باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه حسين.. ماج كثيراً في تناقضاته حول تاريخ اليمن
هذا هو تاريخ اليمن ( الإرهاص )
نشر في الجمهورية يوم 17 - 12 - 2006

- د. عبد الله علي الكميم .. تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
- إن الدكتور ( طه حسين ) لم يدرِ أن شكه هذا سيجلب له البوار فكلما ازداد الشك كلما ازداد ارتباكه وتخبطه واكتنف موقفه الغموض أكثر وأكثر، يتضح هذا الإرباك والغموض في النصوص الثاني والثلاثين والثالث والثلاثين والرابع والثلاثين وفي ما يليها، وقد ظهر ارتباكه في الموقف من امرئ القيس وجوداً وشعراً ونسباً، وربما ارتبك كما قلت في الموقف من ما أسماه لغة قريش هذه اللغة التي بنى لها صرحاً من الوهم وشيد لها كِيَاناً من الخيال وسيدها على لغة اليمن ذات الكتاب المكين والصرح المشيد.!
قال: إذن فنحن ندور -نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها شعر امرئ القيس الذي نشك فيه، على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت.
ونسجل هنا أخطر اعتراف له حول تاريخ وجود أو نشوء وتطور لغة قريش فيقول: إنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام، ص203 لقد أخرسه الحق قبل وها هو يُنْطِقُه الآن، وهذا هو ما قلناه بعد دراسة مناسبة لقريش ككيان بشري وسياسي واجتماعي، إذن لقد وصل في النهاية إلى نتيجة صحيحة إذا لم يركبه الشيطان فيربكه. وما لابد أن نعيد التذكير بأن لغة اليمن نشأت قبل عشرة آلاف عام وأنها كانت تشمل كل الجزيرة العربية فمكة سكنت من قبل العمالقة ثم الجرهميين ثم الخزاعيين وكلهم من اليمن باعتراف طه حسين وكانت فيكت بعد تحاط بقبائل من حولها قبائل الأزد وكنده والأوس والخزرج فكيف ينشأ في هذا الوسط الذي يحكمه اليمنييون ويتحكمون فيه لغة مستقلة كما تخيلها طه ؟!
ويتساءل في النص الثالث والثلاثين كعادته: وإذن فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس ؟!
ولأنه كثير الصلف والغرور والغباء ها هو يستدل على عدم يمنية امرئ القيس بعدم ذكر أي شيء يدل على يمنيته في شعره!
فيقول: وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني !!
يعني أنه لم يطلع على ديوان امرئ القيس كعادته! وإلا لكان قد فقأ عينه وإن كانت مفقوءة، قول امرئ القيس هذا:
تطاول الليل علينا دنون
دنون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
إنه مسكين وأمره غريب وعجيب!
إنه يطرح القضية عشرات المرات بنفس الصيغة أو في قوالب مختلفة نوعاً ما دون أن يتبين الحكمة من وراء هذا التكرار المضجر، هل لأنه ينسى ما يقول؟! أو لإيهام القارئ بأنه لم يطرحها من قبل ولن يطرحها من بعد؟! ولذلك ولاعتقاده أن كثرة التكرار سيجعل الناس قابلين لنقبل الفكرة؟! إن السر لا يزال في بطنه والله يتولى أمره.
قال في النص الرابع والثلاثين: إن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء وإنما هو محمول عليه حملاً ومختلق عليه اختلاقاً.
- ولعل من النصوص الأكثر تعرية لفكره وتبييناً لجهله النص السابع والثلاثين هذا المشحون بالألفاظ التي لم يفهمها والعبارات المتناقضة التي لم يعيها: وإذن فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دقعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد في عصور مختلفة ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية لما كان من اختلاط الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهما بالفرس.
