قيادي إصلاحي يترحم على "علي عبدالله صالح" ويذكر موقف بينه و عبدالمجيد الزنداني وقصة المزحة التي أضحكت الجميع    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    عاجل: الحوثيون يعلنون قصف سفينة نفط بريطانية في البحر الأحمر وإسقاط طائرة أمريكية    دوري ابطال افريقيا: الاهلي المصري يجدد الفوز على مازيمبي ويتاهل للنهائي    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر    أجواء ما قبل اتفاق الرياض تخيم على علاقة الشرعية اليمنية بالانتقالي الجنوبي    عمره 111.. اكبر رجل في العالم على قيد الحياة "أنه مجرد حظ "..    رصاص المليشيا يغتال فرحة أسرة في إب    آسيا تجدد الثقة بالبدر رئيساً للاتحاد الآسيوي للألعاب المائية    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة العربية وعلاقتها بالحميرية
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 12 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
الفصل الأول من الباب الثالث
شواهد من كتاب الإفك (في الأدب الجاهلي)
مقتطفات من الكتاب المذكور:
1- (إن الصلة بين العربية والحميرية كالصلة بين العربية وأية لغة سامية أخرى).
2- (وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان. ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس).
3- (وأراد الله أن يعنى هؤلاء العلماء المحدثون بهذه اللغة الحميرية عناية لم يقدر للعلماء المسلمين في القرن الأول والثاني للهجرة فيستنبطوا نحوها، وصرفها، ويقارنوا بينها وبين غيرها من اللغات السامية القريبة منها والبعيدة عنها. وكانت نتيجة هذا البحث الطويل والجد المتصل أن اللغة الحميرية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر، وأن هذه اللغة الحميرية أقرب إلى اللغة الحبشية القديمة منها إلى اللغة العربية).
4- (فالواقع أننا لا نكاد نعرف صلة متينة بين اللغة العربية التي نفهمها الآن (لم يعرف أن اسمها المتينة!!) من هذا اللفظ والتي نريد أن نؤرخها، ونؤرخ آدابها ولغات هذه الأمم التي يعدها بعض القدماء والمحدثين عربية حيناً وغير عربية حيناً آخر. نعم كل هذه اللغات سامية وهي من هذه الناحية تتشابه في كثير من الأصول تشابهاً يقوى مرة ويضعف أخرى. ولكن اللغة العبرانية سامية، واللغة الفينيقية سامية، ولغة الكلدانيين سامية، واللهجات الآرامية كلها سامية. وبينها وبين اللغة العربية من التشابه القوي حيناً والضعيف حيناً آخر مثل ما بين اللغة العربية. ولغة البابليين في عصر حمورابي، ولغة الحميريين والسبئيين والحبش والأنباط. وإذن فلم لا تكون العبرانية والسريانية والكلدانية ولهجات الآراميين كلها عربية كما كانت اللغات واللهجات الأخرى؟).
5- (أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه، فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز.
ولكن يتفقون أيضاً على شيء آخر أثبته البحث الحديث وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان وهي (العرب المستعربة). وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا).
6- (لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى. فرضت على قبائل الحجاز فرضاً لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة، وتبادل الحاجات الدينية والسياسية، والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب كما كان الحج وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش)
ويضيف: ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟
كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن. فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام).
7- (نحن إذن بإزاء لغتين إحداهما كانت قائمة في الشمال، وهي التي نريد أن نؤرخ بها آدابها، والأخرى كانت قائمة في الجنوب، وهي تمثلها النصوص الحميرية، والسبئية، والمعينية. ونحن لا نسرف ولا نشتط حين ننكر ما يضاف إلى أهل الجنوب من شعر ونثر قيل بلغة أهل الشمال قبل الإسلام).
8- (إن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة عامة واحدة هي لغة قريش، فليس غريباً أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في آدابها بوجه عام. فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام.. يقوله بلغة تميم أو قيس أو لهجتها. إنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها)
9- (ونحن لا نشك في أن العرب العاربة إنما هم العدنانيون. وفي أن العرب المستعربة إنما هم القحطانيون، ولكنهم استعربوا بعد الإسلام لا قبله) (منكوس!!).
10- (هؤلاء الممارون لا يستطيعون أن يطمئنوا إلى ما اطمأن إليه أبو عمرو بن العلاء من وجود الخلاف الجوهري بين العربية والحميرية، ولا يريدون أن يصدقونا حين ننبئهم بأن العلم الحديث قد أثبت ما كان يقوله أبو عمرو. وإنما يريدون أن يقرأوا نصوصاً حميرية. وأن يتبينوا بأنفسهم مواضع هذا الخلاف. وهم يجهلون أنا لو نضع بين أيديهم هذه النصوص الحميرية كما تركها أصحابها مكتوبة بخطها الحميري فلن يجدوا سبيلاً إلى أن يتقدموا في قراءتها خطوة) 11- (وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة وأخبار الكهان، وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له)
12- ويتساءل: (وهل لليمن في الجاهلية شعراء؟! ويرد على نفسه قائلاً: أما القدماء فلا يشكون في ذلك، وهم يحصون شعراء يمنيين يروون لبعضهم قصائد ولبعضهم مقطوعات، ولبعضهم البيت والبيتين، ويروون لهم أخباراً تختلف طولاً وقصراً، وتتفاوت قوة وضعفاً. ولكننا لانقف من هؤلاء الشعراء جميعاً موقف الحيطة والشك بل موقف الرفض والإنكار، فأمر هؤلاء الشعراء قائم كله على خطأ أساسي، أو قائم كله على تكلف قصد به إلى التضليل، ذلك أن القدماء زعموا أو خيل إليهم أن أهل اليمن عرب كغيرهم من العرب، فيجب أن يكون حظهم من الشعر والشعراء كحظ غيرهم من أهل الحجاز ونجد. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون لكل قبيلة شاعرها من أهل الحجاز ونجد، أو شعراؤها، ولابد من أن تكون ألسنة اليمنيين فصيحة عذبة منطلقة بجيد الشعر ورديئه. كما كانت ألسنة العدنانيين عامة والمضريين خاصة).
13- (وقد عرفت أنه ليس من اليسير أن نفترض أن هؤلاء الناس قد استعاروا في الجاهلية لغة قريش لأدبهم، وما استحدثوا من شعر ونثر. ولو قد فعلوا شيئاً من ذلك لظهر أثره في هذه النقوش التي تركوها، والتي استكشفت، والتي عرضنا عليك طائفة منها).
14- (وعلى أن الرواة -كما قدمت لك- يروون شعراً للحميريين أحب أن تنظر فيه فسترى أنه كشعر الجرهميين الذين أصهر إليهم إسماعيل. وليس في ذلك شيء من الغرابة، فقد كان الحميريون والجرهميون عرباً عاربة، وإنما الغريب هو أن يكون شعر هذه العرب العاربة أدنى إلى السخف والرداءة وأبعد عن الجودة والمتانة من شعر أولئك العرب المستعربة الذين تعلموا منهم. على أن ذلك قد لا يكون غريباً ، فرب تلميذ تفوق على أستاذه، ورب عرب مستعربة كانت أملك للعربية وأقدر عليها من العرب العاربة.
وانظر إلى هذا الشعر الذي يضاف إلى حسان تبع:
أيها الناس إن رأيي يريني
وهو الرأي طوفة في البلاد
بالعوالي وبالقنابل تردى
بالبطاريق مشية العواد
وبجيش عرمرم عربي
جحفل يستجيب صوت المنادي
من تميم وخندف وإياد
والبهاليل حمير ومراد
فإذا سرت سارت الناس خلفي
ومعي كالجبال في كل وادي
سقني ثم سق حمير قومي
كأس خمر أولي النهى والعماد
فما ترى في هذا الشعر لاسيما حين تقيسه إلى ما قدمناه لك في الكتاب الثاني من نصوص حميرية وتقارن بينه وبين هذه النصوص في اللفظ والنحو والصرف؟ وقد يكون من الإطالة وإضاعة الوقت أن نمضي في رواية هذا الشعر!!)
15- (ومن غريب الأمر أنك تحصي شعراء اليمن هؤلاء، وتقرأ ما يضاف إليهم من الشعر فتراه كله على هذا النحو من السهولة والسخف واللين، والاضطراب لا نستثني منه إلا ما يضاف إلى امرئ القيس.
لم يكن لليمن إذن شعراء في الجاهلية، وما كان ينبغي أن يكون لها شعراء لأنها لم تكن تتكلم العربية، ولا تلم بها إلماماً يكفي لأن تتخذها لغة الشعر)
16- (ولسنا ننفي الخصومة بين العدنانية والقحطانية في الجاهلية، ولسنا ننفي خضوع العدنانية للقحطانية، وثورتها بها وانتصارها عليها وظفرها بالاستقلال، لا ننفي شيئاً من ذلك ولا نثبته؛ لأننا لم نظفر بعد بالنصوص التاريخية القاطعة أو المرجحة لشيء من ذلك. وإنما نقف من هذا كله موقف الشك).
17- (هذه الخصومات التي يقال إنها كانت بين العدنانية والقحطانية أنطقت فيما يظهر طائفة من الشعراء بشعر كثير، بقيت لنا منه نماذج متفرقة في كتب الأدب)
18- (على أن الأمر إذا فكرت مختلف، فحظ اليمن من هؤلاء الشعراء قليل أو قل لا يكاد يوجد، فليس لها في الجاهلية شاعر إلا امرؤ القيس، وسنرى رأينا فيه.
وليس لها في الإسلام شاعر فحل، وإنما شعراء اليمانية في الإسلام مخترعون اختراعاً دون أن يكون لهم وجود تاريخي صحيح كوضاح اليمن، أو هم ضعاف متأخرون في الطبقة. وإنما نريد العصر الأموي وصدر الإسلام).
19- (أما في العصر العباسي فقد أصبح الشعر شائعاً بين العرب من أهل الشمال والجنوب والموالي أنفسهم، فلا ينبغي إذن أن يعتد بالطائيين ولا بالسيد الحميري!
