وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    "سبحان الله".. جمل غريب ب"رقبة صغيرة" يثير تفاعلا في السعودية    "مساومة جريئة تُفاجئ الحوثيين: نجل قاضٍ يُقدّم عرضًا مثيرًا للجدل للإفراج عن والده"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    المهرة: شجاعة لا مثيل لها.. رجال الإنقاذ يخوضون معركة ضد السيول ينقذون خلالها حياة مواطن    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    الإنذار المبكر بحضرموت يطلق تحذيرا هاما للساعات القادمة    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    الجنوب يفكّك مخططا تجسسيا حوثيا.. ضربة جديدة للمليشيات    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    مسيرة الهدم والدمار الإمامية من الجزار وحتى الحوثي (الحلقة الثامنة)    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر الجاهلي واللغة العربية كيف انتشرت اللغة العربية واتحدت لهجاتها
نشر في حشد يوم 24 - 08 - 2009

للدكتور طه حسين كتاب مشهور عنوانه ( في الشعر الجاهلي ) . وقد جاءت شهرته من الضجة التي أثارها عند صدوره ومن محاكمة مؤلفه بسببه ، فضلاً عن القضية الخطيرة التي تناولها . إذ كان أول كتاب عربي شك ، وشكك ، في ( قيمة ) هذا الشعر ، وانتهى به الشك ( إلى ما يقرب من اليقين ) ب ( أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء ، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين ) و( أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء ) حسب قوله .
صدر هذا الكتاب عام 1926 ، وجاء صدى لآراء المستشرق د. س. مارغوليوث . فقد نشر هذا المستشرق في أوائل القرن العشرين ثلاث مقالات في الأقل يشكك فيها عرضاً في الشعر الجاهلي ، ثم خصه بمقال كامل فصّل فيه شكوكه ، ونشر هذا المقال في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية في يوليو ( تموز ) عام 1925 ، أي قبل أن ينجز طه حسين كتابه ببضعة شهور ، فقد أنجزه في مارس ( آذار ) عام 1926 . ومن يقارن بين الأفكار الرئيسية التي وردت في مقال مارغوليوث وتلك التي وردت في كتاب طه حسين لابد له من أن يلاحظ أنه أعاد إنتاج أفكار هذا المستشرق وتوسع فيها بما يملكه من معرفة واسعة وشاملة بالأدب العربي . وقد ناقش أفكار مارغوليوث في حينه مستشرقون آخرون عديدون منهم جارلز جيمس ليال وجيورجيو ليفي دلافيدا . وتصدى لكتاب الدكتور طه حسين أدباء مصريون كثيرون منهم من نشر مقالات ، ومنهم من ألف كتباً ، في نقد فرضياته واستنتاجاته ، ولكن أبلغ رد عليه كان كتاب الدكتور ناصر الدين الأسد ( مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1956 . فهو كتاب جامع مانع في موضوعه ، درسه من جميع جوانبه دراسة أكاديمية متأنية ، ولم يدع شيئاً يتعلق به من قريب أو من بعيد إلا وعرض له ووضعه في سياقه .
أما أنا فقرأت كتاب الدكتور طه حسين في مطلع شبابي وأعجبت به في حينه ، وإن لم أقتنع بالكثير مما جاء فيه . ومما أعجبني فيه حقاً هو جرأته في مناقشة الأفكار القارّة بلغة واثقة ، ولكنني ترددت في قبول فرضياته واستنتاجاته ، وتحفظت على رأيي فيها حتى قرأت بعد سنوات كتاب الدكتور الأسد . فهذا الكتاب أنار لي الكثير من الزوايا التي كانت غامضة علي بحكم حداثة سنّي ومحدودية قراءاتي ، وعندئذ تبدد ما علق في ذهني من هواجس . ومع ذلك ظل يقلقني الدليل اللغوي الذي اعتمده الدكتور طه حسين في بناء شكوكه ، إذ لم أجد في جميع ما قرأت لنقاده ، بمن فيهم الدكتور ناصر الدين الأسد ، ما ينقض هذا الدليل نقضاً حاسماً يقطع الشك باليقين ، بل أحسست وكأنهم يتفادون الرد عليه ومناقشته فيه ، مع أن طه حسين عدّه ( أبلغ ) دليل يثبت صحة ما ذهب إليه في شكوكه . ولذا بقي هاجس هذا الدليل ينتابني كلما قرأت شيئاً من الشعر الجاهلي أو نظرت في دراسة عنه . ومنذ ذلك الحين صرت ألملم أفكاري حوله كما لو أنني ندبت إمكانياتي المتواضعة لنقضه . وها قد مر على ذلك زمن طويل قرأت خلاله ما تيسر لي أن أقرأ حول الحضارات القديمة وتاريخ العرب قبل الإسلام والشعر الجاهلي ، وهو كثير ومتواصل على ما أزعم ، فخرجت من هذه القراءة بما ينقضه ، حسب ظني .
يذكّرنا طه حسين في المبحث الرابع من كتابه ، مبحث الشعر الجاهلي واللغة ، بأن الرواة كانوا يتفقون ، أو كادوا يتفقون ، على أن العرب الباقية عربان : قحطانيون وعدنانيون . القحطانيون عرب عاربة منازلهم الأولى اليمن ، والعدنانبون عرب مستعربة منازلهم الأولى الحجاز . ثم راح يخبرنا بأن هؤلاء كانوا يتحدثون بلغتين متمايزتين ، بينهما ( خلاف قوي ) كما قال ، وإذا كانت هناك من صلة تربطهما فهي ( كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ) . أما سنده في ذلك فمقولة منسوبة إلى أحد العلماء القدامى هو : أبو عمرو بن العلاء ، مفادها حسب قوله ( ما لسان حمير بلساننا ، ولا لغتهم بلغتنا ) ، ثم زاد على ذلك فقال : إن العلماء المحدثين استطاعوا ( أن يثبتوا هذا التمايز ( بين اللغتين ) بالأدلة التي لا تقبل شكاً ولا جدلاً ) . وبناء على ذلك استنتج ( أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ، ولا يمكن أن يكون صحيحاً ) إذ كيف يمكن لمن هو من قبيلة قحطانية كامريء القيس مثلاً أن ينظم شعره بلغة غير لغة قومه ، أي لغة العدنانيين ؟
ولم يكتف الدكتور طه حسين بذلك ، بل ذهب في مبحث آخر من كتابه ، هو مبحث الشعر واللهجات ، إلى القول ( إن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل ظهور الإسلام ) . ومثلما كان من المستحيل ، أو شبه المستحيل ، أن ينظم شاعر قحطاني قصيدته بلغة العدنانيين ، لم يكن ممكناً لشاعر عدناني من ربيعة أن ينظم شعره بلهجة قبيلة مضرية ، وقل مثل ذلك عن شعراء القبائل العدنانية الأخرى . فاللغة ، عند طه حسين ، لغتان قحطانية وعدنانية ، واللغة العدنانية لهجات متعددة مختلفة ، والشاعر لا يكتب إلا بلغته ولهجته . ولكي يؤكد اختلاف لغة القحطانيين عن لغة العدنانيين ، واختلاف لهجات القبائل العدنانية بعضها عن بعض ، جاء بنظرية سماها ( نظرية العزلة العربية ) . وتفيد هذه النظرية بأن ( العرب كانوا متقاطعين متنابذين ، ولم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجات ) . وما دام الشعر الجاهلي قد جاءنا بلغة واحدة هي لغة العدنانيين ، وبلهجة واحدة هي لهجة قريش ، حسب رأيه ، فلابد له من أن يكون موضوعاً ، ولابد أن يكون قد وضع بعد ظهور الإسلام ، بل بعد نحو قرن من ظهوره توحدت خلاله لغتهم ولهجاتها بفضل القرآن الكريم ، وظهر فيه الرواة الوضّاعون .