- فمن يا ترى أهل اليمن هؤلاء الذين هاجروا أو اندفعوا إلى العراق في القرن الرابع الهجري ومن هم بالتالي أهل الحجاز؟! إن أهل اليمن كانوا في العراق منذ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة من الزمن الذي حدده طه حسين، أما الذين اندفعوا من الحجاز إذا صح هذا فإنما هم يمانون ممن سبق ذكرهم قبل فنقول له: صح النوم. ثم ما هي الجزيرة التي اندفعوا إليها؟ ولماذا وكيف اندفعوا إلى نجد وهم كانوا أصلاً فيها؟! ولنذكر قصة زرقاء اليمامة وقصة طسم وجديس وزعماء حمير، إنه لم يقرأ التاريخ ولا حتى تاريخ آداب العرب ليعرف كيف ومتى وأين نشأ هذا الأدب؟!
- ثم كيف أحدثوا نهضة عقلية وأدبية وهم جنسان مختلفان حسب رأيه؟ فإذا كانا جنسين ولم يتمكنا من صنع ما صنعاه في العراق حينما كان في اليمن والحجاز فكيف تمكنا من صنع ذلك في العراق؟
لقد كان اللخميون والمناذرة هم الذين يعيشون في العراق بعد القحطانيين الذين استوطنوه من قبلهم بزمن طويل وأسهموا في إنشاء حضارة بابل وغيرها ثم هل يعقل أن يطلق من هو في منزلة طه حسين لفظ جنسين على عرب اليمن والحجاز؟!
- ويعود كديدنه ليعترف بشعر يمني قوي ولكنه يربطه باتصال اليمانيين بربيعة وأكثر من هذا يعترف بأن مضر قد أخذت شعر اليمن عن طريق ربيعة
أي فوضى هذه التي نراها من أخذ الشعر ممن؟ هل اليمن أخذته من مضر؟! أم مضر أخذته من اليمن؟ ولماذا لم يزدهر شعر اليمن إلا بعد الاتصال بربيعة؟ دون أن يبين حجم هذا الاتصال ولا كيفيته ولا متى تم ولا أين؟!
ولا الأسباب والمسببات لذلك، فمن المعروف أن الجزيرة العربية كانت مفتوحة أمام كل سكانها جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً وأن عرى القرابة وروابط الاتصال وبواعث ووسائل اللقاءات كانت كثيرة ومتيسرة وكانت الأسواق من ضمنها والتجارة من أسبابها وعلاقات القربى والرحم والمصاهرة. وكذلك الرعي. والحج، وفوق هذا وذاك هنالك العامل الأقوى والأكثر حسماً هو هاجس الفتح والانتقال هذا الهاجس القديم الدائم والمتجدد؟! لماذا لم تتحرك كل هذه العوامل والأسباب والظروف إلا حينما يريد لها طه حسين أن تتحرك؟! شيء مريب!
ثم لماذا لم تفعل نظريته الخاصة بتنقل الشعر فعلها من قبل.
ويؤكد اعترافه بشعر اليمن بقوله: ومن هنا نستطيع أن نقول: إنا تعمدنا الفصل بين شعراء اليمن وربيعة من ناحية وشعر مضر من ناحية أخرى قلنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة.
هكذا يجور ويدور في فراغ دون الوصول إلى نتيجة كونه متناقضاً!
- وبعد النصين الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين الذين أكد فيهما وجود الشعر في اليمن ومضر وازدهاره في اليمن بعد الصلة مع ربيعة، إنه يعود أدراجه كعادته فينفي من جديد وجود هذا الشعر كما في النصين الأربعين والواحد والأربعين: أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو أكثره هذا الشعر الجاهلي لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والنحل!
ويضيف في النص الواحد والأربعين: وإذن فقد نحلت مضر وتكلفت كما نحلت اليمانية وتكلفت، وكما نحلت الربعية وتكلفت. وكما نحل الموالي وتكلفوا اتفقوا جميعاً في النحل، واختلفت الأسباب التي حملتهم عليه!
هكذا في نزوة من نزواته يدمر كل ما أنشأه من قبل وكأن يا بدر لأسرنا ولاجئنا! فلماذا إذن التعب السابق كله طالما والنتيجة هي هذه التي توصل إليها ؟! الكل يعبث بالشعر والكل يكذب والكل ينحل أو ينتحل. لا فرق بين اليمانية ومضر ولا بين اليمانية وربيعة ولا بين ربيعة ومضر هكذا يعيش في دوامة وفي ضلال بعيد!