فهؤلاء كانوا كأبي نواس وابن الرومي والمتنبي، الذين لم يكونوا من العرب في شيء، قد قالوا الشعر عن تعلم وصناعة، وقالوه في غير لغتهم الطبيعية، أو قل: إنهم قالوه في هذه اللغة التي أصبحت بحكم الدين والسياسة لغة الأدب).
20- (ليس لليمن في الجاهلية شعراء، وحظها من الشعر في الإسلام قليل ضئيل وذلك ملائم لطبيعة الأشياء، فلم تكن اللغة العربية لغة اليمن في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أخذ بعض اليمنيين يتعلم اللغة العربية، ويتكلف الشعر فيها فكان حظهم في هذا كحظ الموالي من الفرس الذين تعلموا العربية، وتكلفوا الشعر فيها لأسباب سياسية وعصبية، كما رأيت في الكتاب الثالث، وكان شعراء اليمن في الإسلام كشعراء الموالي قليلين ضعافاً متأخرين في الطبقة متصلين بالأحزاب والعصبيات.
ولعل أظهر هؤلاء الشعراء أعشى همدان. وقد كان شاعر اليمانية وشاعر عبد الرحمن بن الأشعث خاصة. وقد قتله الحجاج)
21- (ثم لربيعة شعراء آخرون ولكنهم قليلون ضعاف متأخرون في الطبقة، كشعراء اليمن.
وهذا أيضاً ملائم لطبيعة الأشياء، فقد كانت ربيعة عدنانية، نريد أنها كانت من عرب الشمال قريبة الموطن والنسب من المضريين، ولكنها لم تكن تتكلم لغة قريش قبل الإسلام، فأكبر الظن أن يكون شعرها الجاهلي قد حمل على شعرائها حملاً.
فلما كان الإسلام كان استعرابها أيسر وأسرع من استعراب اليمن، ومن استعراب الموالي فنجم فيها الشعراء ونبغ فيها الأخطل والقطامي)
22- (لم يكن الشعر طبيعياً ولا أصيلاً في اليمن ولا في ربيعة، فتفاوت حظ اليمنيين والربعيين من الشعر حين تعلموا العربية القرشية بتفاوت قربهم من أهلها واستعدادها لإتقانها وحظهم من الفن الأدبي)
23- (لسنا نفهم أن ينشأ الشعر في اليمن ثم ينتقل منها إلى ربيعة ثم إلى قيس من مضر ثم إلى تميم على نحو ما قال القدماء. وإنما نفهم أن ينشأ هذا الشعر العربي في مضر وينتقل منها إلى أقرب القبائل العربية طبيعة ولغة وموطناً إلى ربيعة ثم إلى قبائل عربية أخرى أبعد من ربيعة، ولكنها تعلمت هذه اللغة العربية واشتركت في حياة العرب السياسية والدينية، ونافست مضر وربيعة منافسة قوية فحاربتهما بسلاحها وهو الشعر، وهذه القبائل هي القبائل اليمنية، ثم انتقل في الوقت نفسه إلى أمم أخرى ليست من العرب في شيء، بل ليست من الساميين في شيء، ولكنها تعلمت العربية كاليمنيين، وشاركت العرب في حياتهم السياسية والدينية ونافستهم منافسة قوية وحاربتهم بسلاحهم وهو الشعر، وهذه الأمم هي الفرس وغير الفرس من هذه الشعوب التي خضعت لسلطان المسلمين)
24- (وهنا اعتراض نظنه آخر سهم في كنانة أنصار القديم. ولكنك سترى أنه لن يكلفنا مشقة ولا عناء فللأنصار شعراء ولخزاعة شعراء، ولقضاعة شعراء، وهذه القبائل كلها يمنية، وقد صح لهؤلاء الشعراء - فيما يظهر- شعر كثير) 25- (ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننكر شعر حسان وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ولن نستطيع أن ننكر أن عبد الرحمن بن حسان قد أخذ الشعر عن أبيه ونبغ فيه، وظهر بعده ابنه سعيد بن عبد الرحمن، فكانت له سلسلة تشبه زهير، وكان الأحوص الأنصاري من نوابغ الشعراء.
وللأنصار في الجاهلية شعراء آخرون متفوقون، ليسوا أقل حظاً في الإجادة من شعراء مضر. ومن التحكم أن يرفض شعر هؤلاء لأنهم يمنيون ليس غير. وكل هذا حق. ولكننا لا نرفض شعر هؤلاء، وإنما نقف منه موقفنا من شعر مضر، لأن هذا الشعر مضري ولأن أصحابه مضريون. فللأنصار أن يعتقدوا أنهم يمنيون، ولأنصار القديم أن يعدوهم يمنيين، ولكننا نحن لا نعرف مطلقاً شيئاً صحيحاً يثبت لنا هذه اليمنية، وإنما نعرف أن هؤلاء الناس كانوا يقيمون في الحجاز، ولا نعرف عنهم شيئاً قبل قدومهم إلى الحجاز، بل لا نعرف متى قدموا إلى الحجاز، فهم عندنا حجازيون قد استوطنوا الحجاز، وتكلموا لغته ولم تكن لهم لغة أخرى).
26- ((وخلاصة هذا البحث الطويل أنا نرفض في غير تردد كل ما يضاف إلى اليمن وأهلها من شعر، ولكننا لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل الذي اعتدت به اليمانية، واتخذته لها فخراً، والذي اعتدت به العرب كلها في عصر من العصور حتى اختلف في أنه أكبر شعراء العصر الجاهلي وهو امرؤ القيس، نقول: لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل جملة دون أن نقف عنده وقفة خاصة). 27- (وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة، على هذا اتفقت الرواة، وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحاً. أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أراني مكرهاً على الاطمئنان إلى آراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها، ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ً!! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها. وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً!).
28- (أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقاً -ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به- فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم).
29- (أليس من اليسير أن نفترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن (يقصد ابن محمد الأشعث الكندي)!! استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضليل، اتقاء لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟!).
30- (وأقل درس لهذا الشعر يقنعك، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي).
31- (وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص. فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس، وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها، ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان: الأولى: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. والثانية: ألا أنعم صباحاً أيها الطلل الباقي.
فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر، والاضطراب فيه بين، والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد. وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس -إن صحت أحاديث الرواة- يمني، وشعره قرشي اللغة. لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما تتصل بذلك من قواعد الكلام، ونحن نعلم - كما قدمنا- أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز.
فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكاً على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان، ويعدل عن لغة اليمن، ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول).
32- (وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس، التي نشك فيها بشعر امرئ القيس، الذي نشك فيه. على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً. فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت، وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح، وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا)
33- (وإذن فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن، مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني. فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان، فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟!)
34- (وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملاً، ومختلق عليه اختلاقاً، حمل بعضه العرب أنفسهم، حمل بعضه الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني للهجرة!!)
35- (وأما أهل العراق في البصرة والكوفة فقد كانت كثرتهم يمنية ربعية، ومن المعقول أن يؤثروا شعر هذين الشاعرين، وأحدهما -فيما يقول الرواة- يمني خالص، هو امرؤ القيس، والآخر ربعي في نسبه، ولكن شعره في اليمنية كثير، وهو الأعشى. وربما لا يقف تقديم العراقيين لهذين الشاعرين عند هذا الحد، فأحد هذين الشاعرين عراقي النشأة والمولد والشعر والحياة -إن صح ما قدمناه من الفرض- وهو امرؤ القيس فقد لفقت قصته تلفيقاً في العراق بعد قصة عبد الرحمن بن الأشعث، واخترع شعره اختراعاً في العراق أيضاً.
وسنرى بعد قليل أن كثيراً من شعر الأعشى اخترع ونظم في الكوفة وغيرها من البيئات العراقية يمنية كانت أو ربعية)
36- (ونحن إذا حاولنا أن نحصي ما بقي من مدح الأعشى فسنرى أن كثرة هذا المدح منصرفة إلى اليمنيين، فقد مدح الأعشى سلامة ذا فائش، ومدح أهل نجران، ومدح قيس بن معد يكرب، ومدح الأشعث بن قيس الكندي، ومدح الأسود العنسي، ومدح الأسود بن المنذر أخا النعمان ... إلخ)
37- (وإذن فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد، في عصور مختلفة -ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح- قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية لما كان من اختلاط الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهما بالفرس)
38- (فالشعر -كما ترى- يمني قوي حين اتصلت القحطانية بربيعة، ولكنا لم نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية، وأخذته مضر عن ربيعة. ولعل هذا النحو من الفهم أصدق تفسير لنظرية تنقل الشعر في القبائل العربية، وهي النظرية التي ناقشناها غير مرة، وأبينا أن نأخذها كما كان يأخذها القدماء).
39- (ومن هنا نستطيع أن نقول: إنا تعمدنا الفصل بين شعر اليمن وربيعة من ناحية، وشعر مضر من ناحية أخرى. فلنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة؛ لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عقبة لغوية عنيفة)
40- (أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والنحل، وأن الوجه إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص. إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن).
41- (وإذن فقد نحلت مضر وتكلفت كما نحلت اليمانية وتكلفت، وكما نحلت الربعية وتكلفت، وكما نحل الموالي وتكلفوا. اتفقوا جميعاً في النحل واختلفت الأسباب التي حملتهم عليه. والقدماء أنفسهم يحدثوننا بما كان من نحل المضرية وتكلفها للشعر، فنحن لم نختزع هذه الخصومة بين قريش والأنصار، وإنما ذكرها لنا القدماء في كثير من التفصيل والإطالة. وأنت تستطيع أن تجد أخبارها وآثارها في كتب الأدباء والمؤرخين).
42- (نحن لم نخترع ما اتفق عليه القدماء من أن المغازي والفتوح والفتن قد أفنت طائفة ضخمة من رواة الشعر وحفاظه. فضاع الشيء الكثير من هذا الشعر، وافتقدته العرب بعد أن استقرت في الأمصار فلما لم تجده اخترعت مكانه ما استطاعت أن تخترع).
