هيلين كيلر" اسم أسطوري يتردد صداه في أنحاء العالم، اسم استطاع أن يقهر الإعاقة وينطلق نحو الابداع والانتاج والتميز.. تلك الفتاة العمياء.. الصماء.. البكماء.. وكأن كل آفات الدنيا وعاهاتها طوقت حياتها كما يطوق السوار المعصم، إلا أن تلك المبتلية بكل ذلك استطاعت أن تكون محاضرة أكاديمية في أشهر الجامعات. نعم.. ذلك ماحققته الفتاة الغارقة في ظلام وصمت مطبقين، وزادت على ذلك بأن أضحت مخترعة لأسلوب القراءة الشهير «البريل» وكأن لسان حالها يصرخ طالباً من كل أعمى ومعاق أن يتلمس عبر اختراعها طريق النور والعلم والإبداع. «هيلين كيلر» نبراس لكل معاق، تجسدت في إرادتها وتصميمها الرفض الواضح للمقولة الخرافية التي مفادها «العقل السليم في الجسم السليم»، «كيلر» أثبتت العكس وصدحت بأنه من الممكن أن يكون العقل سليماً والجسم مليئاً بالعاهات والإعاقة، وأن تلك الإعاقة لايمكن أن تقف حجر عثرة أمام ملء العقل بالعلم وتوظيف ماتبقى من حواس لتحقيق الإبداع والتفوق. كم نحن بأمس الحاجة لمفهوم كالذي آمنت به «كيلر» وغرسه في عقول أبنائنا ومن يحيطون بنا من معاقين ينصدمون يومياً بمجتمع يقصي المعاق ويحصره في زاوية مظلمة بعيدة عن التمتع بالحياة وتنمية الذات.. ربما كانت تلك هي النظرة الظلامية لغالبية المعاقين والتي تتجاهل أن المعاق ماهو إلا إنسان يشعر ويحس ويتمنى ويرنو ويحلم كما يحلم الآخرون. قبس من نور.. قد يكون الاستثناء.. حضن للمعاقين، تبرز فيه ابداعات لهم يجسدون فعلاً رفضهم للمقولة التاريخية العقل السليم في الجسم السليم.. إنهم معاقو معهد تنمية المعاقين، شباب تفوقوا على ذواتهم، وقهروا واقعهم وأمسوا أشخاصاً فاعلين منتجين، أفضل بكثير من أولئك الأشخاص سليمي الجسم، معاقي العقل والفكر. انتزاع الإبداع في قلب المعهد كانت مديرته الأستاذة ليلى العريقي توضح لنا أساليب انتزاع الإبداع وإبرازه عند الشباب والطلاب المعاقين الملتحقين بالمعهد، مؤكدة أن الإبداع موجود عند الطالب المعاق أكثر من غيره، معللة ذلك بأن المعاق يسعى دوماً لإثبات ذاته وتحقيق نجاحه حتى لايكون أسير الإعاقة. وأضافت إن المشكلة تكمن في القدرة على استخراج هذا الإبداع من كونه مكبوتاً في نفسية المعاق إلى حيز الوجود ومحاولة صقله وتطويره. وأشارت مديرة المعهد إلى أن تلك الأساليب تتفاوت وتتعدد وفقاً لطبيعة المعاق ذاته، بدءاً من الامكانات، والأدوات المساعدة في الوسائل والأساليب، وإنتهاءً بالكوادر التي تتعامل مع الطلاب المعاقين وفقاً للفروق الفردية والإلمام بأساليب التعليم الفعال التي تلعب دوراً هاماً في ذلك، بعكس الأساليب العادية في التدريس المليئة بالكبت الإبداعي ودفن المواهب. أساليب التعليم أساليب انتزاع أو استخراج الإبداع كما ذكرت من قبل تنوعت مابين التعليم عن طريق اللعب أو التعليم بالترفيه، والتعليم "بروح" الموسيقى واستخدام الأشياء العملية بالترافق مع التعليم النظري، كاستعمال الوسائل الايضاحية كالرسومات وغيرها، هذا كله ينمي عند الطلاب المعاقين المهارات المختلفة بشرط أن يكون هناك وقت مخصص لذلك، بحيث يكون هناك وقت لكل طالب أن يرسم، ويكون هناك من يتابعه من الكادر المتخصص في مجالات الإبداع المختلفة. كوادر متخصصة اشترطت الأستاذة ليلى العريقي في جزئية تدريس المعاقين أن يتحمل هذه المسئولية أشخاص متخصصون متفهمون لسلوكيات المعاقين وتصرفاتهم، كوادر متمكنة مهنياً وخبيرة في جوانب الإبداع المختلفة من سلوكيات ورسومات وغيرها. وركزت مديرة المعهد على جانب الرسومات لأن المعاقين عادة مايعبرون عن سلوكياتهم عبر الرسومات، سواء كانت تلك السلوكيات سوية أو غير ذلك، وبالتالي فإن التعليم والتوجيه يكون عبر نفس الأسلوب بالرسم، فمن الضروري أن يكون المعلم عارفاً بمقصد رسومات المعاق حتى يستطيع تصحيحها وتوجيه تلك الموهبة بالشكل السليم، وبذلك يمكننا اكتشاف المواهب