- وأخيراً فَلْفَاه يهيم على وجهه يموج في تناقضاته يضيف إلى رصيده من النتاقض تناقضات جديدة وإلى خزعبلاته وترهاته خزعبلات وترهات أخرى. فيضيف شعراً لمضر وينزعه عن ربيعة واليمن ويشير إلى أن لغة ربيعة هي التي جلعته يتخذ منها هذا الموقف! )عرفنا موقفه من لغة اليمن بأنها لم تكن قرشية فما لغة ربيعة يا ترى؟ ولماذا اتخذ منها هذا الموقف مع أنها عدنانية على حد تعبيره؟ ! ما المعايير التي اتبعها دونما إشارة من أساتذته إبن العلاء والجُمّحي.
وقد أضاف في الفقرات الأربع أو النصوص الأربعة من الثاني والأربعين إلى الخامس والأربعين شيئاً من عبقريته في محال التاريخ والسير فلأنه منكوس مركوس ينكس كل الأمور ويكتب تاريخاً جديداً للأمة من عنده ولم يكتف بتشويه الشعر وإنما يفسد التاريخ أيضاً، فالمضربة هي صاحبة الحظ الأوفر في تشييد الدولة العربية، والرواة والحفاظ معظمهم من مضر أيضاً، وهو لا يقف من الشعر المضري موقف الرفض والإنكار كما فعل بالنسبة لشعر اليمن وربيعة!، وأمرؤ القيس ليس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان...إلخ، نحن لم نخترع ما اتفق عليه القدماء من أن المغازي والفتوح والفتن قد أفنت طائفة ضخمة من رواة الشعر وحفاظه فشاع الشيء الكثير من هذا الشعر. وافتقدته العرب بعد أن استقرت في الأمصار فلما لم تجده اخترعت مكانه ما استطاعت أن نخترع،
قام الإسلام على أعناق مضر، وكانت المضرية صاحبة الحظ الأوفر في تشييد الدولة العربية وما استتبع ذلك من حرب وفتح وفتنة إنا نرفض أن يكون لليمن شعر في الجاهلية ونكاد نرفض أن يكون لربيعة شعر في الجاهلية،)
نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربيعيين واليمنيين لافترضنا بالقياس إلى المضريين،
فمن ذا الذي يضمن لي أن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان؟!
للأسف أنه لم يجد من يضمن له شعر امرئ القيس ولا من يكفل امرأ القيس نفسه فمات وفي نفسه حسرة.
والخلاصة أنه قد أثبت الشعر في اليمانيين سبعاً وعشرين مرة ونفاه عنهم ثلاثاً وثلاثين مرة واثبته في قريش أو مضر ككل سبعاً وعشرين مرة ونفاه ثلاث مرات، أما ربيعة فقد أثبته فيهم عشر مرات ونفاه سبعاً.
هكذا يناقض نفسه ويتصادم معها ثلاثاً وأربعين مرة، فكيف يقبل منه قول أو عدل؟!
الفصل الثالث
محاكمته على افتراءاته، وإدانته.
في هذا الفصل نورد شذرات مما احتواه ملف محاكمته على فعله النكير وإدانته.
بعض الردود الدامغة ضد طه حسين ومحاكمته
نكتفي هنا بإيراد أبرز وأشجع وأوفى وأروع الردود، وقد جاء على لسان أحد قضاة مصر الشرفاء. إنه رئيس نيابة مصر آنذاك الأستاذ (محمد نور) الذي حاكمه وأدانه.