43- (ولم تكن كثرة هؤلاء الرواة والحفاظ ربعية أو يمنية ليس غير، وإنما كان لمضر فيها النصيب الأوفر، فقد قام الإسلام على أعناق مضر، وكانت المضرية صاحبة الحظ الأوفر في تشييد الدولة العربية، وما استتبع ذلك من حرب وفتح وفتنة، أضف إلى ذلك ما قدمنا من أنا نرفض أن يكون لليمن شعر في الجاهلية، ونكاد نرفض أن يكون لربيعة شعر في الجاهلية).
44- (نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين. فقد بينا لك غير مرة، أنا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام. وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب).
45- (فالرواة يقولون: إن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، فمن ذا الذي يضمن لي أن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، ولم لا يكون الراوية الذي تكلف شعر امرئ القيس هو الذي قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان وأضاف ذلك إلى امرئ القيس فيما أضاف؟!).
أما موقفه من النثر عند اليمن والعرب بعامة فيتلخص في:
1- (أننا مضطرون إلى أن نقف من النثر الجاهلي نفس الموقف الذي وقفناه من الشعر الجاهلي. فنقسم العرب قسمين: عرب الشمال، وعرب الجنوب، ونرفض من غير تردد كل ما يضاف إلى عرب الجنوب من نثر قبل الإسلام، ذلك لأن النثر الذي يضاف إليهم كالشعر قد روي بلغة قريش التي لم يكن لهم بها علم، فيجب ألا يكون صحيحاً. والأمر في النثر أظهر منه في الشعر، فإن لهؤلاء الناس لغة معروفة كتبوها وتركوا فيها نصوصاً منثورة نستطيع أن نقرأها وندرسها ونستخلص منها بعض القواعد الفنية للنثر.
فمن العجيب أن يكون لهم نثران: أحدهما في لغتهم الطبيعية، والثاني في لغة لم يكن لهم بها عهد. ومن الغريب ألا يتركوا لنا نثراً واحداً مكتوباً فيه نثر قد كتب بلغة قريش. وإذن فكل ما يضاف إلى اليمنيين من نثر مرسل أو مسجوع أو خطابة في الجاهلية مرفوض لا قيمة له، ولا حظ له من الصحة، نحل بعد الإسلام نحلاً للأسباب التي قدمنا في الكتاب (الفصل الثالث) ص378. (سنريك عشرات النصوص).
2- (وأكبر الظن أن القرن السادس للمسيح قد شهد اتصال المضرية بالأمم الأجنبية، وأخذها بشيء من أسباب الحضارة واستعارتها الكتابة من أهل اليمن أو من النبط السريان على اختلاف العلماء في ذلك، وتأثرها بالحياة الحضرية العامة، فنشأ فيها نوع من النثر لم يتحلل من قيود الشعر كلها)
3- وأخيراً: (سنقول والخطابة ماذا تصنع بها؟ ترى أن العرب لم يكونوا خطباء قبل الإسلام، والإجماع على أن قد كان فيهم الخطباء المفوهون؟ أما أنا فلا أنكر أن قد كان العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئاً ذا غناء، وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص، ذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفواً ويعنى بها الأفراد لنفسها. وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة، وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن -وإن غضب أنصار القديم- تدعو إلى خطابة قوية ممتازة).
تلكم هي باختصار آراء طه حسين في عروبية اليمن، وفي شعر ونثر عرب ما قبل الإسلام، وفي لغتهم، وأعني هنا بهذا التراث (تراث اليمن) الذي هو بإجماع القراء والفقهاء والعلماء والأعيان وذوي الحل والعقد ومجالس مشايخ القبائل ومجالس العلم والذكر أدب وتراث وتاريخ كل العرب!! إلا هذا الذي لا يأتيه الحق من بين يديه ولا من خلفه!
وقبل أن نأتي على مرتكزاته أو على من لقنوه بعض هذه العبارات التي تفوه بها واستفرغها في هذا الكتاب سيء الصيت دونما وعي منه، أو أدنى إدراك لمعاني ما قال ومدى خطورته على ماضي الأمة وحاضرها وربما مستقبلها أيضاً، لأنه لم يكن في نفس هذا المستوى من الوعي والاستيعاب، وأنى له ذلك؟ !! وهو لا يعرف هذا التراث العظيم، ولم يلم بلغته، ولم يقرأ ويتدبر كتاب الله العظيم الذي يشير إليه كمرجع من مراجع من يريد التعرف على شعر وأدب العرب عصر ما قبل الإسلام. !!
وقبل أن نحشد أقوال العلماء المعتبرين المتقدمين منهم والمعاصرين من علماء الشريعة والقضاء والتاريخ والأدب لنحاول مناقشة هذه الهلوسات والأوهام التي اعتبرها علمية لا يرقى إليها الشك!!
الفصل الثاني
من فمه ندينه
سنحاول تناول أوهام هذا (الخضعي) (يمنية دارجة) تعني الأبله والطفيلي ... إلخ. ونناقشها نصاً نصاً لنبين مدى علميتها وقربها أو بعدها عن العلمية، والحقيقة الموضوعية الراسخة، وما هو مستقر في أذهان الناس ومجمع عليه من طلائع مفكري الأمة.
النص الأول:
(إن الصلة بين العربية والحميرية كالصلة بين العربية وأية لغة سامية أخرى).
أي عبقرية هذه؟ !! لقد جاء فعلاً ببدع من القول لا أظن أحداً من الناس من قبل أو من بعد سيأتي بمثله. لأنهم على الأقل يخجلون إذا كانوا يجهلون!.
فالحميرية هي أصل العربية، وهي لغة العرب كلهم، بل هي لغة القرآن وهي بالتالي لغة الساميين أجمعين أكتعين أبصعين، فهي أصل اللغات السامية، واليمن بإجماع كل العلماء بمن فيهم أساتذته مجمعون على أنها هي مهد الساميين، واللغة اليمنية هي أصل لغاتهم، وقد اعترف بنفسه حين قال في ص330: «وأكثر الظن أن القرن السادس للمسيح قد شهد اتصال المضرية بالأمم الأجنبية وأخذها شيئاً من أسباب الحضارة، واستعارتها الكتابة من أهل اليمن أو من النبط السريان على اختلاف العلماء في ذلك».
فإذا كان القرشيون تعلموا الخط من اليمن، وهذه هي الحقيقة الراسخة، وإسماعيل وأبناؤه تعلموا العربية من جرهم اليمنية حينما كانت مهيمنة على مكة، وهذا ما هو مجمع عليه، إلا أنه لا يعترف بالإجماع كما قال، وضرب لذلك مثلاً هو اعتقاد العلماء والناس سابقاً بعدم كروية الأرض. كما أجمعوا على أن امرأ القيس أشعر شعراء العرب وعليه فإنه ضد الإجماع، فهو مجمع وحده.
وبعيداً عن السفسطة إننا لنتساءل: كيف يمكن المقارنة بين مسائل علمية تتعلق بتطور العلوم ومنها الفلك، وبين مسألة أدبية تتعلق بالحكم على شاعرية شخص موجود بين أظهرهم؟ أو على الأقل موجود نتاجه من الشعر، إنه لا وجه للمقاربة بين ظاهرة كونية، تتعلق بكوكب من الكواكب، بعيداً عن الناس ويصعب عليهم سبر غوره، وبين مسألة بشرية هي مسألة شعر شاعر في متناول أيديهم، ودورهم فقط يتمثل في المقارنة بينه وبين غيره، وهذه من الأمور المتيسرة.
إذن فعبارته هذه إن كان لها شيء من الدلالة فهي لا تدل إلا على بؤسه وفقره العلمي، وإفلاسه الفكري، وجهله المطبق بتاريخ وتراث الأمة إن كان منحدراً من أصلابها. ولقد وفاه حقه أولئك الذين تصدوا له بالردود العلمية وفي مقدمتهم، محمد نجيب البهبيتي.
النص الثاني:
(وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان، وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان، ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس).
الحمد لله لأن الأولين لم يحاولوا أن يعرفوا التناقض بين لغتي قحطان وعدنان حتى جاء هذا العبقري: فأزال اللبس!!
إنه من الغريب جداً أن يعتبر هذا الذي رفعوه إلى أعلى منزلة في مجال الأدب العربي وسموه (عمودهم!) فمن أين جاءت لغة عدنان؟ وكيف جاءت؟ أو متى جاءت؟! وإذا كان بين قحطان وعدنان أكثر من خمسة آلاف سنة فقحطان في اليمن منذ أكثر من ستة آلاف سنة من ميلاد المسيح، وعدنان جيء به من العراق مع حملة نبوخذ نصر على شمال جزيرة العرب كما هو ثابت تاريخياً. وكانت خزاعة حينها تهيمن على مكة بعد جرهم، وكلاهما من اليمن، وكان قد جرى التزاوج والاختلاط بين الجرهميين وأبناء إسماعيل عليه السلام الذين تعلموا اللغة العربية من أخوالهم الجرهميين، ثم استمر التزاوج والاختلاط بين سكان مكة وما حولها من الخزاعيين والجرهميين وكل سكان المنطقة آنذاك، وكان الكنديون: يحيطون بمكة وأجزاء من الحجاز من الشرق،والأزد يهيمنون على الحجاز من الغرب، والأوس والخزرج في المدينة، فكيف نشأت لغة عدنان في مكة في هذا المحيط الذي يعج باليمانيين من جميع الجهات، فهل لغة عدنان هذه شجرة أنبتها جد هذا المسمى طه حسين؟! أم أنه قال لها كوني لغة فكانت ؟! تعالى الله عن إفكه وقوله علواً كبيراً!!
إننا نعرف أن أي لغة هي مجموعة من الكلمات والمصطلحات يتفق عليها هذا المجتمع الإنساني أو ذلك ويتعارفون عليها فيما بينهم لقضاء حاجاتهم وتدبير شئونهم، على أن يكون هذا المجتمع المكون لهذه اللغة أو تلك مجتمعاً مستقلاً ومعزولاً أو أن الأقليات تنصهر وتتماهى في إطاره.
إذن فكيف نشأ لسان عدنان في ظل وجود هيمنة كاملة وشاملة على مكة وما حولها من قريب وبعيد للقحطانيين. ومعروف أن من يهيمن اقتصادياً وفكرياً واجتماعياً لابد أن يهيمن لغوياً.