هذا هو بإيجاز الدليل اللغوي الذي ساقه الدكتور طه حسين في تسويغ شكه في ( الكثرة المطلقة ) من الشعر الجاهلي ، فما مدى صحة هذا الدليل ؟
لنبدأ أولاً بتقسيم العرب إلى عرب عاربة وعرب مستعربة ، وهو التقسيم الذي اعتمده الدكتور طه حسين في التفريق بين من سُمّوا بالعدنانيين ومن سُمّوا بالقحطانيين ، وجعل من القحطانيين عرباً عاربة لغتهم هي اللغة العربية ، وجعل من العدنانيين عرباً مستعربة وفدوا على الجزيرة العربية من خارجها ، وكانت لغتهم العبرية أو الكلدانية ، حسب رأيه . أقول لنبدأ من هنا فنوضح : أن هذا التقسيم لا نصيب له من الصحة ، فهو تقسيم ملفق موضوع ، وضعه الأخباريون والنسابون بعد ظهور الإسلام بزمن طويل ، فهولا وجود له في أي مرجع قديم مكتوب ، وأخبار العرب في الجاهلية لم تتطرق إليه ، ولم ترد حوله أية إشارة في الشعر الجاهلي على كثرة المنازعات والحروب بين القبائل العربية ، عدنانية وقحطانية ، ووفرة الفخر والمديح والهجاء في أشعارها ، هذا ولم يذكر عنه شيء في القرآن الكريم ، ولا في الأحاديث النبوية ، وهو لم يظهر حين تهاجى شعراء المشركين وشعراء الأنصار في عهد الرسول ( ص ) ، ولكنه ظهر بعد ذلك بزمن طويل ، ظهر بعد أن نشأ علم التفسير وعلم الحديث وصار المفسرون والمحدثون يبحثون عن أجوبة وإيضاحات لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتعلق بالأقوام القديمة الخالية ، وحين عني الأخباريون والنسابون بتاريخ العرب قبل الإسلام وأنسابهم في خضم الصراعات السياسية بين العرب المسلمين . والصحيح أن سكان الجزيرة عرب في كثرتهم الغالبة ، بعضهم كان يقطن اليمن ، وبعضهم انتشر في أنحاء أخرى من الجزيرة العربية ، فهم عرب واحدة وليسوا عربين . قد يصح أن نسميهم عرب الجنوب وعرب الشمال ، ولكن لا يصح أبداً أن نسميهم بالعرب العاربة والعرب المستعربة .
لقد كان من سُمّوا بالعدنانيين يعرفون في الجاهلية باسم ( معدّ ) . فهو الاسم المتداول في التعريف بهم والإشارة إليهم . وقد ورد اسم ( معدّ ) في الشعر الجاهلي كثيراً ، وكان يكفي الشاعر الجاهلي أن يقول ( قد علمت معدّ ) ليعني جميع القبائل التي صارت تعرف في العصور الإسلامية باسم القبائل العدنانية . أما اسم ( عدنان ) فلم يكن متداولاً ، ولم يرد في الشعر الجاهلي إلا مرة واحدة ، في بيت واحد للبيد بن ربيعة العامري ، ولبيد شاعر مخضرم أدرك الإسلام ، وأسلم وحسن إسلامه . وقد جاء هذا البيت في قصيدة متأخرة من قصائده فقال ( فإن لم تجد من دونِ عدنان باقياً / ودون معدٍّ فلتزعك العواذلُ ) . ولكن هذا أمر لا يعول عليه في تسمية قبائل ( معدّ ) بالعدنانيين ، حتى وإن لم يكن البيت منحولاً على لبيد ، وهو ، في أية حال ، لا يصلح أساساً لتقسيم العرب إلى عربين : عاربة ومستعربة . ومع ذلك سأستخدم تسميتي : القحطانيين والعدنانيين في ما يلي من هذا المقال لأغراض التمييز بين عرب الجنوب وعرب الشمال ، نظراً لشيوعهما .
ولنأتِ ثانياً إلى مقولة أبي عمرو بن العلاء فنقول : إن طه حسين الذي يشك في الأخبار التي ينقلها الرواة ويرفضها حين يريد ، نراه يقبلها ويتخذها سنداً له حين توافق هواه . وها هو يقبل هنا خبراً وحيداً عن مقولة لأبي عمرو بن العلاء نقله محمد بن سلام الجمحي في كتابه ( طبقات فحول الشعراء ) برغم أنه من دون سند . غير أنه لم ينقل نص المقولة كما جاء به ابن سلام ، بل حرّفه ليكون أكثر طواعية في الاستجابة لرأيه . فقد نقل عن ابن سلام ، دون أن يذكره ، أن أبا عمرو بن العلاء قال ( ما لسان حمير بلساننا ، ولا لغتهم بلغتنا ) . والصحيح أن النص الذي نقله ابن سلام يقول ( ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ، ولا عربيتهم بعربيتنا ) . فحذف طه حسين من هذه المقولة عبارة ( وأقاصي اليمن ) لكي لا ينحصر الاختلاف في اللغة بقبائل أقاصي اليمن ، وأبدل عبارة ( ولا عربيتهم بعربيتنا ) بعبارة ( ولا لغتهم بلغتنا ) ليوسع الهوة بين لغة القحطانيين والعدنانيين ، وهذا تحريف يجافي قواعد البحث العلمي ، وقد آخذه عليه نقاده ومنهم الدكتور الأسد .
ولنأتِ ثالثاً إلى قول طه حسين ( إن العلماء المحدثين استطاعوا أن يثبتوا وجود تمايز بين لغة القحطانيين والعدنانيين بأدلة لا تقبل شكاً ولا جدلاً ) . ونحن نتفق معه على وجود تمايز بين اللغتين ، ولكنه لم يكن بالدرجة التي صورها لنا . فهو تمايز بين لهجتين من لغة واحدة وليس تمايزاً بين لغتين أجنبيتين ، وهذا ما جعل أبا عمرو بن العلاء يقول ( ولا عربيتهم بعربيتنا ) ولم يقل ( ولا لغتهم بلغتنا ) . وحتى لو كانتا لغتين ، لا لهجتين من لغة واحدة ، فهما لغتان شقيقتان تنتميان إلى عائلة لغوية واحدة تجمعهما خصائص مشتركة كثيرة . والنص اليمني القديم الذي جاء به طه حسين للبرهان على وجود هذا التمايز هو دليل على مدى التماثل في الألفاظ والمعاني بين اللغتين ، وليس العكس . أما حذف حروف الألف والواو والياء من بعض الكلمات في لغة أهل اليمن ، ومنها ما ورد في هذا النص ، فقد يكون مجرد حذف في كتابتها وليس في تلفظها ، وهذا كان يحدث في كثير من اللغات في أول عهدها بالكتابة . ثم أن هذا التمايز قديم يعود إلى أواخر الألف الأول قبل الميلاد ، ولكنه خف وتضاءل في القرون اللاحقة ، كما سنرى في ما بعد .
ولنأتِ رابعاً إلى ما سمّاه طه حسين ( نظرية العزلة العربية ) . فمن الغريب أن يخبرنا في المبحث الثالث من كتابه ، مبحث مرآة الحياة الجاهلية ، بأن العرب ، بدلالة الآيات القرآنية ، لم يكونوا في عزلة عن الأقوام الأجنبية المحيطة بهم من فرس وروم وأحباش وهنود ، وكانت لهم علاقات اقتصادية مع هذه الأقوام ، ويستشهد بسورة قريش ( لإيلاف قريش ، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) في حين يصور لنا ، في المبحث الرابع من كتابه ، أنهم كانوا في عزلة تامة بعضهم عن بعض . فهو يقول بجزم إنهم كانوا ( متقاطعين متنابذين ، ولم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجات ) . وهذا يناقض قوله السابق ، إذ كيف يكونون على صلة قوية بكل تلك الأقوام الأجنبية ، ولا تكون لهم أدنى صلة ببعضهم بعضاً ؟
رب قائل يقول : إن صلتهم بالأجانب هي غير صلتهم بأنفسهم ، فقد كانت بينهم نزاعات وحروب دامية ، وهذا صحيح جزئياً ، فقد كانوا يتنازعون ويتحاربون ، ولكن الحقائق التاريخية تؤكد لنا أن صلات بعضهم ببعض كانت وثيقة جداً بخلاف ما صوره لنا الدكتور طه حسين ، بل أن حروبهم ونزاعاتهم كانت سبباً من أسباب احتكاكهم واختلاطهم ، كما سنرى . فلم يكن بين القحطانيين والعدنانيين سور كسور الصين ، ولا كانت القبائل العدنانية تعيش في جزر منعزلة متنائية . وسندنا في ذلك ليس الروايات الشفوية المشكوك في صحتها ، ولا ما يسميه طه حسين ( أحاديث القصاص ) بل النصوص التاريخية المدونة والآثار المادية الملموسة والمؤلفات الأجنبية المكتوبة قديمها وحديثها .
فالحقيقة هي أن الجزيرة العربية وامتداداتها في بوادي الشام والعراق كانت مسرحاً لحراك نشيط وواسع المدى للقبائل العربية منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد . وهذا ما تكشفه لنا السجلات الملكية الآشورية ، والتوراة اليهودية ، في الأقل . وقد ساعد على تنشيط هذا الحراك دخول الجمل في حياة تلك القبائل منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد ، فقد أصبح من حينها وسيلتها المفضلة لنقل الأفراد والأمتعة والبضائع والتجواب في الأرض بدلاً من الحمير . وهذا الحراك لم يكن مقتصراً على القبائل الشمالية ، بل كان يشمل القبائل الجنوبية . إذ كانت هذه القبائل تتنقل من مكان إلى آخر ، وتستقر هنا أوهناك عند موارد المياه ، أو في مستوطنات أو إمارات تؤسسها ، وكانت تدخل في تحالفات أو منازعات وحروب في ما بينها ، وبينها وبين القبائل العدنانية ، لفرض وجودها . وقد تجلى هذا الحراك في ثلاثة مظاهر أساسية هي : التجارة ( خارجية وداخلية ) ، والهجرة إلى مواطن أخرى ، وحروب التوسع وبسط النفوذ . وهذا ما سنتحدث عنه بشيء من التفصيل لتوضيح أبعاده ومعرفة أثره على التطور اللغوي وشيوع اللغة العربية .