نرى أن ننقل بعض أجزاء المقدمة التي كتبها عن هذه المحاكمة، ذلك الكاتب العربي الألمعي المبدع، والمنافح عن عروبية اليمن، وعن شرف وتاريخ وحضارة وأمجاد أمته، ألا وهو الأستاذ محمد نجيب البهبيتي، الذي ألف أكثر من كتاب في هذا المجال، كلها من أفضل - إن لم تكن أفضل- ما كتب عن العروبة، وأمجادها، وحضارات العرب وتراثهم العظيم. قال تحت عنوان أنقد ناقدي طه حسين: وأبرع ما كتب في نقد كناشة طه حسين هو قرار الأستاذ محمد نور رئيس نيابة مصر، الذي كلف بالتحقيق مع طه حسين، فقد جاء دراسة علمية دقيقة لهذه الكناشة، ولموضوعها الأخطر، يمضي صاحبها فيها على هدى مكين من انتظام فكر القاضي وسلامة استدلاله. ومنهج الرجل صاحب الذهنية القضائية فيه، تطبيق سليم لمنهج الباحث العلمي، الذي يقدم النموذج العامل للبحث العلمي النظيف في أخطر القضايا التي أثارها طه حسين في كتابه، بحيث لا تستطيع أن تتخلص من إملاء تفرضه عليك المقارنة بين هذه الدراسة الصادرة باسم (قرار النيابة) وبين هذا الهذر الذي صدر تحت اسم (كتاب في الشعر الجاهلي) فلا تأس لأن (نوراً) رئيس نيابة مصر لم يكن هو الأستاذ الجالس في الجامعة مكان طه حسين .......
ويضيف: فالرجل القانوني يعمل بذهن مستنير، ولب خالٍ من عقد النقص، التي أورثتها لطه حسين ظروف تأخره في مجال الدرس والتحصيل، ووقوعه المفاجئ وثباً بين جماعة المستشرقين في أوروبا، على غير تمهيد مؤسس بالثقة بالنفس، يراهم يتناولون القضايا تناولاً يختلف في أسلوبه عن أسلوب تناول هذه الطائفة من شيوخ الأزهر الذي سقط طه حسين بين أيديهم في الشهادة الأزهرية (83) فهو عليهم ناقم، ولهم ماقت، يتلمس الطرق إلى الازدراء بهم استرداداً لاعتباره الشخصي، وتحقيرهم وإصغارهم ثأراً لنفسه، وانتقاماً للصغار والهوان اللذين وصفوه بهما، وباصطناع آراء المستشرقين ومذاهبهم ما دامت تخالف ما عند الأزهريين، وتضرب ما عندهم، مما لم يستطع أن يبلغ في تحصيله ما كانوا يطلبونه منه حتى يجوز الامتحان أمامهم.
والثاني اتخاذ سمت (العلماء) بهذا الذي أخذه من المستشرقين مما لا عهد به لشيوخ الأزهر، الذين أسقطوه من قبل. ومما يتناقض تناقضاً تاماً مع ما عندهم، ليظهر بهذا أنهم متأخرون في حقل العلم، الذي يتصدون للعمل فيه بالقياس إلى تقدمه هو. وقد ساق هذه الطبخة تحت شعار (تجديد البحث العلمي) و(اتباع المنهج الديكارتي). ولذا فإنه لم يرد رأياً مما قدمه إلى صاحبه مع أنها جميعها قد أخذت عن المستشرقين.
ولأن نص القاضي (نور) الذي حاكم المتهم قدأعجبه أيما إعجاب، فقد طلب من كل من له علاقة بعلوم اللغة وعلوم الإنسان بشكل عام أن يطلع عليه. ولعلي لا أطلب ما يفسر تحقيقه حين أطلب إلى كل باحث أن يقرأ هذا القرار القضائي العلمي، ليقف بنفسه على القدر الذي يجب أن يتسلح به الباحث عند الدخول على الحكم في كبريات الأمور وصغرياتها، ما دامت تتصل بتاريخ الشعوب، فالتاريخ ليس لعبة لاعب ولا هزل هازل.