والإبداعات المختلفة للطلاب المعاقين. أسهل الوسائل وعن أسباب تركيزها على تعليم المعاق أساليب الرسم المختلفة أجابت بأن الرسومات هي أسهل الوسائل للتواصل مع المعاقين وتوصيل المعلومة إليهم، فعلى سبيل المثال تكون هذه الطريقة هي الطريقة الأنسب بالنسبة للصم والبكم، لأنها بمثابة اللغة عندهم.. وهذه الفئة تتعلم أول ماتتعلم عن طريق الصور التي تقابلها كلمات تحمل معانيها. ولتشجيع الطلاب المعاقين على الإبداع فإنه يتم عمل مسابقات للرسم، ويتم اختيار أفضل صورة وتعليقها في رواق المعهد على خلفيات وبرية، هذا يشجع المعاقين قليلي الحماس على إخراج إمكاناتهم وابداعاتهم. مدرسون مبدعون لايجاد طالب مبدع أياً كان معاقاً أو سليماً وجب وجود مدرس مبدع ينقل ماعنده إلى الطالب، هذا ما أكدته الأستاذة ليلى العريقي التي قالت إن من أساسيات وسائل الايضاح هو أن يكون المدرس المتعامل مع هذه الفئة ممتلكاً لروح الابداع.. وهذا من المواصفات الضرورية للمدرس في المعاهد الخاصة، بحيث يلم بتقنية اكتشاف المبدعين.. فكلما كانت طريقة التواصل كاملة، كان الفهم بسهولة أكبر وأكثر وضوحاً وسرعة، وكلما كان المدرس متعاملاً مع الطلاب بطريقة واضحة تحتوي على ثنائية اللغة بينه وبين المعاق كان إظهار الإبداع أكثر إمكانية. وتتابع: إذا تمكن المدرس من امتلاك كل ذلك كان من السهل عليه أن يكتشف المجالات التي يتفوق ويبدع فيها الطالب، وكيفية تنمية الإبداع في تلك المجالات، بل وفي استطاعة أن يحل المشاكل النفسية التي يعاني منها الطالب المعاق. مدرس من نوع خاص واستمرت مديرة معهد المعاقين بالحديث عن مواصفات مفجر إبداعات المعاقين قائلة: يجب على المدرس أن يكون ذا قبول عند الطلاب المعاقين، ومن اللوازم الرئيسية أن يبني علاقات حب وود بينه وبين المعاق، لأن هذا الأخير نادراً مايتفاعل مع الآخرين نظراً لأنه يظن أن إعاقته تمنعه من ذلك، أو أن الآخرين لايتقبلونه بسببها، فبناء تلك العلاقات المشار إليها يعزز جانب استكشاف المواهب عند المعاقين بل ويشعرهم أنهم أشخاص طبيعيون وهذا مايدفعهم للعمل والإبداع. العقل السليم.. والجسم السليم في هذه الجزئية وعلاقتها مع الطالب أو الشخص المعاق عموماً تؤكد الأستاذة ليلى العريقي أن المقولة الشهيرة «العقل السليم في الجسم السليم» لاتتماشى مع الابداعات والمواهب المتميزة التي يمتلئ بها المعهد، فالطلاب المعاقون قد يكون عند أحدهم عجز في المشي أو فاقد لأحد أعضائه أو بصير أو أصم، لكن في المقابل يمتلك حاسة أخرى تعوض النقص أياً كان، ويستطيع من خلالها أن يتفوق على أولئك الأشخاص الذين يمتلكون أجساداً سليمة وعقولاً مجمدة. إنجازات المعاقين المعهد الذي تواجدنا فيه لمسنا وعن قرب فاعلية الطلاب المعاقين الملتحقين فيه، فمن خلال ورش الحرف المختلفة والمعارض اليدوية البديعة، والحفلات الفنية والفعاليات الثقافية والإبداعية، تملكنا اليقين من خلالها أن المعاق ماهو إلا إنسان عادي جداً، مثلنا تماماً، لاينقصه شيء، بل قد يكون أفضل من كثيرين من الاصحاء الذين أعطوا لعقولهم إجازة مفتوحة عن الإبداع والتفكير ولم يسعوا بتاتاً في خدمة ذواتهم أولاً ثم خدمة مجتمعهم ووطنهم بعد ذلك، فالمعاق لايملك من أمر إعاقته شيئاً، ولكن المجتمع ومحيطه هو من يتحمل مسئولية عدم تحفيزه وتشجيعه للنهوض، والتعامل مع الحياة بطبيعة مطلقة. هناك من المعاقين من تمثل له إعاقته تحدياً كبيراً يسعى لقهره وتحقيق الإنجاز.. ذلك هو ديدن طلاب معهد تنمية المعاقين الذين جعلوا من أنفسهم أفراداً إيجابيين فاعلين يخدمون مجتمعهم من خلال أعمال وحرف امتهنوها تلبية لرغبات النفس في تحقيق النجاح وقهر الذات. وتفوقوا كثيراً على أولئك المعاقين فكرياً... من محبي الخمول والعقول عن العمل والانتاج ممن يستوجب أن نصفهم بعديمي العقل السليم والجسم السليم معاً!! فقد يكون الجسم سليماً لكن العقل جد مريض.