فعلى صعيد التجارة ، كان لممالك الجنوب ، من معينية وسبئية وحميرية ، نشاط كبير وواسع على طريق طويل يمتد من اليمن ، ويمر بالحجاز ، ويصل حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط وبوادي سيناء ، سمّاه بعض المؤرخين المحدثين باسم ( طريق البخور ) وسمّاه المستشرق الفرنسي بلاشير ( طريق التوابل ) . إذ كانت هذه الممالك تصدر اللبان والطيب والبخور والتوابل يوم كان لها أسواق كبيرة الرواج بين أقوام الحضارات القديمة . وهذا ما جعل لها جاليات من تجارها في المدن الواقعة على امتداد الطريق يشرف عليها رئيس يدعى ( كبير ) ومنها جرش وتبالة والطائف ومكة والمدينة والعلا ومدائن صالح وتيماء ودومة الجندل ، وجعلها تحرص على حراسته وتأمينه بحاميات عسكرية من جنودها تستقر في محطاتها الرئيسية في الأقل . وقد كانت هذه المحطات تضم مستودعات للبضائع ومخازن للأسلحة لتستطيع القيام بوظيفتها . ولم تكن تلك الممالك تتردد في تجهيز حملات عسكرية إذا هدد الطريق خطر من الأخطار . وكانت ، في الوقت نفسه ، على استعداد لدفع الأتاوات إلى القبائل المحلية والقوى الإقليمية كما يفهم من الحوليات الآشورية والمصادر اليونانية ، ومن ذلك حوليات الملكين الآشوريين : سرجون وسنحاريب . وقد ذكر المؤرخ الروماني بليني ، وهو من رجال القرن الأول الميلادي ، أن عدد المحطات التجارية بين اليمن وغزة كان يبلغ في زمنه خمساً وستين محطة ، وكان التجار يدفعون رسوم مرور للقبائل التي يمر الطريق التجاري عبر أراضيها ، وعدا ذلك كانوا يدفعون أثماناً عن المياه والأعلاف التي يتزودون بها وأجوراً عن مرابط دوابهم . ولذا كانت هذه المحطات مصدر كسب للقبائل العربية المقيمة فيها ولتلك التي تقيم بجوارها ، وأسواقاً تقصدها جماعات من شتى القبائل . ومن أشهر القبائل القحطانية التي عملت على هذا الطريق قبيلة جذام التي كان رجالها يقومون بإرشاد القوافل واقتيادها حتى ميناء غزة وبوادي سيناء لقاء مكوس يتقاضونها من التجار . وهذا ، ربما ، ما دفع الرحالة اليوناني سترابو إلى القول ( إن كل عربي هو تاجر ) .
على أن ( طريق البخور ) هذا لم يكن الطريق التجاري الوحيد في الجزيرة العربية . فقد كان هناك طريق مائي مواز له يمر عبر البحر الأحمر ويصل حتى خليج العقبة الذي كان يدعى يومئذ : خليج لحيان . وهناك طريق بري وآخر مائي يبدآن من جنوب اليمن فعمان ويصلان إلى سواحل الخليج العربي وامتداداتها إلى العراق . وكانت هناك طرق أخرى تربط ما بين شرق الجزيرة وغربها وجنوبها وشمالها ، وعلى كل هذه الطرق كانت تنقل البضائع الواردة من الهند والصين إلى موانيء الخليج العربي ، كالمنسوجات والحرير والعاج والذهب والتوابل ، ومنها إلى شواطيء البحر الأبيض المتوسط ، وخاصة صور في لبنان وغزة في فلسطين . وعليها كان يصدر سكان سواحل الخليج العربي ما لديهم من اللؤلؤ وريش النعام وغيرها . وقد حدد أوليري المختص بتاريخ الجزيرة العربية خطوط هذه الطرق وأهم محطاتها في كتابه Arabia before Muhammad . ونشطت الحركة على هذه الطرق نشاطاً كبيراً خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد . فحين احتل الفرس الإخمينيون مدينة بابل ( عام 539 ق. م. ) وسقطت باحتلالها الدولة الكلدية ، فر بعض الكلديين إلى الجرعاء ( جرها ) المطلة على خليج فرعي من خلجان الخليج العربي واستوطنوا هناك ، حسب الرحالة اليوناني سترابو . وكانت الجرعاء في الأصل موضعاً من مواضعهم قبل نزوحهم إلى العراق ، ولكنهم حولوها بعد فرارهم إليها من ميناء صغير إلى مدينة عامرة بشوارعها ومبانيها ، وإلى مركز تجاري دولي فعال وسوق محلي كبير للتبادل تسير قوافله التجارية على أربعة طرق تنتشر على طولها محطات كمحطات طريق البخور وهي : طريق مائي يمر بالبحرين ويصل إلى وسط العراق ، وطريق بري يوازيه ، ثم طريق بري آخر إلى جنوب الجزيرة العربية ، وآخر إلى واحة تيماء في شمالها الغربي ، أو إلى دومة الجندل ، ومنهما إلى بلاد الشام ، أو غزة على شواطيء البحر الأبيض المتوسط . وقد اكتشفت مستوطنات هؤلاء الكلديين في المواضع الأثرية في ( أبو زهمول ) عند العقير في منطقة الأحساء .
هذا على صعيد التجارة الخارجية ، أما على صعيد التجارة الداخلية فقد كان ثمة أسواق تنزل فيها القوافل التجارية كتلك التي قامت على ( طريق البخور ) ، ويفد عليها أبناء القبائل من المناطق المجاورة لها والقريبة منها حاملين إليها ما يريدون بيعه أو مبادلته . وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه عشراً منها في طول الجزيرة وعرضها . وذكر ابن حبيب في ( المحبّر ) الأسواق التي ذكرها اليعقوبي وأضاف إليها سوقين أخريين . وأحصى الدكتور يوسف خليف في كتابه ( الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ) أربع أسواق أخرى . وهذه هي الأسواق المشهورة فحسب ، وهناك غيرها أقل شهرة منها ، أو لم تشتهر ، وكان كلها مراكز للبيع والشراء ، ومواقع للقاء والاختلاط وتناقل الأخبار ، وكان بعضها منتديات لتناشد الأشعار كما هو معروف . وقد قدم أبو حيان التوحيدي وصفاً جميلاً لتردد القبائل العربية على هذه الأسواق في الليلة السادسة من ليالي كتابه : الإمتاع والمؤانسة .
أما عن عامل الهجرة في هذا الحراك فكانت هناك أسباب تدفع قبائل اليمن إلى الرحيل نحو الشمال في موجات متلاحقة أهمها سببان هما : الحروب الداخلية والكوارث الطبيعية . فالكتابات التي تركها المعينيون والقتبانيون والسبئيون والحميريون كشفت أن الحروب بينهم كانت مستمرة وقاسية ومدمرة . كما كشفت أن الفيضانات التي تحدثها السيول ، فضلاً عن الحروب ، كثيراً ما كانت تدمر المزارع وتخرب سدود المياه وخزاناتها . فسد مأرب مثلاً تصدع عدة مرات قبل انهياره . وقل مثل ذلك ، ولكن بدرجة أقل ، عن ثوران البراكين وعن انتشار مرض الطاعون في حقبة من الحقب . فهذه كلها أسباب كانت تضطر القبائل الجنوبية إلى الهجرة من اليمن ، كلياً أو جزئياً ، نحو الشمال ، فتستوطن الحجاز ، أو اليمامة ، أو تتجه إلى عمان ، أو تصعد إلى نجد ، أو تمضي إلى سواحل الخليج العربي ، أو نحو بوادي الشام والعراق ، لتستوطن هناك . ولمثل هذه الأسباب هاجر الجراهمة والأزديون والسبئيون وغيرهم . بل هناك من المؤرخين والآثاريين المعنيين بتاريخ اليمن ، ومنهم مونتغمري وأولبرايت وأوليري ، من يرى أن السبئيين أنفسهم هم أصلاً من عرب الشمال ، عرب الصحراء كما يقول ، وأنهم هاجروا إلى اليمن في القرن الثامن قبل الميلاد ، وربما قبل هذا التاريخ ، وأصبح هذا من المتفق عليه بين الباحثين اليوم . وهناك من علماء الآثار من يقول : إن الكلديين الذين مر ذكرهم قبل قليل هم معينيون في أصولهم ، وأنهم هاجروا إلى العراق في أوائل الألف الأول قبل الميلاد ، وربما قبل ذلك ، بناء على كتابات بالخط المسند تعود إلى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد ، عثر عليها في ثلاثة مواقع أثرية عراقية هي : أور والوركاء وعانة ( عانات ) .