ولو أن القانون يأخذ الناس بجريمة القذف في حق الشعوب والأمم بمثل ما يأخذهم بجريمة القذف في حقوق الأفراد لغابت هذه العنتريات المتهاوية في معالجة التاريخ. فمقياس (العدل القضائي) التي كانت تفرض على الأستاذ نور بحكم الممارسة هذا المسلك العلمي النظيف، كانت العامل المؤمن له في الوصول بالبحث إلى خير ما يمكن أن يتحقق له من السلامة، ورئيس نيابة مصر محمد نور لم يكن يحاكم موضوعات (كتاب) طه حسين فحسب، ولكنه حاكم معها عقله، وراح في رفق واضح ورحمة مستكبرة يلتمس (نية الكاتب) على ما يمكن أن تتبدى به بين سطوره، فخرج إلى تجريح عقله وإلى رفض قضاياه وإسقاطها، عن طريق العرض العلمي النقدي، المعتمد على المراجع وإلى تبريء (نيته) اعتماداً على اعتبارات الشبهة التي تقوم إلى جانب مصلحة المتهم. وهي المرتبة العليا من مراتب الحكم القضائي الإسلامي.
وقد كان هذا القرار القضائي البصير الواعي يضغط على نفس طه حسين ضغطاً خانقاً حتى اأنه كان يطلبه من الأسواق بعد أن تطوع بعض خصوم طه حسين بطبعه ونشره في الأسواق.
وقد عثر لساني أمامه مرة بأن عندي نسخة منه فأصر على أن يأخذها مني بحجة أن مكتبته تخلو منه).
مقتطفات من قرار القاضي محمد نور:
من حيث إنه ما يلفت النظر ويستحق البحث في كتاب الشعر الجاهلي، من حيث علاقته بموضوع هذه الشكوى، إنما هو ماتناوله المؤلف بالبحث في الفصل الرابع تحت عنوان (الشعر الجاهلي واللغة)
ومن حيث إن المؤلف بعد أن تكلم في الفصل الثالث من كتابه على أن الشعر المقال بأنه جاهلي لا يمثل الحياة الدينية، والعقلية للعرب الجاهليين، وأراد في الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر، فقال: إن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي زعم الرواة أنه قيل فيه.
وحيث إن المؤلف أراد أن يدلل على صحة هذه النظرية فرأى بحق من الواجب عليه أن يبدأ بتعريف اللغة الجاهلية، فقال: (ولنجتهد في تعريف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟.
وقد أخذ في بحث هذا الأمر فقال: إن الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز، وهم يتفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله، فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتساباً كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية. ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم، وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة، وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبها بإسماعيل بن إبراهيم، وهم يروون حديثاً يتخذونه أساساً لكل هذه النظرية خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسي لغة أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم.
ويسترسل: وبعد أن فرغ من تقرير ما اتفق عليه الرواة في هذه النقطة قال: إن الرواة يتفقون أيضاً على شيء آخر: وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير وبين لغة عدنان مستنداً على ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. وعلى أن البحث الحديث قد أثبت خلافاً جوهرياً بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذه البلاد. وأشار إلى وجود نقوش ونصوص تثبت هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف.
بعد ذلك حاول المؤلف حل هذه المسألة بسؤال إنكاري فقال: إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من العرب العاربة فكيف بعد ما بين اللغتين: لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة؟
ثم قال: إنه واضح جداً لمن له إلمام بالبحث التاريخي عامة ويدرس الأقاصيص والأساطير قاطبة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية.
ثم قال بعد ذلك: للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما،ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدث بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها. وظاهر من إيراد المؤلف هذه العبارة أنه يعطي دليله شيئاً من القوة بطريقة التشكك في وجود إبراهيم وإسماعيل، وهو يرمي بهذا القول: إنه ما دام إسماعيل وهو الأصل في نظرية العرب العاربة والعرب المستعربة) مشكوك في وجوده التاريخي فمن باب أولى ما ترتب على وجوده مما يرويه الرواة.
أراد المؤلف أن يوهم بأن لرأيه أساساً فقال: ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن من جهة أخرى.
ثم أخذ يبسط الأسباب التي يظن أنها تبرر هذه الحيلة إلى أن قال:
(أمر هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد، ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني وسياسي أيضاً، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي أن لا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن، إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة . وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك أساطير لا خطر له ولا غناء فيه.
وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور المؤلف للكتاب:
1- أنه خرج من بحثه هذا عاجزاً كل العجز عن أن يصل إلى غرضه، الذي عقد هذا الفصل من أجله، وبيان ذلك أنه وضع في أول الفصل سؤالاً وحاول الإجابة عليه، وجواب هذا السؤال في الواقع هو الأساس الذي يجب أن يرتكز عليه في التدليل على صحة رأيه: هو يريد أن يدلل على أن الشعر الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة في العصر الذي زعم الرواة أنه قيل فيه. وبديهي أنه للوصول إلى هذا الغرض يتعين على الباحث تحضير ثلاثة أمور:
الشعر الذي يريد أن يبرهن على أنه منسوب بغير حق للجاهلية.
الوقت الذي زعم الرواة أنه قيل فيه.
اللغة التي كانت موجودة فعلاً في الوقت المذكور.
وبعد أن تتهيأ له هذه المواد يجري عملية المقارنة، فيوضح الاختلاقات الجوهرية بين لغة الشعر وبين لغة الزمن الذي روي أنه قيل فيه، ويستخرج بهذه الطريقة على صحة ما يدل عليه.
لذا تتضح أهمية السؤال الذي وضعه وهو:
للنجتهد في تعريف اللغة الجاهلية هذه ما هي، أو ما إذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟.
وتتضح أهمية الإجابة عنه. ولكن المؤلف وضع السؤال وحاول الإجابة عنه، وتطرق في بحثه إلى الكلام على مسائل في غاية الخطورة!! صدم بها الأمة الإسلامية في أعز ما لديها من الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث في هذا السبيل بغير فائدة، ولم يوفق إلى الإجابة بل خرج بغير جواب اللهم إلا قوله: إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وبديهي أن ما وصل إليه ليس جواباً عن السؤال الذي وضعه. وقد نوقش في التحقيق في هذه المسألة فلم يستطع رد هذا الاعتراض، ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق من أنه كتب الكتاب للأخصائيين من المستشرقين بنوع خاص وأن تعريف هاتين اللغتين عند الأخصائيين واضح لا يحتاج إلى أن يذكر، لأن قوله هذا عجز عن الجواب. كما أن قوله: إن اللغة الجاهلية في رأيه ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان، لا يمكن أن يكون جواباً عن السؤال الذي وضعه؛ لأن غرضه من السؤال واضح في كتابه إذ قال:
ولنجتهد في تعريف اللغة الجاهلية هذه ما هي وقد كان قرر قبل ذلك: فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود، الذي نجده في المعاجم، حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها، تستعمل حقيقة مرة ومجازاً مرة أخرى، وتتطلب تطوراً ملائماً لمقتضيات الحياة التي يحياها أهل هذه اللغة، فبعد أن حدد هو نفسه معنى اللغة الذي يريده، فلا يمكن أن يقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان، بدون أن يتعرف على واحدة منهما.
فالمؤلف إذن في واحدة من اثنتين: إما أن يكون عاجزاً، وإما أن يكون سيء النية، وقد جعل هذا البحث ستاراً ليصل بواسطته إلى الكلام عن تلك المسائل الخطيرة، التي يتكلم عنها في هذا الفصل. وسنتكلم فيما بعد عن هذه النقطة عند الكلام على القصد الجنائي.
2- أنه استدل على عدم صحة النظرية التي رواها الرواة، وهي تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة، وتعلم إسماعيل العربية من جرهم بافتراض وضعه في صيغة سؤال إنكاري، إذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة، فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة؟
يريد المؤلف بهذا أن يقول: لو كانت نظرية تعلم إسماعيل وأولاده العربية من جرهم صحيحة لوجب أن تكون لغة المتعلم كلغة المعلم.
وهذا الاعتراض موجه في ذاته، ولكنه لا يفيد المؤلف في التدليل على صحة رأيه، لأنه نسي أمراً هاماً لا يجوز غض النظر عنه. هو يشير إلى الاختلافات التي بين لغة حمير ولغة عدنان. وهو يقصد بلغة عدنان اللغة التي كانت موجودة وقت نزول القرآن، لأنه يرى من الاحتياط العلمي أن يقرر أن أقدم نص عربي للغة العدنانية هو القرآن الكريم، وهو يعلم أن حمير آخر دول العرب القحطانية، وقد مضى من وجود إسماعيل إلى وقت وجود حمير زمن طويل جداً. (هذا الكلام فيه نظر؛ فحمير قوم من الدول التي عناها القاضي، وهذه ما هي إلا فروع وفي ظلها.