ولقد سقنا عدداً كبيراً من الأدلة على أنه لم يكن هنالك فرق كبير بين لغة قحطان ولغة مضر، أو قل لغة الجنوب والشمال أو لغة حمير ولغة قريش منها الاختلاط والتزاوج بين هؤلاء القوم، ولا أظن أنهم كانوا يختلطون ويتزاوجون ويتعاملون تجارياً ويلتقون في أسواق الشعر والبضائع ويتبادلون الرسائل. وهم يتكلمون لغتين مختلفتين!!.
- إن وفد عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سيف بن ذي يزن ليهنئوه بالانتصار على الأحباش. ومعه وفد من زعماء قريش ومن شعرائها وتبادلوا الخطب والأشعار والقصص لا يمكن أن يتم وهم لا يعرفون لغة بعضهم.
- إن كتابة المسند كانت سائدة في عموم الجزيرة بغض النظر عن اللغة المنطوقة، ولا أدل على هذا من قصة عبد الله بن جدعان التي أوردناها، والتي فحواها عثوره على كنز من كنوز جرهم في كهف بالقرب من مكة حينما هرب من قومه، وكان من ضمن ما لقي في المغارة ألواحاً من الذهب مكتوباً عليها بالخط المسند، وأنه كان يقرأ، ثم لم نسمع أو نقرأ أن التاريخ قد أثبت أن الناس في جزيرة العرب في عهد ما قبل الإسلام كانوا بحاجة إلى مترجمين، أو من يفسر لغة كل طرف للآخر إذا صح التعبير أن يطلق عليها لغات. كما يتمسك صاحبنا هذا بلفظي لغة قحطان ولغة عدنان، أو لغة حمير ولغة قريش، أو لغة الشمال ولغة الجنوب. هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
اللغة العربية وعلاقتها بالحميرية
د. عبد الله علي الكميم
الفصل الأول من الباب الثالث
شواهد من كتاب الإفك (في الأدب الجاهلي)
مقتطفات من الكتاب المذكور:
1- (إن الصلة بين العربية والحميرية كالصلة بين العربية وأية لغة سامية أخرى).
2- (وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان. ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس).
3- (وأراد الله أن يعنى هؤلاء العلماء المحدثون بهذه اللغة الحميرية عناية لم يقدر للعلماء المسلمين في القرن الأول والثاني للهجرة فيستنبطوا نحوها، وصرفها، ويقارنوا بينها وبين غيرها من اللغات السامية القريبة منها والبعيدة عنها. وكانت نتيجة هذا البحث الطويل والجد المتصل أن اللغة الحميرية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر، وأن هذه اللغة الحميرية أقرب إلى اللغة الحبشية القديمة منها إلى اللغة العربية).
4- (فالواقع أننا لا نكاد نعرف صلة متينة بين اللغة العربية التي نفهمها الآن (لم يعرف أن اسمها المتينة!!) من هذا اللفظ والتي نريد أن نؤرخها، ونؤرخ آدابها ولغات هذه الأمم التي يعدها بعض القدماء والمحدثين عربية حيناً وغير عربية حيناً آخر. نعم كل هذه اللغات سامية وهي من هذه الناحية تتشابه في كثير من الأصول تشابهاً يقوى مرة ويضعف أخرى. ولكن اللغة العبرانية سامية، واللغة الفينيقية سامية، ولغة الكلدانيين سامية، واللهجات الآرامية كلها سامية. وبينها وبين اللغة العربية من التشابه القوي حيناً والضعيف حيناً آخر مثل ما بين اللغة العربية. ولغة البابليين في عصر حمورابي، ولغة الحميريين والسبئيين والحبش والأنباط. وإذن فلم لا تكون العبرانية والسريانية والكلدانية ولهجات الآراميين كلها عربية كما كانت اللغات واللهجات الأخرى؟).
5- (أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه، فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز.
ولكن يتفقون أيضاً على شيء آخر أثبته البحث الحديث وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان وهي (العرب المستعربة). وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا).
6- (لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى. فرضت على قبائل الحجاز فرضاً لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة، وتبادل الحاجات الدينية والسياسية، والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب كما كان الحج وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش)
ويضيف: ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟
كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن. فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام).
7- (نحن إذن بإزاء لغتين إحداهما كانت قائمة في الشمال، وهي التي نريد أن نؤرخ بها آدابها، والأخرى كانت قائمة في الجنوب، وهي تمثلها النصوص الحميرية، والسبئية، والمعينية. ونحن لا نسرف ولا نشتط حين ننكر ما يضاف إلى أهل الجنوب من شعر ونثر قيل بلغة أهل الشمال قبل الإسلام).
8- (إن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة عامة واحدة هي لغة قريش، فليس غريباً أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في آدابها بوجه عام. فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام.. يقوله بلغة تميم أو قيس أو لهجتها. إنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها)
9- (ونحن لا نشك في أن العرب العاربة إنما هم العدنانيون. وفي أن العرب المستعربة إنما هم القحطانيون، ولكنهم استعربوا بعد الإسلام لا قبله) (منكوس!!).
10- (هؤلاء الممارون لا يستطيعون أن يطمئنوا إلى ما اطمأن إليه أبو عمرو بن العلاء من وجود الخلاف الجوهري بين العربية والحميرية، ولا يريدون أن يصدقونا حين ننبئهم بأن العلم الحديث قد أثبت ما كان يقوله أبو عمرو. وإنما يريدون أن يقرأوا نصوصاً حميرية. وأن يتبينوا بأنفسهم مواضع هذا الخلاف. وهم يجهلون أنا لو نضع بين أيديهم هذه النصوص الحميرية كما تركها أصحابها مكتوبة بخطها الحميري فلن يجدوا سبيلاً إلى أن يتقدموا في قراءتها خطوة) 11- (وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة وأخبار الكهان، وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له)
12- ويتساءل: (وهل لليمن في الجاهلية شعراء؟! ويرد على نفسه قائلاً: أما القدماء فلا يشكون في ذلك، وهم يحصون شعراء يمنيين يروون لبعضهم قصائد ولبعضهم مقطوعات، ولبعضهم البيت والبيتين، ويروون لهم أخباراً تختلف طولاً وقصراً، وتتفاوت قوة وضعفاً. ولكننا لانقف من هؤلاء الشعراء جميعاً موقف الحيطة والشك بل موقف الرفض والإنكار، فأمر هؤلاء الشعراء قائم كله على خطأ أساسي، أو قائم كله على تكلف قصد به إلى التضليل، ذلك أن القدماء زعموا أو خيل إليهم أن أهل اليمن عرب كغيرهم من العرب، فيجب أن يكون حظهم من الشعر والشعراء كحظ غيرهم من أهل الحجاز ونجد. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون لكل قبيلة شاعرها من أهل الحجاز ونجد، أو شعراؤها، ولابد من أن تكون ألسنة اليمنيين فصيحة عذبة منطلقة بجيد الشعر ورديئه. كما كانت ألسنة العدنانيين عامة والمضريين خاصة).
13- (وقد عرفت أنه ليس من اليسير أن نفترض أن هؤلاء الناس قد استعاروا في الجاهلية لغة قريش لأدبهم، وما استحدثوا من شعر ونثر. ولو قد فعلوا شيئاً من ذلك لظهر أثره في هذه النقوش التي تركوها، والتي استكشفت، والتي عرضنا عليك طائفة منها).
14- (وعلى أن الرواة -كما قدمت لك- يروون شعراً للحميريين أحب أن تنظر فيه فسترى أنه كشعر الجرهميين الذين أصهر إليهم إسماعيل. وليس في ذلك شيء من الغرابة، فقد كان الحميريون والجرهميون عرباً عاربة، وإنما الغريب هو أن يكون شعر هذه العرب العاربة أدنى إلى السخف والرداءة وأبعد عن الجودة والمتانة من شعر أولئك العرب المستعربة الذين تعلموا منهم. على أن ذلك قد لا يكون غريباً ، فرب تلميذ تفوق على أستاذه، ورب عرب مستعربة كانت أملك للعربية وأقدر عليها من العرب العاربة.
وانظر إلى هذا الشعر الذي يضاف إلى حسان تبع:
أيها الناس إن رأيي يريني
وهو الرأي طوفة في البلاد
بالعوالي وبالقنابل تردى
بالبطاريق مشية العواد
وبجيش عرمرم عربي
جحفل يستجيب صوت المنادي
من تميم وخندف وإياد
والبهاليل حمير ومراد
فإذا سرت سارت الناس خلفي
ومعي كالجبال في كل وادي
سقني ثم سق حمير قومي
كأس خمر أولي النهى والعماد
فما ترى في هذا الشعر لاسيما حين تقيسه إلى ما قدمناه لك في الكتاب الثاني من نصوص حميرية وتقارن بينه وبين هذه النصوص في اللفظ والنحو والصرف؟ وقد يكون من الإطالة وإضاعة الوقت أن نمضي في رواية هذا الشعر!!)
15- (ومن غريب الأمر أنك تحصي شعراء اليمن هؤلاء، وتقرأ ما يضاف إليهم من الشعر فتراه كله على هذا النحو من السهولة والسخف واللين، والاضطراب لا نستثني منه إلا ما يضاف إلى امرئ القيس.
لم يكن لليمن إذن شعراء في الجاهلية، وما كان ينبغي أن يكون لها شعراء لأنها لم تكن تتكلم العربية، ولا تلم بها إلماماً يكفي لأن تتخذها لغة الشعر)
16- (ولسنا ننفي الخصومة بين العدنانية والقحطانية في الجاهلية، ولسنا ننفي خضوع العدنانية للقحطانية، وثورتها بها وانتصارها عليها وظفرها بالاستقلال، لا ننفي شيئاً من ذلك ولا نثبته؛ لأننا لم نظفر بعد بالنصوص التاريخية القاطعة أو المرجحة لشيء من ذلك. وإنما نقف من هذا كله موقف الشك).
17- (هذه الخصومات التي يقال إنها كانت بين العدنانية والقحطانية أنطقت فيما يظهر طائفة من الشعراء بشعر كثير، بقيت لنا منه نماذج متفرقة في كتب الأدب)
18- (على أن الأمر إذا فكرت مختلف، فحظ اليمن من هؤلاء الشعراء قليل أو قل لا يكاد يوجد، فليس لها في الجاهلية شاعر إلا امرؤ القيس، وسنرى رأينا فيه.