ومهما يكن فقد استمرت هجرات القبائل القحطانية إلى الشمال حتى قرون متأخرة ، ثم نهج نهجها بعض القبائل العدنانية ، وخاصة بعد انهيار الدولة الآشورية ( 612 ق. م. ) والدولة الكلدية ( 539 ق. م. ) بحيث أصبحت الأقاليم الشمالية من بلاد الرافدين تعرف ، بعد قرن واحد من سقوط الدولة الآشورية ، باسم ( عربايا ) . وقد ورد هذا الاسم في كتابة بهستون بوصفه اسم إقليم من أقاليم الإمبراطورية الإخمينية في نهاية القرن السادس قبل الميلاد . ثم صار الاسم نفسه يطلق على مملكة الحضر التي أسستها القبائل العربية خلال الحقبة ( 85 238 م ) وكان ملوكها من أصول قحطانية ، كما يظهر من أسمائهم ( مثل : نصرو ، ومعنو ) . ثم أن اللخميين ( وهم أزديون ، قحطانيون ) هاجروا إلى بوادي العراق وأسسوا في أوائل القرن الثالث الميلادي مملكة عرفت في ما بعد بمملكة الحيرة ، أو مملكة المناذرة . وهاجر بعض الأزد إلى تهامة ونزلوا عند عين من عيون المياه يقال لها غسان خلال القرن الرابع الميلادي ، ثم تركوها إلى بوادي الشام وأسسوا مملكة عرفت باسم مملكة الغساسنة . وفي القرن الثالث الميلادي هاجرت بطون من إياد العدنانية من منازلها في تهامة إلى بوادي العراق واستوطنت تخوم مملكة الحيرة وانتشرت على امتداد نهري دجلة والفرات من الأبلة في الجنوب حتى تكريت والأنبار وما والاهما في الشمال . ثم لم تلبث بطون من بكر بن وائل ، وهي عدنانية أيضاً ، أن لحقت بها ، في حين اتخذ بعضها من بوادي العراق مراعي ينتجعونها في الصيف ويعودون إلى منازلهم في الجزيرة في الشتاء . وهناك قحطانيون وعدنانيون لم تحدد أصولهم القبلية استطاعوا منذ القرن الثاني قبل الميلاد أن يسيطروا على سلع ( بطرا ، أو البتراء كما تدعى اليوم ) وما حولها ويؤسسوا مملكة عرفت في التاريخ بمملكة الأنباط . ثم هناك بطون من قبيلة تغلب ، وهي عدنانية ايضاً ، هاجرت في زمن لاحق إلى أطراف المناطق الحضرية في الشام . وهذه الهجرات ليست من ( أحاديث القصاص ) بل وقائع تاريخية ثابتة .
ومن الملوك القحطانيين من سعى إلى بسط نفوذه على أجزاء واسعة من الجزيرة العربية وإخضاع قبائلها العدنانية لهيمنته ونفوذه . فقد نشب صراع عنيف وطويل الأمد بين ملوك الحيرة في الشمال وملوك اليمن ثم ملوك كندة في الجنوب لتحقيق هذا الهدف . ففي أوائل القرن الرابع الميلادي قاد ملك الحيرة امرؤ القيس بن عمرو ( ت. 328 م ) جيشاً من الشمال عبر الحجاز وأخضع القبائل العدنانية لسلطانه ونصب أبناءه ملوكاً عليها ، حتى أنه صار يطلق عليه لقب ( ملك العرب ) وهذا ما يؤكده النص المعروف بنص النمّارة . ثم واصل امرؤ القيس زحفه حتى وصل بجيشه أسوار نجران واصطدم بجيش ملك اليمن شمر يهرعش ( الثالث ) كما يفهم من النص . ويبدو من كتابات هذا الأخير أن القبائل العدنانية التي تقطن ما بين مكة ونجران كانت خاضعة لنفوذه قبل غزوة امريء القيس . وفي حقبة قريبة من هذه الحقبة قاد أحد قادة شمر يهرعش جيشاً من أعراب كندة ومذحج وهاجم به منازل قبائل أسد وتنوخ ، كما جاء في بعض الكتابات اليمنية . وتخبرنا هذه الكتابات أيضاً أن الملك أبو كرب أسعد استولى على أواسط الجزيرة العربية وأخضع القبائل العدنانية لنفوذه في أوائل القرن الخامس الميلادي حسب تقدير المختصين بتاريخ اليمن والجزيرة العربية . أما الأخباريون العرب فيروون أن ملك كندة حجر ( المعروف بآكل المرار ) قد تملك على بكر بن وائل بطلب من ساداتها ، فغزا بهم ملوك الحيرة اللخميين وانتزع أكثر ما في أيديهم من البلاد ( التي تقطنها القبائل العدنانية عادة ) . ثم تولى الملك بعده ابنه عمرو بن حجر ، فحفيده الحارث بن عمرو ، وأمّر هذا الأخير أبناءه الخمسة على هذه القبائل ، فصار حجر ، أبو الشاعر امريء القيس ، ملكاً على أسد وغطفان ، وشرحبيل ملكاً على بكر بن وائل وحنظلة بن مالك ، ومعديكرب ملكاً على تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم ، وسلمة ملكاً على قيس بأسرها ، وعبد الله ملكاً على بني عبد القيس ، واستمر هؤلاء ملوكاً عليها حتى أواخر النصف الأول من القرن السادس الميلادي . وقد كان لهذه الغزوات ثلاثة أسباب رئيسية كما يبدو : أولها تأمين الطرق التجارية وحمايتها من غارات القبائل العدنانية ، وثانيها إخضاع هذه القبائل وفرض إتاوات سنوية عليها ، وثالثها استخدامها في الحروب والغزوات .
ولعل مما له دلالة في هذا المجال أن ملوك الحضر وسلع والحيرة وكندة ، وكلهم ينحدر من أصول قحطانية كما يبدو ، كانوا يحرصون على أن يطلقوا على أنفسهم لقب ( ملك العرب ) ما إن تستتب أوضاعهم وتمتد رقعة ممالكهم ومناطق نفوذهم . فقد كان سكان هذه الممالك خليطاً من القحطانيين والعدنانيين . بل هم ما كانوا يستخدمون هذا اللقب إلا بعد أن يخضعوا القبائل العدنانية ، أو بعضها في الأقل ، لسيطرتهم . وكان هذا اللقب يحمل معاني عدة منها سعة النفوذ وكثرة الأتباع .
وفي مقابل ذلك كانت القبائل العدنانية تتمرد على هؤلاء الملوك كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً . فقد كانوا يتعسفون معها ، ويأخذون منها رهائن من أبنائها ، ويجندونهم في حروبهم وغزواتهم ، ويفرضون عليها أتاوات باهظة ، ويتشددون في استحصال هذه الأتاوات منها ، ولا يتورعون عن إذلالها وإهانة ساداتها . بل أنهم كانوا يفرقون في ما بينها ، ويميزون قبيلة على أخرى ، ويستخدمون بعضها ضد بعض في حالات التمرد والامتناع عن دفع الأتاوات . ولذا كان التمرد يبلغ أحياناً أقصاه فيطرد المتمردون عمال الملك ، وقد يقتلونهم ويقتلون الملك نفسه إذا ظفروا به ، كما قتلت قبيلة أسد حجر بن الحارث ، وقتلت قبيلة تغلب عمْراً بن هند .
إذن فقد كان ثمة تجارة خارجية وداخلية نشيطة ودائمة ، وهجرات مستمرة ، وحروب كثيرة ، أدت إلى حدوث احتكاك دائم واختلاط واسع بين القبائل القحطانية والعدنانية . وقد كان هذا الاختلاط يحدث على أشده في القرى ( المدن ) والبلدات ، كنجران وقرية الفاو وجرش وتبالة والطائف ومكة والمدينة وهجر والجرعاء ( وسواحل الخليج العربي عامة ) والعلا وحجر ( مدائن صالح ) وتيماء ودومة الجندل والحيرة والأنبار وسلع وكل المحطات التجارية الممتدة على الطريق إلى حوران في الشمال , وإلى غزة وسيناء في الغرب . ومن الأدلة الملموسة على حدوث هذا الاختلاط ما كشفت عنه الكتابات التي عثر عليها في المواقع الأثرية الخاصة بمملكة الأنباط وعاصمتها سلع ( بطرا ) في الأردن ، وتلك التي عثر عليها في قرية ( قرية الفاو ) عاصمة مملكة كندة في جنوب السعودية . فقد ظهرت في هذه الكتابات أسماء أشخاص ومعبودات بعضها قحطاني وبعضها عدناني ، وهو أمر يدل على أن السكان ، في المدينتين ، كانوا خليطاً من القحطانيين والعدنانيين .