أي أنه قد انقضى من الوقت الذي يروى أن إسماعيل تعلم فيه اللغة العربية من جرهم إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين زمن يتعذر تحديده، ولكنه على كل حال زمن طويل جداً لا يقل عن عشرين قرناً، فهل يريد المؤلف مع هذا أن يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين دليلاً على عدم صحة نظرية الرواة غير حاسب حساباً للتطور الواجب حصوله في اللغة بسبب مضي هذا الزمن الطويل، وما يستدعيه توالي العصور من تتابع الأحداث واختلاف الظروف؟
إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه من غير شك، ونستطيع إذن أن نقول أن استنتاجه لا يصلح دليلاً على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها، أو أنه إذا ما ثبت وجود اختلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة، من حيث تعلم إسماعيل العربية من جرهم، ولا يضرها أن الأستاذ ينكرها بغير دليل؛ لأن طريقة الإنكار والتشكيك بغير دليل طريقة سهلة جداً في متناول كل إنسان عالماً كان أو جاهلاً.
على أننا نلاحظ أيضاً على المؤلف أنه لم يكن دقيقاً في بحثه. وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث الحديثة، ذلك أنه ارتكن على إثبات الخلاف بين اللغتين على أمرين: الأول: ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه قال: (ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا.
والثاني: قوله ولدينا نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضاً.
أما عن الدليل الأول فإن ما رواه عبد الله بن سلام الجمحي، مؤلف طبقات الشعراء عن أبي عمرو بن العلاء هو ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا.
وقد يكون للمؤلف مآرب من وراء تغيير هذا النص، على أن الذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلام ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي:
وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم، فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الأولى أن يسلم أيضاً بصحة العبارة الثانية؛ لأن الراوي واحد والمروي عنه واحد.
وتكون نتيجة ذلك أنه فسر ما اعتمد عليه عن أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده، بل فسره بعكس ما أراده، وتعين إسقاط هذا الدليل.
وأما عن الدليل الثاني. فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله: ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف.
فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز. وليس أدل على هذا العجز من أن نذكر هنا ما دار في التحقيق من المناقشة بشأن هذه المسألة.
هل يمكن لحضرتكم الآن تعريف اللغة الجاهلية الفصحى ولغة حمير، وبيان الفرق بين لغة حمير ولغة عدنان، ومدى هذا الفرق، وذكر بعض أمثله تساعدنا على فهم ذلك؟
قلت: إن اللغة الجاهلية في رأيي ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل، أولهما لغة حمير، وهذه اللغة قد درست ووضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم، ولم يكن شيء من هذا معروفاً قبل الاكتشافات الحديثة، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى التي سألتم عنها مخالفة جوهرية في اللفظ والنحو وقواعد الصرف، وهي إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العربية الفصحى، وليس من شك في أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية، فأما إيراد النصوص والأمثلة فيحتاج إلى ذاكرة لم يهبها الله لي. ولا بد من الرجوع إلى الكتب المدونة في هذه اللغة.
هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا لنا هذه المراجع أو تقدموها لنا؟
أنا لا أقدم شيئاً.
هل يمكن أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية، ومبدأ وجودها إن أمكن؟
مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده، ولكن لا شك في أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول المسيحي، وظلت تتكلم إلى ما بعد الإسلام، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية قد محيا هذه اللغة شيئاً فشيئاً، كما محيا غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية. وأقر مكانها لغة القرآن.