وليس لها في الإسلام شاعر فحل، وإنما شعراء اليمانية في الإسلام مخترعون اختراعاً دون أن يكون لهم وجود تاريخي صحيح كوضاح اليمن، أو هم ضعاف متأخرون في الطبقة. وإنما نريد العصر الأموي وصدر الإسلام).
19- (أما في العصر العباسي فقد أصبح الشعر شائعاً بين العرب من أهل الشمال والجنوب والموالي أنفسهم، فلا ينبغي إذن أن يعتد بالطائيين ولا بالسيد الحميري!
فهؤلاء كانوا كأبي نواس وابن الرومي والمتنبي، الذين لم يكونوا من العرب في شيء، قد قالوا الشعر عن تعلم وصناعة، وقالوه في غير لغتهم الطبيعية، أو قل: إنهم قالوه في هذه اللغة التي أصبحت بحكم الدين والسياسة لغة الأدب).
20- (ليس لليمن في الجاهلية شعراء، وحظها من الشعر في الإسلام قليل ضئيل وذلك ملائم لطبيعة الأشياء، فلم تكن اللغة العربية لغة اليمن في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أخذ بعض اليمنيين يتعلم اللغة العربية، ويتكلف الشعر فيها فكان حظهم في هذا كحظ الموالي من الفرس الذين تعلموا العربية، وتكلفوا الشعر فيها لأسباب سياسية وعصبية، كما رأيت في الكتاب الثالث، وكان شعراء اليمن في الإسلام كشعراء الموالي قليلين ضعافاً متأخرين في الطبقة متصلين بالأحزاب والعصبيات.
ولعل أظهر هؤلاء الشعراء أعشى همدان. وقد كان شاعر اليمانية وشاعر عبد الرحمن بن الأشعث خاصة. وقد قتله الحجاج)
21- (ثم لربيعة شعراء آخرون ولكنهم قليلون ضعاف متأخرون في الطبقة، كشعراء اليمن.
وهذا أيضاً ملائم لطبيعة الأشياء، فقد كانت ربيعة عدنانية، نريد أنها كانت من عرب الشمال قريبة الموطن والنسب من المضريين، ولكنها لم تكن تتكلم لغة قريش قبل الإسلام، فأكبر الظن أن يكون شعرها الجاهلي قد حمل على شعرائها حملاً.
فلما كان الإسلام كان استعرابها أيسر وأسرع من استعراب اليمن، ومن استعراب الموالي فنجم فيها الشعراء ونبغ فيها الأخطل والقطامي)
22- (لم يكن الشعر طبيعياً ولا أصيلاً في اليمن ولا في ربيعة، فتفاوت حظ اليمنيين والربعيين من الشعر حين تعلموا العربية القرشية بتفاوت قربهم من أهلها واستعدادها لإتقانها وحظهم من الفن الأدبي)
23- (لسنا نفهم أن ينشأ الشعر في اليمن ثم ينتقل منها إلى ربيعة ثم إلى قيس من مضر ثم إلى تميم على نحو ما قال القدماء. وإنما نفهم أن ينشأ هذا الشعر العربي في مضر وينتقل منها إلى أقرب القبائل العربية طبيعة ولغة وموطناً إلى ربيعة ثم إلى قبائل عربية أخرى أبعد من ربيعة، ولكنها تعلمت هذه اللغة العربية واشتركت في حياة العرب السياسية والدينية، ونافست مضر وربيعة منافسة قوية فحاربتهما بسلاحها وهو الشعر، وهذه القبائل هي القبائل اليمنية، ثم انتقل في الوقت نفسه إلى أمم أخرى ليست من العرب في شيء، بل ليست من الساميين في شيء، ولكنها تعلمت العربية كاليمنيين، وشاركت العرب في حياتهم السياسية والدينية ونافستهم منافسة قوية وحاربتهم بسلاحهم وهو الشعر، وهذه الأمم هي الفرس وغير الفرس من هذه الشعوب التي خضعت لسلطان المسلمين)
24- (وهنا اعتراض نظنه آخر سهم في كنانة أنصار القديم. ولكنك سترى أنه لن يكلفنا مشقة ولا عناء فللأنصار شعراء ولخزاعة شعراء، ولقضاعة شعراء، وهذه القبائل كلها يمنية، وقد صح لهؤلاء الشعراء - فيما يظهر- شعر كثير) 25- (ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننكر شعر حسان وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ولن نستطيع أن ننكر أن عبد الرحمن بن حسان قد أخذ الشعر عن أبيه ونبغ فيه، وظهر بعده ابنه سعيد بن عبد الرحمن، فكانت له سلسلة تشبه زهير، وكان الأحوص الأنصاري من نوابغ الشعراء.
وللأنصار في الجاهلية شعراء آخرون متفوقون، ليسوا أقل حظاً في الإجادة من شعراء مضر. ومن التحكم أن يرفض شعر هؤلاء لأنهم يمنيون ليس غير. وكل هذا حق. ولكننا لا نرفض شعر هؤلاء، وإنما نقف منه موقفنا من شعر مضر، لأن هذا الشعر مضري ولأن أصحابه مضريون. فللأنصار أن يعتقدوا أنهم يمنيون، ولأنصار القديم أن يعدوهم يمنيين، ولكننا نحن لا نعرف مطلقاً شيئاً صحيحاً يثبت لنا هذه اليمنية، وإنما نعرف أن هؤلاء الناس كانوا يقيمون في الحجاز، ولا نعرف عنهم شيئاً قبل قدومهم إلى الحجاز، بل لا نعرف متى قدموا إلى الحجاز، فهم عندنا حجازيون قد استوطنوا الحجاز، وتكلموا لغته ولم تكن لهم لغة أخرى).
26- ((وخلاصة هذا البحث الطويل أنا نرفض في غير تردد كل ما يضاف إلى اليمن وأهلها من شعر، ولكننا لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل الذي اعتدت به اليمانية، واتخذته لها فخراً، والذي اعتدت به العرب كلها في عصر من العصور حتى اختلف في أنه أكبر شعراء العصر الجاهلي وهو امرؤ القيس، نقول: لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل جملة دون أن نقف عنده وقفة خاصة). 27- (وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة، على هذا اتفقت الرواة، وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحاً. أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أراني مكرهاً على الاطمئنان إلى آراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها، ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ً!! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها. وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً!).
28- (أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقاً -ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به- فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم).
29- (أليس من اليسير أن نفترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن (يقصد ابن محمد الأشعث الكندي)!! استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضليل، اتقاء لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟!).
30- (وأقل درس لهذا الشعر يقنعك، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي).
31- (وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص. فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس، وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها، ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان: الأولى: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. والثانية: ألا أنعم صباحاً أيها الطلل الباقي.
فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر، والاضطراب فيه بين، والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد. وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس -إن صحت أحاديث الرواة- يمني، وشعره قرشي اللغة. لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما تتصل بذلك من قواعد الكلام، ونحن نعلم - كما قدمنا- أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز.
فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكاً على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان، ويعدل عن لغة اليمن، ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول).
32- (وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس، التي نشك فيها بشعر امرئ القيس، الذي نشك فيه. على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً. فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت، وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح، وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا)
33- (وإذن فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن، مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني. فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان، فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟!)
34- (وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملاً، ومختلق عليه اختلاقاً، حمل بعضه العرب أنفسهم، حمل بعضه الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني للهجرة!!)
35- (وأما أهل العراق في البصرة والكوفة فقد كانت كثرتهم يمنية ربعية، ومن المعقول أن يؤثروا شعر هذين الشاعرين، وأحدهما -فيما يقول الرواة- يمني خالص، هو امرؤ القيس، والآخر ربعي في نسبه، ولكن شعره في اليمنية كثير، وهو الأعشى. وربما لا يقف تقديم العراقيين لهذين الشاعرين عند هذا الحد، فأحد هذين الشاعرين عراقي النشأة والمولد والشعر والحياة -إن صح ما قدمناه من الفرض- وهو امرؤ القيس فقد لفقت قصته تلفيقاً في العراق بعد قصة عبد الرحمن بن الأشعث، واخترع شعره اختراعاً في العراق أيضاً.
وسنرى بعد قليل أن كثيراً من شعر الأعشى اخترع ونظم في الكوفة وغيرها من البيئات العراقية يمنية كانت أو ربعية)
36- (ونحن إذا حاولنا أن نحصي ما بقي من مدح الأعشى فسنرى أن كثرة هذا المدح منصرفة إلى اليمنيين، فقد مدح الأعشى سلامة ذا فائش، ومدح أهل نجران، ومدح قيس بن معد يكرب، ومدح الأشعث بن قيس الكندي، ومدح الأسود العنسي، ومدح الأسود بن المنذر أخا النعمان ... إلخ)
37- (وإذن فنحن نرجح أن هذه الحركات التي دفعت أهل اليمن من ناحية وأهل الحجاز من ناحية أخرى إلى العراق والجزيرة ونجد، في عصور مختلفة -ولكنها لا تكاد تتجاوز القرن الرابع للمسيح- قد أحدثت نهضة عقلية وأدبية لما كان من اختلاط الجنسين العربيين فيما بينهما ومن اتصالهما بالفرس)
38- (فالشعر -كما ترى- يمني قوي حين اتصلت القحطانية بربيعة، ولكنا لم نعرفه ولم نصل إليه إلا حين تغلغل في البلاد العربية، وأخذته مضر عن ربيعة. ولعل هذا النحو من الفهم أصدق تفسير لنظرية تنقل الشعر في القبائل العربية، وهي النظرية التي ناقشناها غير مرة، وأبينا أن نأخذها كما كان يأخذها القدماء).
39- (ومن هنا نستطيع أن نقول: إنا تعمدنا الفصل بين شعر اليمن وربيعة من ناحية، وشعر مضر من ناحية أخرى. فلنا في شعر مضر رأي غير رأينا في شعر اليمن وربيعة؛ لأننا نستطيع أن نؤرخه ونحدد أوليته، ولأننا نستطيع أن نقبل بعض قديمه دون أن تحول بيننا وبين ذلك عقبة لغوية عنيفة)
40- (أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء إلا ما قدمنا من العبث والكذب والنحل، وأن الوجه إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص. إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر لا بهذا الشعر على عربية القرآن).