ونحن نعرف ، عدا ذلك ، أن قريشاً كانت تعيش في مدينة مكة جنباً إلى جنب مع قبيلة خزاعة ( القحطانية ) . وحين هاجرت قبيلة طيء ( القحطانية ) من اليمن نزل بعضها في عالج بجوار قبيلة غطفان ( العدنانية ) وبعضها بجوار قبيلة أسد ( العدنانية ) ثم انتزعت منها جبلي أجأ وسلمى ، قبل أن تتصالحا وتتعايشا في سلام . أما قبيلة كلب ( القحطانية ) فنزلت في أول عهدها بالهجرة في خبت ورملة عالج ، في حين نزلت قبيلة عذرة في وادي القرى قرب مكة . وكانت سواحل الخليج العربي ( وهي يومئذ تعرف باسم : البحرين ) موطناً مشتركاً للعديد من بطون القبائل القحطانية والعدنانية . وعقدت هناك بطون من الأزد والأشعر بن كهلان وفهم بن تيم اللات مع بطون من إياد تحالفاً على التآزر والتناصر في ما بينها وأطلق على هذا الحلف اسم تنوخ . فتنوخ كما يجمع المؤرخون ليس اسم قبيلة قحطانية ، بل اسم هذا الحلف القحطاني _ العدناني . وحين هاجر بعض التنوخيين من هناك إلى العراق كانوا في الواقع مزيجاً من القحطانيين والعدنانيين . وكانت بطون إياد وبكر بن وائل ، من أكثر القبائل العدنانية اختلاطاً وأقواها صلة بالقبائل القحطانية التي استوطنت العراق وحكمت في مملكة الحيرة ، في حين استوطنت بطون من تغلب العدنانية في أطراف بلاد الشام وعاشت في كنف الغساسنة . وكان الشعراء العدنانيون يفدون على ملوك الحيرة جيلاً بعد جيل وملكاً بعد ملك ، ومعهم ، أو من دونهم ، وفود من قبائلهم ، وخاصة في عهد المنذر بن ماء السماء وابنه عمرو ومن تلاه في الملك . وكان بعض هؤلاء الشعراء يقصد الملوك الغساسنة في الشام إذا ما دفعه دافع ذاتي أو قبلي إلى ذلك . وهذه كلها مجرد أمثلة ، وهناك أمثلة أخرى كثيرة ، تدل على أن الاتصال والاختلاط بين القبائل القحطانية التي استوطنت الشمال والقبائل العدنانية حقيقة تاريخية صلبة .
إذن فقد كان هناك حراك قبلي واسع ونشيط ومستمر لقبائل الشمال وقبائل الجنوب ، يمتد مسرحه من تخوم اليمن حتى أقاصي بوادي العراق والشام وسيناء . وقد رافق هذا الحراك اختلاط واسع بين هذه القبائل . ومثل هذا الحراك ، وهذا الاختلاط ، يدحضان نظرية العزلة التي قال بها الدكتور طه حسين دحضاً تاماً ، خاصة وإنهما اقترنا بتفاعل إنساني واسع بين القحطانيين والعدنانيين . واتخذ هذا التفاعل صوراً شتى من أبرزها : العيش المشترك في القرى والبلدات ، والمصاهرات ، والأحلاف ، والعلاقات التجارية ، والأسواق المشتركة ، والحج والمواسم الدينية ، والإجارة والمجاورة ، والمنازعات والحروب ، والحكم والسيطرة ، وتجييش الجيوش ، وارتهان الرهائن ، واقتياد الأسرى والسبايا والأخيذات ، وإيفاد الوفود ، فضلاً عن السفر والترحال ، وكل ذلك كثير ، بل كثير جداً وفي وسع المرء أن يلمسه متى ما قرأ تاريخ العرب قبل الإسلام قراءة مفصلة . فكان لابد لهذا كله من أن يفضي إلى واحد من أمرين على صعيد اللغة : فإما أن يتعلم أحد الطرفين لغة الطرف الآخر ، أو أن يحدث تفاعل لغوي عميق يقرب اللهجات بعضها من بعض ويوحدها في لغة واحدة مشتركة قد يصح أن نسميها ( لغة وسطى Langue Moyenne ) كما سماها المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير .
إن كلا الاحتمالين ممكن في مثل هذه الظروف ، وكلاهما يفضي إلى النتيجة نفسها وهي : توحد لغة عرب الشمال من عدنانيين وقحطانيين . على أن المرجح عندي هو أن القحطانيين هم الذين تعلموا لغة العدنانيين وصاروا يتحدثون بها : إما لكون هؤلاء كانوا الأغلبية الساحقة في الشمال ، أو لميزات خاصة بهذه اللغة وأبجديتها ، أو لهذين السببين ولأسباب أخرى لا نعرفها . وثمة قول للأصمعي ، نقله الحاتمي ، يؤكد ذلك . وقد ورد هذا القول في معرض حديث للأصمعي عن الراوية خلف الأحمر ، قال ( كأنما جُعِلَ علمُ لغةِ ابني نزار ، ومن كان من بني قحطان على لغة ابني نزار ، بين جوانح خلف بمعانيها ) . إذن فقد كان هناك من بني قحطان من كان على لغة ابني نزار ( بن معدّ ) بحسب الأصمعي ، وهذا يعني أن هؤلاء قد تعلموا هذه اللغة من النزاريين . ومما يدل على أرجحية هذا الاحتمال سعة انتشار لغة أهل الحجاز من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله ، وكذلك الوقت المبكر الذي انتشرت فيه . فقد بدأ هذا الانتشار منذ القرون الميلادية الأولى ، وهذا ما كشفت عنه كتابات مملكة الأنباط التي عثر عليها في سلع ( بطرا ) وفي غيرها ، والكتابات التي عثر عليها في قرية ( قرية الفاو ) عاصمة مملكة كندة (100م _ 600 م ) وكذلك نص النمّارة الذي عثر عليه في مدفن ملك الحيرة امريء القيس بن عمرو ( ت. 328 م ) .
فلغة الكتابات النبطية التي عثر عليها في سلع ، وفي مواقع أخرى تمتد من مدائن صالح حتى سيناء ، هي أقرب إلى لغة أهل الحجاز ، في أبجديتها ومفرداتها وتركيبها النحوي ، أي نحو اللغة العربية الفصحى ، كما يقول المختصون ، برغم أنها كتبت بخط آرامي طُوِّر وصُقل ليلائم هذه اللغة . فقد سيطر العرب على هذه المملكة وأصبحوا الأكثرية الساحقة فيها منذ القرن الثاني قبل الميلاد ، ثم ازدهرت مملكتهم خلال القرن الأول قبل الميلاد وامتدت على مساحات واسعة من الأراضي ، وحكمها عشرة ملوك عرب بالتتابع كان أولهم حارثة الأول ( 169 120 ق. م. ) وآخرهم رب إل الثاني ( 70 _ 106 م ) حتى سقطت بأيدي الرومان ( عام 106 م ) .
أما الكتابات التي اكتشفت في قرية ( قرية الفاو ) عاصمة مملكة كندة ، فيعود تاريخها إلى الحقبة الواقعة بين القرنين الأول والخامس للميلاد . وبرغم أن الخط المستخدم في هذه الكتابات هو الخط اليمني المعروف بالخط المسند كانت لغتها مزيجاً من لغة أهل الشمال ولغة أهل الجنوب ، وكانت حروف الأبجدية الشمالية واضحة فيها كما تؤكد المكتشفات الأثرية السعودية في أواخر سبعينيات القرن العشرين . وهذا يدل على أن سكانها كانوا خليطاً من القحطانيين والعدنانيين ، وأن لغة أهل الشمال هي التي تسربت إلى لغة أهل الجنوب وفرضت نفسها عليها ودخلت في نسيجها . والأمر نفسه ينطبق على نص النمّارة الذي يعود تاريخه إلى أوائل القرن الرابع الميلادي . فعربية هذا النص واضحة في أكثر مفرداته وفي أبجديته .
وثمة ظاهرة أخرى لم يلتفت إليها أحد في حدود علمنا ، ولكنها مهمة وذات دلالة عميقة ، هي التغير الذي طرأ على أسماء الأشخاص الذين هاجروا من اليمن إلى الشمال واحتكوا بالعدنانيين وخالطوهم بدءاً من نجران وقرية الفاو حتى أقاصي بوادي العراق والشام . فمن يطلع على أسماء الملوك والقادة والنبلاء التي وردت في الكتابات اليمنية ويقارنها بأسماء أبناء القبائل اليمنية المهاجرة لابد أن يلاحظ هذه التغير . فقد اتخذت هذه الأخيرة نسقاً لغوياً مختلفاً في تركيبها ، ففصحت ، بل قل : تعربّت ، وصارت تنطق وتكتب بلغة أهل الشمال ، أي لغة العدنانيين ، وهذا دليل واضح على غلبة هذه اللغة على شقيقتها لغة أهل الجنوب . فأين أسماء مثل : ياسر يهصدق ، وذمر علي يهبر ، وشمر يهرعش ، وثأران يعب يهنعم ، وشرح وددم ، وأمثالها ، من أسماء مثل : عمرو بن عدي ، وامريء القيس بن عمرو ، والمنذر بن امريء القيس ، ومعاوية بن ربيعة ، والحارث بن عمرو ، والحارث بن كعب .
