هل هو العمر الفيزيولوجي أم النفسي؟ فأما العضوية فتسم الشيخوخة بثلاثة مظاهر سريعة: المفاصل والعيون والذاكرة، فأما المفاصل فتبدأ بالألم والطقطقة والتنكس، وأما العيون فتجف المدامع ويظهر الماء الأبيض والأزرق وتتكثف العدسة وتبدأ مشاكل الرؤية من الذباب الطائر والعتمات، وأما الذاكرة فتشتد الذاكرة البعيدة فهي حديد وتخف القريبة فيبدأ الوسواس الخناس، وهناك من إذا خرج من البيت عاد إليه ليتفقد موقد النار وصنابير المياه وهل الباب مغلقاً؟ إن حديث البيولوجيا مع تقدم العمر واضح لا يحتاج إلى ترجمان؛ فالقلب يضخ ب 75 % من طاقته مع الشيخوخة، وتنكمش الرئتان إلى 40 % من بث النفس، وتتراجع قوة قبضة اليد إلى 55 % من بطشها. وينكس وزن الدماغ إلى 56 % من كتلته. وتتراجع حليمات الذوق إلى 36 % من طعمها فلا يتلذذ المسن بطعام أو يهنأ بشراب. وتتراجع الطاقة الجنسية بشكل حاد مع سن ال 48 مع الرجال، وهو سن اليأس عند الرجال، كما أن انقطاع الطمث عند المرأة إيذان بدخول مرحلة جديدة، من هبات عاصفة الضهي، وتغير السن من الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة. ومن كان مصاباً بالسكري أصيب بالعنة وفقد الانتصاب بشكل أبكر. وهي كلها مؤشرات واضحة أن زمن الصبا ولى، فيصبح الزوجان صديقين بدون إغراءات جنسية، بعد أن ضوى الشباب، وذبل الجمال، وتجعد الجلد، وأطلت الصلعة، وفترت الهمة. وهو نداء أن وقت الإنجاب ولى ووقت الحكمة أقبل. مع هذا فالشيخوخة لا تقاس ولا يراهن عليها بمؤشرات البيولوجيا، وإنما بالشعور الداخلي هل بقي شيء للإنجاز أم لا؟ الشيخوخة إذن ليست تظاهرة فيزيائية ولكنها تجلي نفسي؛ فإذا شعر المرء أنه ليس من شيء للإنجاز كان معناه توقف الصيرورة. وكان معناه الموت قبل الموت. والموت هو الختم على كل صيرورة، ووقف لكل تحقق للإنسان. والإنجاز هو الارتباط بالحياة عبر صيرورة متدفقة. هكذا عاش بيكاسو يبدع في الرسم حتى سن 91. وبقي بافلوف يشرف على أبحاثه حتى سن 86. واستمر برتراند راسل الفيلسوف البريطاني يكتب في الفلسفة، ويقود المظاهرات، ويسجن من أجل السلام وهو في سن الثمانين. وأما يوسف بن تاشفين شيخ المرابطين فقد قاد معركة الزلاقة عام 1086م لإنقاذ الأندلس وهو شيخ في الثمانين وأخر سقوط الأندلس أربعة قرون حتى عام 1492م. وبقي عمر المختار يقاوم الاحتلال الإيطالي لمدة خمس وعشرين سنة حتى شنق وهو شيخ مهترىء المفاصل. وتم اغتيال غاندي العجوز داعية السلام وهو شيخ محدودب الظهر. وقاد الخميني ثورة في إيران وعمره فوق الثمانين، وتابع جان بياجييه أبحاثه في علم النفس الارتقائي حتى سن الشيخوخة المتأخرة. كما تابع الفيلسوف البريطاني برناردشو نكته الساخرة وهو يدلف إلى خريف العمر، وحقق اديناور معجزة ألمانيا الاقتصادية وهو الشيخ المسن. وعمَّر نيلز بور الفيزيائي الدانماركي إلى قريب من سن الخرف وهو الذي وضع الموديل الأول للذرة استناداً إلى مفاهيم ميكانيكا الكم، وبقت باربارا مك كلنتوك تعمل في فك الكود الوراثي فاكتشفت الطفرة، وعرفت أن الجينات ليست مثل حبات اللؤلؤ على جيد حسناء بل تغير مواقعها باستمرار. وبقت تشتغل سبعة أيام في الأسبوع لمدة 12 ساعة يوميا بعشق حتى وافتها المنية عجوزاً في التسعين. وبقي لفينهوك يعمل على المجهر إلى ما قبل موته بساعة. وتسلم كوبرنيكوس أول طبعة من كتابه حول حركة الأرض حول الشمس فزلزل الكنيسة، واكتحلت عيناه برؤية كتابه وهو في سكرات الموت. ونشرت مجلة الشبيجل الألمانية عن (هانس بيته) الذي كان أول من كشف أن النجوم تستهلك وقوداً نووياً وشارك في صناعة اول سلاح ذري ومات بعد نشاط علمي هائل بعمر 98 عاماً، وأنا أقرأ دوماً صفحة الوفيات في المجلة حيث تأتي بأعلام الناس مما يذكرني كتاب الأعلام للزركلي. الشيخوخة ليس أن يبلغ الإنسان الثمانين والتسعين ولكن شعوره الداخلي هل هناك مبرر للاستمرار في الحياة أم يجب أن يقدم استقالته منها؟ والحياة تأسن بدون تجديد وحركة. وهناك من هو في عمر الأربعين قد احدودب ظهره فتظنه ابن ثمانين سنة والعكس بالعكس فقد تجد ابن الثمانين وهو ينجب ويقفز مثل الشباب. كما عرضت القناة الألمانية أحد المناضلين ضد الجستابو وسجن 14 مرة وعذب ورأيناه في القناة وهو يمشي بدون عكازة وعمره 98 سنة؟ أما الموت فهو يطوي صفحة جيل عجز عن التجديد، وجمد عند حدود بعينها، وتحنط على شكل ميت، فتأتي صدمة الموت فتأخذ ذلك الجيل لتنجب من هو خير رشدا وأقرب رحما. يقول الفيزيائي (ماكس بلانك MAX PLANCK) الذي دشن أحد ثوابت الفيزياء الحديثة، وشق الطريق إلى ميكانيكا الكم، عن طريق كشف ظاهرة إشعاع الجسم الأسود، أنه لم ينل جائزة نوبل تقديراً لجهوده إلا بعد موت الجيل المعاصر له المنكر لإبداعه، وكان الرسول (ص) يراهن ليس على مشركي قريش؛ بل أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً. الموت كما نرى يشكل ضرورة وجودية لتحسين زخم الحياة. واعتبرت الآية «أن الله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وبهذا فإن الموت خلق كآلية (تحسين) في إنجاز الجنس البشري دوماً، أن يتقدم دوما نحو الأفضل، فلفظة أحسن تعني أن هناك دوماً ما هو أحسن. ورحلة التحسين بالحذف والإضافة لا تعرف التوقف.