41- (وإذن فقد نحلت مضر وتكلفت كما نحلت اليمانية وتكلفت، وكما نحلت الربعية وتكلفت، وكما نحل الموالي وتكلفوا. اتفقوا جميعاً في النحل واختلفت الأسباب التي حملتهم عليه. والقدماء أنفسهم يحدثوننا بما كان من نحل المضرية وتكلفها للشعر، فنحن لم نختزع هذه الخصومة بين قريش والأنصار، وإنما ذكرها لنا القدماء في كثير من التفصيل والإطالة. وأنت تستطيع أن تجد أخبارها وآثارها في كتب الأدباء والمؤرخين).
42- (نحن لم نخترع ما اتفق عليه القدماء من أن المغازي والفتوح والفتن قد أفنت طائفة ضخمة من رواة الشعر وحفاظه. فضاع الشيء الكثير من هذا الشعر، وافتقدته العرب بعد أن استقرت في الأمصار فلما لم تجده اخترعت مكانه ما استطاعت أن تخترع).
43- (ولم تكن كثرة هؤلاء الرواة والحفاظ ربعية أو يمنية ليس غير، وإنما كان لمضر فيها النصيب الأوفر، فقد قام الإسلام على أعناق مضر، وكانت المضرية صاحبة الحظ الأوفر في تشييد الدولة العربية، وما استتبع ذلك من حرب وفتح وفتنة، أضف إلى ذلك ما قدمنا من أنا نرفض أن يكون لليمن شعر في الجاهلية، ونكاد نرفض أن يكون لربيعة شعر في الجاهلية).
44- (نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين. فقد بينا لك غير مرة، أنا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام. وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب).
45- (فالرواة يقولون: إن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، فمن ذا الذي يضمن لي أن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، ولم لا يكون الراوية الذي تكلف شعر امرئ القيس هو الذي قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان وأضاف ذلك إلى امرئ القيس فيما أضاف؟!).
أما موقفه من النثر عند اليمن والعرب بعامة فيتلخص في:
1- (أننا مضطرون إلى أن نقف من النثر الجاهلي نفس الموقف الذي وقفناه من الشعر الجاهلي. فنقسم العرب قسمين: عرب الشمال، وعرب الجنوب، ونرفض من غير تردد كل ما يضاف إلى عرب الجنوب من نثر قبل الإسلام، ذلك لأن النثر الذي يضاف إليهم كالشعر قد روي بلغة قريش التي لم يكن لهم بها علم، فيجب ألا يكون صحيحاً. والأمر في النثر أظهر منه في الشعر، فإن لهؤلاء الناس لغة معروفة كتبوها وتركوا فيها نصوصاً منثورة نستطيع أن نقرأها وندرسها ونستخلص منها بعض القواعد الفنية للنثر.
فمن العجيب أن يكون لهم نثران: أحدهما في لغتهم الطبيعية، والثاني في لغة لم يكن لهم بها عهد. ومن الغريب ألا يتركوا لنا نثراً واحداً مكتوباً فيه نثر قد كتب بلغة قريش. وإذن فكل ما يضاف إلى اليمنيين من نثر مرسل أو مسجوع أو خطابة في الجاهلية مرفوض لا قيمة له، ولا حظ له من الصحة، نحل بعد الإسلام نحلاً للأسباب التي قدمنا في الكتاب (الفصل الثالث) ص378. (سنريك عشرات النصوص).
2- (وأكبر الظن أن القرن السادس للمسيح قد شهد اتصال المضرية بالأمم الأجنبية، وأخذها بشيء من أسباب الحضارة واستعارتها الكتابة من أهل اليمن أو من النبط السريان على اختلاف العلماء في ذلك، وتأثرها بالحياة الحضرية العامة، فنشأ فيها نوع من النثر لم يتحلل من قيود الشعر كلها)
3- وأخيراً: (سنقول والخطابة ماذا تصنع بها؟ ترى أن العرب لم يكونوا خطباء قبل الإسلام، والإجماع على أن قد كان فيهم الخطباء المفوهون؟ أما أنا فلا أنكر أن قد كان العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئاً ذا غناء، وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص، ذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفواً ويعنى بها الأفراد لنفسها. وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة، وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن -وإن غضب أنصار القديم- تدعو إلى خطابة قوية ممتازة).
تلكم هي باختصار آراء طه حسين في عروبية اليمن، وفي شعر ونثر عرب ما قبل الإسلام، وفي لغتهم، وأعني هنا بهذا التراث (تراث اليمن) الذي هو بإجماع القراء والفقهاء والعلماء والأعيان وذوي الحل والعقد ومجالس مشايخ القبائل ومجالس العلم والذكر أدب وتراث وتاريخ كل العرب!! إلا هذا الذي لا يأتيه الحق من بين يديه ولا من خلفه!
وقبل أن نأتي على مرتكزاته أو على من لقنوه بعض هذه العبارات التي تفوه بها واستفرغها في هذا الكتاب سيء الصيت دونما وعي منه، أو أدنى إدراك لمعاني ما قال ومدى خطورته على ماضي الأمة وحاضرها وربما مستقبلها أيضاً، لأنه لم يكن في نفس هذا المستوى من الوعي والاستيعاب، وأنى له ذلك؟ !! وهو لا يعرف هذا التراث العظيم، ولم يلم بلغته، ولم يقرأ ويتدبر كتاب الله العظيم الذي يشير إليه كمرجع من مراجع من يريد التعرف على شعر وأدب العرب عصر ما قبل الإسلام. !!
وقبل أن نحشد أقوال العلماء المعتبرين المتقدمين منهم والمعاصرين من علماء الشريعة والقضاء والتاريخ والأدب لنحاول مناقشة هذه الهلوسات والأوهام التي اعتبرها علمية لا يرقى إليها الشك!!
الفصل الثاني
من فمه ندينه
سنحاول تناول أوهام هذا (الخضعي) (يمنية دارجة) تعني الأبله والطفيلي ... إلخ. ونناقشها نصاً نصاً لنبين مدى علميتها وقربها أو بعدها عن العلمية، والحقيقة الموضوعية الراسخة، وما هو مستقر في أذهان الناس ومجمع عليه من طلائع مفكري الأمة.
النص الأول:
(إن الصلة بين العربية والحميرية كالصلة بين العربية وأية لغة سامية أخرى).
أي عبقرية هذه؟ !! لقد جاء فعلاً ببدع من القول لا أظن أحداً من الناس من قبل أو من بعد سيأتي بمثله. لأنهم على الأقل يخجلون إذا كانوا يجهلون!.
فالحميرية هي أصل العربية، وهي لغة العرب كلهم، بل هي لغة القرآن وهي بالتالي لغة الساميين أجمعين أكتعين أبصعين، فهي أصل اللغات السامية، واليمن بإجماع كل العلماء بمن فيهم أساتذته مجمعون على أنها هي مهد الساميين، واللغة اليمنية هي أصل لغاتهم، وقد اعترف بنفسه حين قال في ص330: «وأكثر الظن أن القرن السادس للمسيح قد شهد اتصال المضرية بالأمم الأجنبية وأخذها شيئاً من أسباب الحضارة، واستعارتها الكتابة من أهل اليمن أو من النبط السريان على اختلاف العلماء في ذلك».
فإذا كان القرشيون تعلموا الخط من اليمن، وهذه هي الحقيقة الراسخة، وإسماعيل وأبناؤه تعلموا العربية من جرهم اليمنية حينما كانت مهيمنة على مكة، وهذا ما هو مجمع عليه، إلا أنه لا يعترف بالإجماع كما قال، وضرب لذلك مثلاً هو اعتقاد العلماء والناس سابقاً بعدم كروية الأرض. كما أجمعوا على أن امرأ القيس أشعر شعراء العرب وعليه فإنه ضد الإجماع، فهو مجمع وحده.
وبعيداً عن السفسطة إننا لنتساءل: كيف يمكن المقارنة بين مسائل علمية تتعلق بتطور العلوم ومنها الفلك، وبين مسألة أدبية تتعلق بالحكم على شاعرية شخص موجود بين أظهرهم؟ أو على الأقل موجود نتاجه من الشعر، إنه لا وجه للمقاربة بين ظاهرة كونية، تتعلق بكوكب من الكواكب، بعيداً عن الناس ويصعب عليهم سبر غوره، وبين مسألة بشرية هي مسألة شعر شاعر في متناول أيديهم، ودورهم فقط يتمثل في المقارنة بينه وبين غيره، وهذه من الأمور المتيسرة.
إذن فعبارته هذه إن كان لها شيء من الدلالة فهي لا تدل إلا على بؤسه وفقره العلمي، وإفلاسه الفكري، وجهله المطبق بتاريخ وتراث الأمة إن كان منحدراً من أصلابها. ولقد وفاه حقه أولئك الذين تصدوا له بالردود العلمية وفي مقدمتهم، محمد نجيب البهبيتي.
النص الثاني:
(وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان، وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان، ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس).
الحمد لله لأن الأولين لم يحاولوا أن يعرفوا التناقض بين لغتي قحطان وعدنان حتى جاء هذا العبقري: فأزال اللبس!!
إنه من الغريب جداً أن يعتبر هذا الذي رفعوه إلى أعلى منزلة في مجال الأدب العربي وسموه (عمودهم!) فمن أين جاءت لغة عدنان؟ وكيف جاءت؟ أو متى جاءت؟! وإذا كان بين قحطان وعدنان أكثر من خمسة آلاف سنة فقحطان في اليمن منذ أكثر من ستة آلاف سنة من ميلاد المسيح، وعدنان جيء به من العراق مع حملة نبوخذ نصر على شمال جزيرة العرب كما هو ثابت تاريخياً. وكانت خزاعة حينها تهيمن على مكة بعد جرهم، وكلاهما من اليمن، وكان قد جرى التزاوج والاختلاط بين الجرهميين وأبناء إسماعيل عليه السلام الذين تعلموا اللغة العربية من أخوالهم الجرهميين، ثم استمر التزاوج والاختلاط بين سكان مكة وما حولها من الخزاعيين والجرهميين وكل سكان المنطقة آنذاك، وكان الكنديون: يحيطون بمكة وأجزاء من الحجاز من الشرق،والأزد يهيمنون على الحجاز من الغرب، والأوس والخزرج في المدينة، فكيف نشأت لغة عدنان في مكة في هذا المحيط الذي يعج باليمانيين من جميع الجهات، فهل لغة عدنان هذه شجرة أنبتها جد هذا المسمى طه حسين؟! أم أنه قال لها كوني لغة فكانت ؟! تعالى الله عن إفكه وقوله علواً كبيراً!!