والواقع أن الاختلاط والتفاعل بين الطرفين في الشمال أحدث تغييرات أخرى كثيرة في الأسماء منذ عهد مبكر . فثمة أسماء عدنانية تسربت إلى القحطانيين مثل : عمرو ، وعدي ، وربيعة ، وكعب ، وتيم . وثمة أسماء قحطانية تسربت إلى العدنانيين مثل : ذبيان ، والحرث ، وعلي ، وأوس ، وزيد ، ومعاوية . وثمة أسماء أصبحت أسماء مشتركة بين الطرفين مثل : حارثة ، ومالك ، وسعد ، ووعلة ، وعبد اللات ، وتيم اللات ، وزيد مناة ، وعبد مناة وغيرها . وظهرت أسماء مركبة من اسمين ( اسم الإبن واسم الأب ) أحدهما قحطاني والآخر عدناني مثل : معاوية بن ربيعة ، وهو أحد ملوك كندة ، وامرؤ القيس بن عمرو ، أحد ملوك الحيرة ، وكهلان بن وائل ، وهو طبيب من سلع عاصمة الأنباط ، وشراحيل بن مرة بن ذهل بن شيبان ، وهو من سادة قومه بني ذهل بن شيبان ، وعلي بن بكر بن وائل ، وهو من سادة بكر بن وائل ، وشداد بن أوس بن عبد شمس ، وهو شاعر عدناني .
وخلاصة القول : أن هذا التشابك في الأسماء وظهور الأسماء المختلطة والأسماء المشتركة دليل واضح وملموس على أنه أثر عميق وخفي من آثار المجاورة والاختلاط والمصاهرة بين القحطانيين والعدنانيين . وتغير التركيب اللغوي للأسماء القحطانية دليل مشابه على غلبة لغة أهل الشمال على لغة أهل الجنوب . ومع هذا كله لا أنفي إمكانية ولادة لغة مشتركة واحدة ، أو لغة وسطى ، من حدوث هذا التفاعل الطويل الأمد بين اللغتين ، فثمة أيضاً أثر واضح للغة أهل الجنوب في لغة أهل الشمال يعرفه اللغويون . وليس هذا بغريب ، فقد استغرق التفاعل الإنساني واللغوي بين أهل الشمال وأهل الجنوب قروناً طويلة قبل ظهور الإسلام وكان هذا التفاعل مصهراً للهجات كلها حتى لم يبق من الاختلافات في ما بينها إلا الشيء اليسير ، كذلك الاختلاف بين لهجة تميم ولهجة أهل الحجاز مثلاً .
ومعنى ما تقدم أن لغة الذين استوطنوا الشمال تطورت وتقاربت لهجاتها وتبلورت في لغة واحدة خارج حدود اليمن نفسها ، وهذا طبيعي لأن مسرح الحراك والاختلاط والتفاعل كان خارجها ، أي في الشمال . وهذا يعني أن العدنانيين لم تكن بهم حاجة إلى تعلم لغة القحطانيين ليتعربوا كما توهم الأخباريون ، بل أن القحطانيين هم الذين تعلموا لغة العدنانيين وتحدثوا بها . فالقبائل القحطانية التي استوطنت الحجاز ونجداً وسواحل الخليج العربي والعراق والشام ( كالأوس ، والخزرج ، وطيء ، ولخم ، وكلب ، وعذرة ، وجذام ، وعاملة ، وغسان ، وغيرها ) أو تلك التي عاشت على تخوم مستوطنات العدنانيين ( ككندة وخثعم ومراد وزبيد وجرم وعامة مذحج ) صار كلها يتحدث بهذه اللغة . وقد بلغ ذلك أوجه خلال القرن الرابع الميلادي . حتى إذا حل القرن الخامس كان كل عرب الشمال ، من عدنانيين وقحطانيين ، يتحدثون بلغة واحدة ، هي اللغة العربية الفصحى ، ثم أصبحت هذه اللغة لغة أهل اليمن نفسها ، بحيث لم يبق فيها من يتحدث بغيرها منذ مطلع القرن السادس الميلادي حسب تقديرات المستشرق نولدكه ، ربما عدا قبائل ( أقاصي اليمن ) بتعبير أبي عمرو بن العلاء الذي حذفه طه حسين من نصه .
أما كيف تبلورت هذه اللغة في مفرداتها وتكونت قواعدها النحوية والصرفية خلال القرون حتى بلغت ما بلغته في الشعر الجاهلي ، فأمر لا يسعنا الحديث عنه ، لأننا لا نملك في الوقت الحاضر وثائق مدونة كثيرة نستدل بها على كيفية تطورها وعلى مراحل هذا التطور وحيثياته . غير أن عجزنا الراهن عن معرفة ذلك لا يبيح لنا رفض نتيجته الملموسة التي وصلتنا في هذا الشعر ولا يجيز التشكيك فيها على نحو ما فعل الدكتور طه حسين . فلقد كان بين نشوء الحراك الذي تحدثنا عنه وبين ظهور الشعر الجاهلي باللغة التي وصلنا بها نحو ثلاثة عشر قرناً في الأقل ، وهي مدة كانت كافية جداً لأن يتعلم عرب الجنوب المهاجرين لغة عرب الشمال ، وتتقارب لهجات القبائل العربية ، وتتبلور في لغة واحدة هي اللغة التي نسج بها هذا الشعر . ولا غرابة في ذلك . فأقصى زمن حدده الجاحظ لظهور الشعر الجاهلي هو قرنان قبل ظهور الإسلام ( كتاب : الحيوان ) وهذا يبدو معقولاً وإن ضاعفه الأصمعي كما نقل ( ثعلب ) في ( مجالس ثعلب ) . ومع أن الباحثين المعاصرين يميلون إلى الاعتقاد بأن زمن ظهور هذا الشعر يتوسط هذين الزمنين ، وهذا احتمال لا يوجد ما ينفيه ، ولكن تقدير الجاحظ يظل هو الأقرب للحقيقة التاريخية ، إذا ما نظرنا بتأن في مراحل تطوره . فما هي هذه المراحل ؟
إن البدايات الأولى لنشوء الشعر الجاهلي لم تصلنا ، ولكن من يدرس تاريخه ويتتبع مراحل تطوره حتى ظهور الإسلام ، سيجد أنه مر بخمس مراحل متصلة تطور خلالها تطوراً طبيعياً متدرجاً لا انقطاع فيه ولا طفرة . ويمكن تحديد هذه المراحل على النحو الآتي :
1 مرحلة البدايات الساذجة ، وهي مرحلة غامضة حاول فيها أفراد قول جمل مسجوعة وأراجيز تتوفر على قدر من التناغم والانسجام ، وهذا ما يؤيده عدد كبير من الباحثين ، ومنهم بعض المستشرقين مثل بروكلمان وغولد تسيهر . على أن نصوص هذه المرحلة مجهولة ، وكذلك تاريخ ظهورها ، فهي مما قال عنه عمر بن شبة ( إن للشعر أولاً لا يوقف عليه ) . إذ كانت هذه الأسجاع والأراجيز تقال وتمضي في لحظاتها العابرة ، ولم يكن ثمة رواة يكترثون لها ويعنون بحفظها وروايتها ، ولكنها متوقعة بصفتها نصوصَ مرحلةٍ تمهيدية أولى . ونحن نخمن أن هذه النصوص بدأت بالظهور منذ أوائل القرن الخامس الميلادي ، والمرحلة التي ظهرت فيها قد تكون أطول من المراحل التي تلتها ، وربما استغرقت جيلين متعاقبين .
2 مرحلة البدايات الحقيقية ، وهي مرحلة أقل غموضاً من المرحلة السابقة ، نجح فيها بعض من يمتلكون ملكة الشعراء في قول بيت موزون أو بيتين ، وربما عدة أبيات ، وظهر إلى جانبهم رواة يعنون بحفظها وروايتها لما فيها من مغزى إنساني مؤثر ، فوصل بعضها إلينا في ما نقله ابن سلام عن شعراء مثل : العنبر بن عمرو بن تميم ، ودويد بن زيد بن نهد ، وأعصر بن سعد بن قيس عيلان ، والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد ، وعبد الله بن ميمون المري ، وزهير بن جناب الكلابي ، وغيرهم . ومن المؤكد أن الكثير من نصوص هذه المرحلة الشعرية قد ضاع فلم يصلنا ، وما وصلنا منه ليس بالكامل ، وأغلبه ، أو كله ، من شعر المتأخرين من شعراء هذه المرحلة .