هل يمكن لحضرتكم أيضاً أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب؟
ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية، وكل ما يمكن أن يقال بطريقة عملية، هو أن لدينا نقوشاً قليلة جداً يرجع عهدها إلى القرن الرابع الميلادي، وهذه النقوش قريبة من اللغة العدنانية، ولكن المستشرقين يرون أنها لهجة نبطية. وإذن فقد يكون من احتياط العلم أن نرى أن أقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن إنما هو القرآن حتى نستكشف نقوشاً أظهر وأكثر مما لدينا.
هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء أكانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية باقية على حالها في وقت نشأتها أو حصل فيها تغيير بسبب تمادي الزمن والاختلاط؟
ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير.
قرار النيابة في التحقيق مع طه حسين من طبعة سنة 1972م بيروت.
تعليقات على محاكمة طه حسين.
لعل من أبرز وأهم من تولوا التعليق على محاكمة طه حسين زميله العارف بكثير من الجوانب الخاصة به الأستاذ محمد نجيب البهبيتي الذي تابع المحاكمة بدقة، ورصد كل ما دار فيها تقريباً، فقال تحت عنوان: كشف إجمالي مركز للحقائق التي أسفر عنها هذا القسم من قرار النيابة:
أريد أن نتوقف هنا قليلاً لنراجع حسابات طه حسين في هذا الجزء من قرار النيابة لنضع النقط على الحروف، فإن هذا النائب من الذكاء بالقدر الذي يجعل لوثباته الفكرية قدراً من الدهشة قد يشغل عن تميز بعض النتائج الأساسية من حيث تأثيرها في القضايا التي أثارها طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي.
1- ساق الأستاذ نور (رئيس نيابة مصر) طه حسين إلى الاعتراف بأمور كانت هي الفصل الحاسم في إسقاط المزاعم العراض التي اتكأ عليها طه حسين في المحاولة الفاجرة لتزييف التاريخ العربي والإسلامي.
وقد سار الأستاذ نور في معالجة القضايا مع الرجل الهارب سيرة الصائد البارع يسد على صيده منافذ الهرب منفذاً بعد منفذ، ويحمله بالتدريج من المنسرب الضيق إلى الأضيق، ويدفعه الدفع الرفيق آخر الأمر إلى المأزق المسدود الذي لا مهرب منه إلا إلى شباكه، فيقع فيها مستسلماً ذليلاً لا يجد وسيلة إلا إليه.
2- ساقه آخر الأمر إلى التسليم بأن اللغات لا تستطيع أن تبقى قروناً دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير. وجعله النائب بهذا التسليم يقدم الاعتراف الواضح بما قاله النائب في قراره وهو: هو يشير إلى الاختلافات التي بين لغة حمير ولغة عدنان. وهو يقصد بلغة عدنان التي كانت موجودة وقت نزول القرآن، لأنه يرى من الاحتياط العلمي أن يقرر أن أقدم نص عربي للغة العدنانية هو القرآن. وهو يعلم أن حميراً آخر دول العرب القحطانية. وقد مضى من وقت وجود إسماعيل إلى وقت وجود حمير زمن طويل جداً، أي أنه قد انقضى من الوقت الذي يروي أن إسماعيل تعلم فيه اللغة العربية من جرهم إلى الوقت الذي اختاره المؤلف للمقارنة بين اللغتين زمن يتعذر تحديده، ولكنه على كل حال زمن طويل جداً لا يقل عن عشرين قرناً.
فهل يريد المؤلف من هذا أن يتخذ الاختلافات التي بين اللغتين دليلاً على عدم صحة نظرية الرواة غير حاسب حساباً للتطور الواجب حصوله في اللغة بسبب مضي هذا الزمن الطويل، وما يستدعيه توالي العصور من تتابع الأحداث واختلاف الظروف؟
إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه بغير شك. ونستطيع إذن أن نقول: إن استنتاجه لا يصلح دليلاً على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها، وأنه إذا ما ثبت وجود اختلاف - مهما كان مداه- بين اللغتين فإن هذا الاختلاف لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة من حيث تعلم إسماعيل العربية من جرهم، ولا يضيرها أن الأستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل؛ لأن طريقة الإنكار والشك طريقة سهلة جداً في متناول كل إنسان عالماً كان أو جاهلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.