إننا نعرف أن أي لغة هي مجموعة من الكلمات والمصطلحات يتفق عليها هذا المجتمع الإنساني أو ذلك ويتعارفون عليها فيما بينهم لقضاء حاجاتهم وتدبير شئونهم، على أن يكون هذا المجتمع المكون لهذه اللغة أو تلك مجتمعاً مستقلاً ومعزولاً أو أن الأقليات تنصهر وتتماهى في إطاره.
إذن فكيف نشأ لسان عدنان في ظل وجود هيمنة كاملة وشاملة على مكة وما حولها من قريب وبعيد للقحطانيين. ومعروف أن من يهيمن اقتصادياً وفكرياً واجتماعياً لابد أن يهيمن لغوياً.
ولقد سقنا عدداً كبيراً من الأدلة على أنه لم يكن هنالك فرق كبير بين لغة قحطان ولغة مضر، أو قل لغة الجنوب والشمال أو لغة حمير ولغة قريش منها الاختلاط والتزاوج بين هؤلاء القوم، ولا أظن أنهم كانوا يختلطون ويتزاوجون ويتعاملون تجارياً ويلتقون في أسواق الشعر والبضائع ويتبادلون الرسائل. وهم يتكلمون لغتين مختلفتين!!.
- إن وفد عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سيف بن ذي يزن ليهنئوه بالانتصار على الأحباش. ومعه وفد من زعماء قريش ومن شعرائها وتبادلوا الخطب والأشعار والقصص لا يمكن أن يتم وهم لا يعرفون لغة بعضهم.
- إن كتابة المسند كانت سائدة في عموم الجزيرة بغض النظر عن اللغة المنطوقة، ولا أدل على هذا من قصة عبد الله بن جدعان التي أوردناها، والتي فحواها عثوره على كنز من كنوز جرهم في كهف بالقرب من مكة حينما هرب من قومه، وكان من ضمن ما لقي في المغارة ألواحاً من الذهب مكتوباً عليها بالخط المسند، وأنه كان يقرأ، ثم لم نسمع أو نقرأ أن التاريخ قد أثبت أن الناس في جزيرة العرب في عهد ما قبل الإسلام كانوا بحاجة إلى مترجمين، أو من يفسر لغة كل طرف للآخر إذا صح التعبير أن يطلق عليها لغات. كما يتمسك صاحبنا هذا بلفظي لغة قحطان ولغة عدنان، أو لغة حمير ولغة قريش، أو لغة الشمال ولغة الجنوب. هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
اللغة العربية وعلاقتها بالحميرية
د. عبد الله علي الكميم
الفصل الأول من الباب الثالث
شواهد من كتاب الإفك (في الأدب الجاهلي)
مقتطفات من الكتاب المذكور:
1- (إن الصلة بين العربية والحميرية كالصلة بين العربية وأية لغة سامية أخرى).
2- (وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان. ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس).
3- (وأراد الله أن يعنى هؤلاء العلماء المحدثون بهذه اللغة الحميرية عناية لم يقدر للعلماء المسلمين في القرن الأول والثاني للهجرة فيستنبطوا نحوها، وصرفها، ويقارنوا بينها وبين غيرها من اللغات السامية القريبة منها والبعيدة عنها. وكانت نتيجة هذا البحث الطويل والجد المتصل أن اللغة الحميرية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر، وأن هذه اللغة الحميرية أقرب إلى اللغة الحبشية القديمة منها إلى اللغة العربية).
4- (فالواقع أننا لا نكاد نعرف صلة متينة بين اللغة العربية التي نفهمها الآن (لم يعرف أن اسمها المتينة!!) من هذا اللفظ والتي نريد أن نؤرخها، ونؤرخ آدابها ولغات هذه الأمم التي يعدها بعض القدماء والمحدثين عربية حيناً وغير عربية حيناً آخر. نعم كل هذه اللغات سامية وهي من هذه الناحية تتشابه في كثير من الأصول تشابهاً يقوى مرة ويضعف أخرى. ولكن اللغة العبرانية سامية، واللغة الفينيقية سامية، ولغة الكلدانيين سامية، واللهجات الآرامية كلها سامية. وبينها وبين اللغة العربية من التشابه القوي حيناً والضعيف حيناً آخر مثل ما بين اللغة العربية. ولغة البابليين في عصر حمورابي، ولغة الحميريين والسبئيين والحبش والأنباط. وإذن فلم لا تكون العبرانية والسريانية والكلدانية ولهجات الآراميين كلها عربية كما كانت اللغات واللهجات الأخرى؟).
5- (أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه، فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز.
ولكن يتفقون أيضاً على شيء آخر أثبته البحث الحديث وهو أن هناك خلافاً قوياً بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان وهي (العرب المستعربة). وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا).
6- (لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى. فرضت على قبائل الحجاز فرضاً لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة، وتبادل الحاجات الدينية والسياسية، والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب كما كان الحج وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش)
ويضيف: ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟
كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن. فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام).
7- (نحن إذن بإزاء لغتين إحداهما كانت قائمة في الشمال، وهي التي نريد أن نؤرخ بها آدابها، والأخرى كانت قائمة في الجنوب، وهي تمثلها النصوص الحميرية، والسبئية، والمعينية. ونحن لا نسرف ولا نشتط حين ننكر ما يضاف إلى أهل الجنوب من شعر ونثر قيل بلغة أهل الشمال قبل الإسلام).
8- (إن الإسلام قد فرض على العرب جميعاً لغة عامة واحدة هي لغة قريش، فليس غريباً أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة في شعرها ونثرها في آدابها بوجه عام. فلم يكن التميمي أو القيسي حين يقول الشعر في الإسلام.. يقوله بلغة تميم أو قيس أو لهجتها. إنما كان يقوله بلغة قريش ولهجتها)
9- (ونحن لا نشك في أن العرب العاربة إنما هم العدنانيون. وفي أن العرب المستعربة إنما هم القحطانيون، ولكنهم استعربوا بعد الإسلام لا قبله) (منكوس!!).
10- (هؤلاء الممارون لا يستطيعون أن يطمئنوا إلى ما اطمأن إليه أبو عمرو بن العلاء من وجود الخلاف الجوهري بين العربية والحميرية، ولا يريدون أن يصدقونا حين ننبئهم بأن العلم الحديث قد أثبت ما كان يقوله أبو عمرو. وإنما يريدون أن يقرأوا نصوصاً حميرية. وأن يتبينوا بأنفسهم مواضع هذا الخلاف. وهم يجهلون أنا لو نضع بين أيديهم هذه النصوص الحميرية كما تركها أصحابها مكتوبة بخطها الحميري فلن يجدوا سبيلاً إلى أن يتقدموا في قراءتها خطوة) 11- (وكل ما يروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة وأخبار الكهان، وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له)
12- ويتساءل: (وهل لليمن في الجاهلية شعراء؟! ويرد على نفسه قائلاً: أما القدماء فلا يشكون في ذلك، وهم يحصون شعراء يمنيين يروون لبعضهم قصائد ولبعضهم مقطوعات، ولبعضهم البيت والبيتين، ويروون لهم أخباراً تختلف طولاً وقصراً، وتتفاوت قوة وضعفاً. ولكننا لانقف من هؤلاء الشعراء جميعاً موقف الحيطة والشك بل موقف الرفض والإنكار، فأمر هؤلاء الشعراء قائم كله على خطأ أساسي، أو قائم كله على تكلف قصد به إلى التضليل، ذلك أن القدماء زعموا أو خيل إليهم أن أهل اليمن عرب كغيرهم من العرب، فيجب أن يكون حظهم من الشعر والشعراء كحظ غيرهم من أهل الحجاز ونجد. وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون لكل قبيلة شاعرها من أهل الحجاز ونجد، أو شعراؤها، ولابد من أن تكون ألسنة اليمنيين فصيحة عذبة منطلقة بجيد الشعر ورديئه. كما كانت ألسنة العدنانيين عامة والمضريين خاصة).
13- (وقد عرفت أنه ليس من اليسير أن نفترض أن هؤلاء الناس قد استعاروا في الجاهلية لغة قريش لأدبهم، وما استحدثوا من شعر ونثر. ولو قد فعلوا شيئاً من ذلك لظهر أثره في هذه النقوش التي تركوها، والتي استكشفت، والتي عرضنا عليك طائفة منها).
14- (وعلى أن الرواة -كما قدمت لك- يروون شعراً للحميريين أحب أن تنظر فيه فسترى أنه كشعر الجرهميين الذين أصهر إليهم إسماعيل. وليس في ذلك شيء من الغرابة، فقد كان الحميريون والجرهميون عرباً عاربة، وإنما الغريب هو أن يكون شعر هذه العرب العاربة أدنى إلى السخف والرداءة وأبعد عن الجودة والمتانة من شعر أولئك العرب المستعربة الذين تعلموا منهم. على أن ذلك قد لا يكون غريباً ، فرب تلميذ تفوق على أستاذه، ورب عرب مستعربة كانت أملك للعربية وأقدر عليها من العرب العاربة.
وانظر إلى هذا الشعر الذي يضاف إلى حسان تبع:
أيها الناس إن رأيي يريني
وهو الرأي طوفة في البلاد
بالعوالي وبالقنابل تردى
بالبطاريق مشية العواد
وبجيش عرمرم عربي
جحفل يستجيب صوت المنادي
من تميم وخندف وإياد
والبهاليل حمير ومراد
فإذا سرت سارت الناس خلفي
ومعي كالجبال في كل وادي
سقني ثم سق حمير قومي
كأس خمر أولي النهى والعماد
فما ترى في هذا الشعر لاسيما حين تقيسه إلى ما قدمناه لك في الكتاب الثاني من نصوص حميرية وتقارن بينه وبين هذه النصوص في اللفظ والنحو والصرف؟ وقد يكون من الإطالة وإضاعة الوقت أن نمضي في رواية هذا الشعر!!)