3 مرحلة القصائد المهلهلة ، وهي مرحلة طالت فيها القصائد حتى زادت على العشرة أبيات وبلغ بعضها نحو ثلاثين بيتاً ، وربما أكثر من ذلك ، ولكنها لم تكن تخلو من ضعف ، ومن عثرات وزنية أحياناً كما هو الحال في ( بائية ) عبيد بن الأبرص مثلاً . وقد اختلف القدامى في من يكون أول من ( قصَّد القصائد ) وكتب قصيدة بمثل هذا الطول . فابن سلام يرى أنه المهلهل بن ربيعة والمرقّشان الأكبر والأصغر . ولكن هناك من قال : إنه الأفوه الأودي ، وهناك من خالف فقال : إنه ابن حذام الذي ذكره امرؤ القيس في إحدى قصائده . وقال غيرهم : إنه عبيد بن الأبرص الذي قتله المنذر بن ماء السماء في يوم من أيام بؤسه كما ذكرت إحدى الروايات . وغيرهم قال : بل هو عمرو بن قميئة الذي أدركه امرؤ القيس في شيخوخته واصطحبه في رحلته إلى بلاد الروم . ويبدو أن للعصبية القبلية أثراً في هذه الترشيحات . أما نحن فنعتقد بأن هؤلاء جميعاً كانوا من شعراء هذه المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام بنحو قرن ، فهم ممن أدركوا ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء الذي تملّك في أوائل القرن السادس الميلادي ( بين 505/554 م ) ووفد بعضهم بل أغلبهم عليه . وربما كان ابن سلام مصيباً حين قال : وإنما قُصِّدت القصائدُ وطُوِّل الشعرُ على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف ، فهما من رجال هذه الحقبة وما بعدها .
4 - مرحلة الفن والصنعة ، وهي المرحلة التي تطورت فيها القصيدة كماً ونوعاً ، فقد طالت حتى بلغت عشرات الأبيات ، وتطور بناؤها تطوراً كبيراً وأصبح لها شكل فني خاص ، وانتظمت أوزانها وتنوعت ، وصارت تحفل بالمشاهد والصور والتشبيهات الجميلة ، حتى غدت جديرة بأن تسمى شعراً . ومن أبرز شعراء هذه المرحلة : امرؤ القيس بن حجر ، وطرفة بن العبد ، والحارث بن حلزة ، وعمرو بن كلثوم ، وعلقمة بن عبَدة ، وأوس بن حجر ، والمثقب العبدي . وقد ازدهر الشعر في هذه المرحلة ازدهاراً كبيراً ، فاهتمت به القبائل ، وأصبح له رواة يحفظونه ويروونه ، وصارت الملوك تشغف به وتطلبه ، وكان أغلب من ذكرنا من شعراء هذه المرحلة ممن يترددون على بلاط ملك الحيرة : عمرو بن المنذر بن ماء السماء ( المعروف بعمرو بن هند 554 _ 569 م ) . وقد سبقت هذه المرحلة ظهور الإسلام بأكثر من نصف قرن .
5- مرحلة الشعراء المخضرمين ، وقد أطلقنا عليها هذا الاسم برغم أن بعض شعرائها مات قبل ظهور الإسلام . والشعر في هذه المرحلة هو امتداد لشعر المرحلة السابقة في فنه وصنعته . وقد ازداد عدد الشعراء في هذه المرحلة زيادة كبيرة ، ومن أبرزهم : عنترة بن شداد ، والنابغة الذبياني ، وزهير بن أبي سلمى ، وأمية بن أبي الصلت ، والأعشى ، وعامر بن الطفيل ، وعمرو بن معديكرب ، والخنساء ، ولبيد بن ربيعة ، وكعب بن زهير ، والشمّاخ ، وحسان بن ثابت ، والحطيئة ، وأبو ذؤيب الهذلي ، وكلهم ممن عاصر ملك الحيرة النعمان بن المنذر ( ت. 602 م ) وبعضهم أدرك الإسلام وأسلم ، ومنهم من لم يسلم ، وفيهم من عاش حتى أواخر عهود الخلفاء الراشدين ومن أدرك العصر الأموي .
وقد كانت كل مرحلة من هذه المراحل تفضي إلى أخرى تليها وتتقدم بالشعر درجة أعلى من سلم تطوره ، ونهضت بها خمسة ( أو ستة ) أجيال متعاقبة ومتداخلة من الشعراء والرواة ، كان أغلبهم يرتبط بعلاقة قرابة مع شاعر أو أكثر من شعراء مرحلة سابقة على مرحلته ، فهو إما ابنه ، أو ابن أخيه ، أو ابن أخته ، أو حفيده ، أو سبطه ، أو غير ذلك من علاقات القرابة والنسب . وكان أغلب هؤلاء راوية لشاعر آخر سبقه ، فكانت القرابة والرواية ، فضلاً عن المنافسة والتأثير المتبادل بين الشعراء ، عوامل ساعدت على تسريع حركة تطور الشعر والبلوغ به درجة النضج والاكتمال . ولو حاولنا تقدير مدى زمني لمجموع تلك المراحل لما زاد عن قرنين في أية حال من الأحوال ، وهذا ما يجعل تقدير الجاحظ تقديراً صائباً ومقبولاً في رأينا .
ويظهر من دراسة هذه المراحل أن الشعر الجاهلي نشأ بين العدنانيين وتطور على أيدي شعرائهم ، فقد كانوا في ذلك أسبق من القحطانيين . يدل على هذا ما وصلنا من شعر الشعراء وأنسابهم . فالذين ( قصّدوا القصائد ) كانوا كلهم من العدنانيين . ويقول محمد بن سلام : إن الشعر كان في ربيعة ، ثم تحول إلى قيس ، ثم آل إلى تميم ، وهذه كلها قبائل عدنانية . وكان أبرز الشعراء وأهمهم ، عدا امريء القيس ، من العدنانيين ، وظل الأمر كذلك حتى نهاية العصر الأموي . وقد لا يكون ثمة سبب واضح لتفسير هذه الظاهرة ، ولكننا نعزوها إلى طبيعة التطور اللغوي وظروفه ، فلغة الشعر الجاهلي هي لغة العدنانيين ، والتطور اللغوي عندهم كان أسرع وأكمل . وهناك حقيقة تاريخية قد تفسر هذه الظاهرة أو تنيرها . وهي أن القبائل القحطانية المقيمة في اليمن لم يؤثر عنها أي شعر . ولم يظهر في الكتابات التي اكتشفت في منازلها ومدنها شيء منه . نعم ، لقد اكتشف في هذه الكتابات بعض الأدعية الدينية القليلة ، ولكنها ليست شعرية كتلك التي اكتشفت في كتابات السومريين والبابليين والفراعنة مثلاً . وأما القبائل القحطانية التي هاجرت إلى الشمال فلم يظهر فيها شعراء إلا بعد ظهور الشعر بين العدنانيين وبلوغه درجة كبيرة من النضج والاكتمال والانتشار ، والأرجح أن هذا حدث تقليداً للعدنانيين وتأثراً بهم ومنافسة لهم ، وخاصة بعد أن أصبح الشعر سلاحاً من أسلحة القبيلة في حروبها ونزاعاتها . ولا يستثنى من ذلك سوى امريء القيس ، وهو استثناء له ظروفه في واقع الأمر ، وربما احتاج إلى وقفة خاصة منا بعد أن نقول كلمتنا في لغة هذا الشعر .
فالملاحظ أن هذه اللغة تختلف في بعض ظواهرها عن لغة القرآن الكريم ( أي لغة قريش ) كما يقال أحياناً . فلغة هذا الشعر خشنة تكثر فيها الصياغات اللغوية الوعرة ، والفوارق اللهجية ، والمفردات المستخدمة في الحياة اليومية البدوية ، وأسماء المواضع والجبال والوديان والبوادي والآبار وعيون المياه ، ثم المفردات الغريبة والشاذة والنادرة . وعدا ذلك تظهر في هذه اللغة اجتهادات الشعراء الخاصة في استخدام المفردات واشتقاقها ، وفي بناء الجمل وتركيبها . وهذا كله مما لا نجده في لغة القرآن . فهذه اللغة سلسة عذبة ، وهي لغة دينية ليست معنية بتفاصيل الحياة اليومية البدوية ، ومصدرها واحد وأسلوبها واحد ، وهي ليست لغة شعراء متعددي اللهجات مختلفي الأساليب . ويلاحظ أيضاً أن هناك مئات المفردات التي ظهرت في هذا الشعر ولم تظهر في القرآن . ومعنى ذلك كله أن الشعراء الجاهليين لم ينظموا قصائدهم بلغة القرآن ، أو بلهجة قريش ، كما أراد طه حسين أن يوهمنا ، بل نظموه بلهجاتهم القبلية المختلفة ، ومن شاء أن يبحث عن بقايا الفوارق بين هذه اللهجات في الشعر الجاهلي يجدها ، ومن ذلك بقايا الفوارق بين لهجة الشعراء النزاريين ولهجة الشعراء المضريين ، ولهجة الشعراء القرشيين ولهجة الشعراء الهذليين على ما بينهم من قرب المكان ، ولهجة الشعراء العدنانيين ولهجة الشعراء القحطانيين . ولكن هذه الفوارق كانت تتضاءل جيلاً بعد جيل ، حتى أصبحت خلال القرن السادس الميلادي من الضآلة بحيث يبدو الشعر الجاهلي لغير المدقق وكأنه منظوم بلهجة واحدة .
