تسميتها؛ إذ لا يعقل أن تكون هذه القصائد باللغة العربية التي يجهل اليمنيون فهمها.
وبعد هذا يأتي ليفند تلك القصة الخرافية التي رواها بعض الإخباريين عن ذلك الكلبي الذي دخل على ملك ظفار الحميري، وهو على سطح عال، فقال له الملك: ثب. أي اجلس. فقال الرجل: ليعلم الملك أني سامع مطيع. ثم وثب من السطح فهلك. فقال الملك ما شأنه ؟ فقالوا: أبيت اللعن إن الوثب في كلام نزار الطفر. أي الوثوب إلى أسفل. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم، من دخل ظفار حمر. أي فليتكلم الحميرية. أقول: إن هذه الحكاية التي يتخذ منها البعض (والكلام للمقالح) حجة في التدليل على اختلاف ما بين لهجات الشمال ولهجات الجنوب، هي في جوهرها لو صحت الرواية دليل إثبات على ما بين اللهجتين من تقارب. فالخلاف بينهما مقصور على مدلول بعض المفردات، وهو ما كان يقع للشماليين فيما بينهم. وحكاية المدية والسكين كما رواها رجال الحديث عن الرسول مع أبي ذر مشهورة، ولا نرى حاجة لإيرادها.
أما أنا فأوافق الدكتور المقالح وجرادة فيما ذهبا إليه ،بل وأكثر من ذلك فأنا أعتبر أن كلمة ثب بمعناها اليمني الحميري كلمة عربية صحيحة فصيحة. وقد تكون من الكلمات المتضادات، مثل: الجون التي تعني الأبيض والأسود.
الصريم التي تعني الليل والصبح.
السدفة التي تعني الظلمة والضوء.
الجلل التي تعني الكبير والصغير.
الصارخ التي تعني المستغيث والمغيث.
الهاجد التي تعني المصلي بالليل والنائم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.