15- (ومن غريب الأمر أنك تحصي شعراء اليمن هؤلاء، وتقرأ ما يضاف إليهم من الشعر فتراه كله على هذا النحو من السهولة والسخف واللين، والاضطراب لا نستثني منه إلا ما يضاف إلى امرئ القيس.
لم يكن لليمن إذن شعراء في الجاهلية، وما كان ينبغي أن يكون لها شعراء لأنها لم تكن تتكلم العربية، ولا تلم بها إلماماً يكفي لأن تتخذها لغة الشعر)
16- (ولسنا ننفي الخصومة بين العدنانية والقحطانية في الجاهلية، ولسنا ننفي خضوع العدنانية للقحطانية، وثورتها بها وانتصارها عليها وظفرها بالاستقلال، لا ننفي شيئاً من ذلك ولا نثبته؛ لأننا لم نظفر بعد بالنصوص التاريخية القاطعة أو المرجحة لشيء من ذلك. وإنما نقف من هذا كله موقف الشك).
17- (هذه الخصومات التي يقال إنها كانت بين العدنانية والقحطانية أنطقت فيما يظهر طائفة من الشعراء بشعر كثير، بقيت لنا منه نماذج متفرقة في كتب الأدب)
18- (على أن الأمر إذا فكرت مختلف، فحظ اليمن من هؤلاء الشعراء قليل أو قل لا يكاد يوجد، فليس لها في الجاهلية شاعر إلا امرؤ القيس، وسنرى رأينا فيه.
وليس لها في الإسلام شاعر فحل، وإنما شعراء اليمانية في الإسلام مخترعون اختراعاً دون أن يكون لهم وجود تاريخي صحيح كوضاح اليمن، أو هم ضعاف متأخرون في الطبقة. وإنما نريد العصر الأموي وصدر الإسلام).
19- (أما في العصر العباسي فقد أصبح الشعر شائعاً بين العرب من أهل الشمال والجنوب والموالي أنفسهم، فلا ينبغي إذن أن يعتد بالطائيين ولا بالسيد الحميري!
فهؤلاء كانوا كأبي نواس وابن الرومي والمتنبي، الذين لم يكونوا من العرب في شيء، قد قالوا الشعر عن تعلم وصناعة، وقالوه في غير لغتهم الطبيعية، أو قل: إنهم قالوه في هذه اللغة التي أصبحت بحكم الدين والسياسة لغة الأدب).
20- (ليس لليمن في الجاهلية شعراء، وحظها من الشعر في الإسلام قليل ضئيل وذلك ملائم لطبيعة الأشياء، فلم تكن اللغة العربية لغة اليمن في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أخذ بعض اليمنيين يتعلم اللغة العربية، ويتكلف الشعر فيها فكان حظهم في هذا كحظ الموالي من الفرس الذين تعلموا العربية، وتكلفوا الشعر فيها لأسباب سياسية وعصبية، كما رأيت في الكتاب الثالث، وكان شعراء اليمن في الإسلام كشعراء الموالي قليلين ضعافاً متأخرين في الطبقة متصلين بالأحزاب والعصبيات.
ولعل أظهر هؤلاء الشعراء أعشى همدان. وقد كان شاعر اليمانية وشاعر عبد الرحمن بن الأشعث خاصة. وقد قتله الحجاج)
21- (ثم لربيعة شعراء آخرون ولكنهم قليلون ضعاف متأخرون في الطبقة، كشعراء اليمن.
وهذا أيضاً ملائم لطبيعة الأشياء، فقد كانت ربيعة عدنانية، نريد أنها كانت من عرب الشمال قريبة الموطن والنسب من المضريين، ولكنها لم تكن تتكلم لغة قريش قبل الإسلام، فأكبر الظن أن يكون شعرها الجاهلي قد حمل على شعرائها حملاً.
فلما كان الإسلام كان استعرابها أيسر وأسرع من استعراب اليمن، ومن استعراب الموالي فنجم فيها الشعراء ونبغ فيها الأخطل والقطامي)
22- (لم يكن الشعر طبيعياً ولا أصيلاً في اليمن ولا في ربيعة، فتفاوت حظ اليمنيين والربعيين من الشعر حين تعلموا العربية القرشية بتفاوت قربهم من أهلها واستعدادها لإتقانها وحظهم من الفن الأدبي)
23- (لسنا نفهم أن ينشأ الشعر في اليمن ثم ينتقل منها إلى ربيعة ثم إلى قيس من مضر ثم إلى تميم على نحو ما قال القدماء. وإنما نفهم أن ينشأ هذا الشعر العربي في مضر وينتقل منها إلى أقرب القبائل العربية طبيعة ولغة وموطناً إلى ربيعة ثم إلى قبائل عربية أخرى أبعد من ربيعة، ولكنها تعلمت هذه اللغة العربية واشتركت في حياة العرب السياسية والدينية، ونافست مضر وربيعة منافسة قوية فحاربتهما بسلاحها وهو الشعر، وهذه القبائل هي القبائل اليمنية، ثم انتقل في الوقت نفسه إلى أمم أخرى ليست من العرب في شيء، بل ليست من الساميين في شيء، ولكنها تعلمت العربية كاليمنيين، وشاركت العرب في حياتهم السياسية والدينية ونافستهم منافسة قوية وحاربتهم بسلاحهم وهو الشعر، وهذه الأمم هي الفرس وغير الفرس من هذه الشعوب التي خضعت لسلطان المسلمين)
24- (وهنا اعتراض نظنه آخر سهم في كنانة أنصار القديم. ولكنك سترى أنه لن يكلفنا مشقة ولا عناء فللأنصار شعراء ولخزاعة شعراء، ولقضاعة شعراء، وهذه القبائل كلها يمنية، وقد صح لهؤلاء الشعراء - فيما يظهر- شعر كثير) 25- (ومهما نفعل فلن نستطيع أن ننكر شعر حسان وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ولن نستطيع أن ننكر أن عبد الرحمن بن حسان قد أخذ الشعر عن أبيه ونبغ فيه، وظهر بعده ابنه سعيد بن عبد الرحمن، فكانت له سلسلة تشبه زهير، وكان الأحوص الأنصاري من نوابغ الشعراء.
وللأنصار في الجاهلية شعراء آخرون متفوقون، ليسوا أقل حظاً في الإجادة من شعراء مضر. ومن التحكم أن يرفض شعر هؤلاء لأنهم يمنيون ليس غير. وكل هذا حق. ولكننا لا نرفض شعر هؤلاء، وإنما نقف منه موقفنا من شعر مضر، لأن هذا الشعر مضري ولأن أصحابه مضريون. فللأنصار أن يعتقدوا أنهم يمنيون، ولأنصار القديم أن يعدوهم يمنيين، ولكننا نحن لا نعرف مطلقاً شيئاً صحيحاً يثبت لنا هذه اليمنية، وإنما نعرف أن هؤلاء الناس كانوا يقيمون في الحجاز، ولا نعرف عنهم شيئاً قبل قدومهم إلى الحجاز، بل لا نعرف متى قدموا إلى الحجاز، فهم عندنا حجازيون قد استوطنوا الحجاز، وتكلموا لغته ولم تكن لهم لغة أخرى).
26- ((وخلاصة هذا البحث الطويل أنا نرفض في غير تردد كل ما يضاف إلى اليمن وأهلها من شعر، ولكننا لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل الذي اعتدت به اليمانية، واتخذته لها فخراً، والذي اعتدت به العرب كلها في عصر من العصور حتى اختلف في أنه أكبر شعراء العصر الجاهلي وهو امرؤ القيس، نقول: لا نستطيع أن نرفض شعر هذا الرجل جملة دون أن نقف عنده وقفة خاصة). 27- (وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر، ولقبه امرؤ القيس، وكنيته أبو وهب، وأمه فاطمة بنت ربيعة، على هذا اتفقت الرواة، وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحاً. أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة، أو قد أراني مكرهاً على الاطمئنان إلى آراء الكثرة في المجالس النيابية وما يشبهها، ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ً!! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها. وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً!).
28- (أوضح دليل على ما نذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقاً -ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به- فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم).
29- (أليس من اليسير أن نفترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن (يقصد ابن محمد الأشعث الكندي)!! استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق، واستعاروا له اسم الملك الضليل، اتقاء لعمال بني أمية من ناحية، واستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟!).
30- (وأقل درس لهذا الشعر يقنعك، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي).
31- (وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصاص. فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس، وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها، ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان: الأولى: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. والثانية: ألا أنعم صباحاً أيها الطلل الباقي.
فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر، والاضطراب فيه بين، والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد. وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم، وهي أن امرأ القيس -إن صحت أحاديث الرواة- يمني، وشعره قرشي اللغة. لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما تتصل بذلك من قواعد الكلام، ونحن نعلم - كما قدمنا- أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز.
فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون: نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان، وكان أبوه ملكاً على بني أسد، وكانت أمه من بني تغلب، وكان مهلهل خاله، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان، ويعدل عن لغة اليمن، ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس، ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منحول).
32- (وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس، التي نشك فيها بشعر امرئ القيس، الذي نشك فيه. على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً. فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت، وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح، وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدمنا)
33- (وإذن فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن، مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمني. فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان، فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟!)
34- (وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملاً، ومختلق عليه اختلاقاً، حمل بعضه العرب أنفسهم، حمل بعضه الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني للهجرة!!)
35- (وأما أهل العراق في البصرة والكوفة فقد كانت كثرتهم يمنية ربعية، ومن المعقول أن يؤثروا شعر هذين الشاعرين، وأحدهما -فيما يقول الرواة- يمني خالص، هو امرؤ القيس، والآخر ربعي في نسبه، ولكن شعره في اليمنية كثير، وهو الأعشى. وربما لا يقف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.