ولكل ما سبق كانت لغة الشعر الجاهلي عصية على غير العرب ، ومنهم الذين اشتغلوا بروايته وتدوينه كحماد الراوية وخلف الأحمر ، فاضطر هؤلاء إلى ارتياد البوادي ومشافهة الأعراب للوقوف على المعاني والدلالات واللهجات والصياغات ، ثم تدوينها وشرحها وتفسيرها لتلاميذهم في ما بعد . ولكن ما أكثر ما اختلفوا في الشروح والتفسيرات ، وفي تعيين المعالم وتحديد معاني المفردات ، ورد بعضهم على بعض ، وما أكثر ما جهلوا المواضع فاكتفوا بالقول إنه : موضع ، أو بلد ، أو ماء ، أو جبل ، دون تحديد واضح . بل هم كانوا يخطئون في ذلك أحياناً . وقد كان من الصعب على ضعيفي الذمة من هؤلاء أن ينحلوا شعراً على شاعر جاهلي دون أن يجدوا من يرد عليهم ما نحلوه . فهم من الذين نشأوا في العراق وتعلموا فيه ، أي خارج جزيرة العرب ، ولا يمكنهم أن يصبحوا بين عشية وضحاها على معرفة بلغة عرب الجاهلية ومفرداتها وسياقاتها ، وبجغرافية الجزيرة وأسماء معالمها ، كما يعرفها شعراء الجاهلية ، حتى يستطيعوا نظم شعر على غرار أشعار فحولهم وينحلوه عليهم ، فمهما بلغوا من القدرة والموهبة ، ومهما قصدوا الأعراب في البوادي وشافهوهم وأخذوا منهم ، لابد لهم من سقطات يسقطونها ويكشفها النقد الداخلي للنصوص التي يضعونها وينحلونها . فتلك اللغة ، وتلك المعالم ، لا يعرفها إلا أهلها الذين ولدوا وعاشوا في الجزيرة العربية نفسها ، وليس من هو غريب عليها وعلى أهلها . ومتى حاول أحدهم النحل افتضح أمره ، وفضحه ما ينحله .
نعود الآن إلى امريء القيس الذي نظم شعره بلغة العدنانيين في تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الشعر الجاهلي . فالواضح أنه كان شاعراً في تكوينه الطبيعي ومزاجه ، وكانت حياته حياة شاعر متفرغ متبطل . فقد أحب الشعر حباً جعل منه راوية لشاعر عدناني هو أبو دواد الإيادي . وهو فضلاً عن ذلك كان عدنانياً من جهة أمه ، فأمه من ربيعة ، والأم هي معلم اللغة الأول من دون ريب . وخاله هو المهلهل بن ربيعة الذي كان أول من قصد القصائد على رأي ابن سلام . وكان أبوه حجر بن الحارث ملكاً على قبيلتين عدنانيتين هما قبيلتا : أسد وغطفان . وكان صديقه علقمة بن عبَدة التميمي ، وغريمه في ما بعد ، شاعراً عدنانياً مبرزاً . وكذلك رفيق رحلته إلى القيصر عمرو بن قميئة اليشكري . وكان نديم أبيه ، عبيد بن الأبرص ، شاعراً عدنانياً هو الآخر . وهذه كلها ظروف هيأت له قول الشعر بلغة العدنانيين في ذلك الوقت المبكر . ولعل من المناسب أن نلاحظ أن المشاهد التي وصفها امرؤ القيس ، والمواقع التي أشار إليها في شعره ، كانت مواطن لقبائل عدنانية كما لو أنه نشأ وشب بين العدنانيين . ولكن كم من القحطانيين كانوا مثل امريء القيس ؟
هذا ما لم يقله طه حسين ، ولكنه جاء بثلاث قصائد منسوبة إلى ثلاثة شعراء من أصول قحطانية ، وقرر أن هذه القصائد منحولة ، وأن هؤلاء الشعراء ما كان لهم أن ينظموا شعرهم بلغة أهل الشمال وهم : عبد يغوث بن وقاص الحارثي والبراء بن قيس الكندي ووعلة بن عبد الله الجرمي . ونحن لا نريد أن نجادل الآن في كون هذه القصائد منحولة عليهم أو غير منحولة ، ولكننا نعجب من سكوت القحطانيين عليها سكوت من يتقبلها ولا ينكرها طوال الحقب الماضية ، مع أن هؤلاء من رجالاتهم . ثم نكاد نجزم بأن هؤلاء الثلاثة ، أو أمثالهم ، كان يمكن أن ينظموا الشعر بلغة أهل الشمال في الحقبة التي عاشوا فيها ، أي حقبة ما يعرف بيوم الكلاب الثاني من أيام العرب في الحاهلية . فهي حقبة متأخرة جداً تلت ظهور الإسلام بقليل . وهم كانوا من قبيلتين على صلة وثيقة جداً بالقبائل العدنانية هما : كندة ومذحج ، ومنازل كلتيهما على تخوم منازل القبائل العدنانية ، أي هما أقرب القبائل اليمنية إلى الحجاز وأكثرها اختلاطاً بقبائله . فمنازل كندة كانت في قرية الفاو وما حولها ، وتقع هذه القرية خارج اليمن ، أي في أراضي العدنانيين إن صح التعبير ، فموقعها شمال شرقي نجران وتبعد عنها بنحو 280 كيلومتراً ، وكان سكانها خليطاً من القحطانيين والعدنانيين ، بدلالة أسماء الأشخاص والمعبودات التي اكتشفت في كتاباتها ، وكانت لغتها قد بدأت تتأثر بلغة أهل الشمال ابتداء منذ القرن الأول الميلادي كما ذكرنا من قبل . وأما مذحج فتجمع قبلي يمني من زبيد وجرم وغيرهما ، وكانت منازله في نجران وما حولها ، وعلاقاته بالقبائل العدنانية وثيقة جداً هي الأخرى ، وهي علاقات تجارة وجيرة ومصاهرة وحروب وتحالفات . ولعل من المفارقة أن نعلم أن قبيلة جرم بالذات ، وهي قبيلة وعلة بن عبد الله ، قد عرفت بفصاحة لغتها الشمالية بين قبائل شمال اليمن كما ذكر المبرد في كتابه ( الكامل ) . ومما يلفت النظر ، وينطوي على دلالة خاصة ، أن اسم أبي الشاعر ( وعلة ) هو ( عبد الله ) وهذا اسم شمالي عدناني أصله ( تيم الله ) أو ( تيم اللات ) ، فضلاً عن كونه اسم قوم من بكر بن وائل . إذن لا ينبغي أن نستغرب إذا ما نظم هو ، وعبد يغوث والبراء ، وأمثالهم من القحطانيين ، شعراً بلغة أهل الشمال في تلك الحقبة ، ولا ينبغي أن نستغرب إذا ما بدا بعض هذا الشعر ضعيفاً عند مقارنته بشعر الشعراء العدنانيين لأن العدنايين هم أهل الشعر وأهل اللغة التي نظم بها .
وبعد ، نخلص مما تقدم إلى أن الدليل اللغوي الذي استند إليه الدكتور طه حسين في بناء شكوكه في الشعر الجاهلي وعدّه أبلغ دليل لإثبات صحة ما ذهب إليه هو في حقيقته دليل متهافت ، وأن نظرية العزلة العربية التي ساقها ونفى بها أية إمكانية لتوحد لغة العرب وتقارب لهجاتهم تنقضها حقائق تاريخية ثابتة ، وأن الشعر الجاهلي الذي عرّض بأكثريته المطلقة نشأ نشأة طبيعية وتطور تطوراً متدرجاً خلال خمسة أجيال ( أو ستة ) سبقت ظهور الإسلام بما لا يدع أي مجال للتشكيك في أكثريته المطلقة . ولو كان في هذا الشعر ما يدعو إلى مثل هذا الشك لما سكت عنه أوائل العلماء ، وخاصة المتشددون منهم كابن سلام ، وهم لم يسكتوا في واقع الحال على كل ما هو موضوع منه ومنحول .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.